شخصيات أندلسية: ابن غطّوس البَلَنْسيّ أشهر نُسَّاخُ المصاحف في بلاد الأندلس

يقدّم ابن غطّوس البلنسي نموذجًا فريدًا لناسخ المصاحف في الأندلس؛ إذ نذر ألا يكتب إلا القرآن الكريم، فصاغ من نذره منهجًا صارمًا في الضبط والمراجعة والإخراج، وجمع بين جمال الخط ودقة العلامات واتزان الزخرفة، حتى غدت نسخه مقصد الملوك وكبار القوم داخل الأندلس وخارجها.
تميّزت سيرته بمزيج نادر من الإخلاص المهني والذائقة الفنية: إعداد ورشة متقنة، رقوق وأحبار منتقاة، أقلام قصب مقصوصة بعناية، وصفحات موزونة الهوامش والسطر والفراغ، ونظام لوني واضح للضبط يعين على القراءة ويصون الأداء. بهذه العناصر تشكّلت “هوية بصرية” لمصاحفه: عناوين كوفية أندلسية مذهّبة، متون بخط أندلسي لين بمداد بني، وضبط ملوّن متّسق لا يطغى على النص ولا يُربك العين. وانتقلت هذه الهوية من عمل مفرد إلى مدرسة لها أثرها في بلنسية وما جاورها، فثبت اسمه في ذاكرة تاريخ المصحف واحدًا من رموزه الأبرز.

سيرة ابن غطّوس والتزام النذر
وُلد محمّد بن عبد الله بن محمّد بن علي بن مفرّج بن سهل الأنصاري في بلنسية، ويُكنّى أبا عبد الله، وعُرف بلقب ابن غطّوس. نشأ في أسرة امتهنت صناعة المصحف، فتلقّى مبادئ الخط على يد أبيه وتدرّب على يد أخيه الأكبر، غير أنه فاقهما إحكامًا وجودة، حتى عُدّ رأسًا في فنه زمنه. اتخذ قرارًا حاسمًا مبكرًا: ألا يكتب إلا القرآن الكريم، تنزيهًا للوحي عن الاختلاط بسائر النصوص، فصرف عمره للنسخ والتذهيب والمراجعة الدقيقة.
انعكس هذا الالتزام على سمعته المهنية، فصار اسمه قرينًا بالنسخة المحكمة التي يُوثق بضبطها وإخراجها. وتُروى عنه قصة أمانة شهيرة: بعد بيع نسخة، تذكّر علامة ضبط في غير موضعها، فسافر إلى صاحب المصحف، واستعاد النسخة وصحّح الموضع ثم أعادها إليه، في مثال ساطع على تحمّل المسؤولية بعد البيع، وإدراكه أن الأمانة في المصحف لا تقف عند حدود التسليم.
طالع أيضا: شخصيات أندلسية: أبو عبد الله الرباحي شاعر ونحوي أندلسي
فن النسخ والضبط الملون
استند عمله إلى ورشة معدّة بدقة: رقوق مختارة تراعي السماكة والنقاء، أحبار بتركيبات تضمن ثبات اللون وسلاسة الجريان وعدم النزّ في شقوق الرق، وأقلام قصب مقصوصة بدرجات سماكة مختلفة لتلبية احتياجات المتن والعناوين والزخرفة. في صفحة المصحف، يوازن بين النص والزخرفة عبر ضبط الهوامش وتوزيع السطور وعلامات الوقف وتحديد مسافات الكلمات، بحيث تتشكّل بنية بصرية متآلفة تسهّل القراءة وتحفظ الجمال.

في الخطوط، يكتب المتون بالخط الأندلسي اللين بمداد بني واضح، ويختار للعناوين الخط الكوفي الأندلسي المذهّب داخل أطر زخرفية هندسية ونباتية رشيقة. أما الضبط، فيتبنّى نظامًا لونيًا ثابتًا ذائعًا في مدرسته: الأزرق للازدواجيات الصوتية كالشدّة، ولعلامات الجزم والسكون، والأحمر لحركات الإعراب الرئيسة كالفتحة والضمة والكسرة، والأصفر أو الأخضر لتمييز الهمزات بحسب المواضع.
هذا النظام يخدم هدفًا مزدوجًا: وظيفة تعليمية تقلّل أخطاء الأداء وتيسر التهجّي، ووظيفة جمالية تمنح الصفحة تناغمًا لونيًا لا يزاحم النص ولا يشتت القارئ. ومع تراكم الخبرة، غدت هذه السمات عناصر تعريفية بمدرسة بلنسية التي ساهم في ترسيخها، حتى تعرّف النسخة من أول نظرة بخطّ متنها، وتذهيب عناوينها، ونسق ألوان ضبطها.
على صعيد القيمة، رُوي أن ابن غطّوس لم يكن يهدي مصحفه إلا بمائتي دينار، دلالة على مكانته وارتفاع الطلب وعلى ما يتطلبه العمل من وقت وأدوات وخبرة. وقد تنافس الملوك وكبار القوم على اقتناء نسخه، ومع ذلك فإن شيوعها في الأندلس وخارجها يؤكد غزارة إنتاجه عبر سنوات طويلة من الانقطاع. وعن حجم هذا الإنتاج، نُقل أنه كتب ألف مصحف؛ ويرجّح الدارسون أن الرواية تعبّر عن الكثرة والاستمرار أكثر من كونها إحصاءً حرفيًا، لكنها، في كل الأحوال، متسقة مع سمعته من حيث وفرة النسخ وانتشارها.
طالع أيضا: العرب لم يستعمروا إسبانيا بل عمَروها الجزء 8: لغز انتشار الإسلام في آسيا وشمال إفريقيا وإسبانيا
الإرث والنسخ المنسوبة
تشير فهارس وتغطيات ثقافية إلى وجود نسخ محفوظة ومنسوبة إلى ابن غطّوس في مؤسسات عربية، بينها نماذج مؤرّخة تحمل خصائص المدرسة الأندلسية في الخط والضبط والتذهيب، ما يدعم صورة التراجم عن غزارة إنتاجه وتأثيره. هذه الشواهد المادية تسند روايات السيرة وتربطها بعينات واقعية يمكن دراستها كوديكلوجيًا وباليوغرافيًا: نوع الرقّ، صيغ التذهيب، درجات المداد البني، نسق توزيع الزخرفة، شكل العناوين الكوفية، وضبط الألوان. بذلك تتضافر الأخبار والنماذج لتقدم صورة مكتملة عن مدرسة في صناعة المصحف، كان ابن غطّوس أحد أعمدتها الكبار.

وفاته
توفي ابن غطّوس في بلنسية نحو سنة 610 هـ/1213 م، وبقي أثره حاضرًا في مدرسة بلنسية، يمكن تتبّعه في ثلاثية واضحة: منهج ضبط ملوّن متّسق ييسّر الأداء، وعناوين كوفية أندلسية مذهّبة تمنح الصفحة توقيعها، ومتون بالخط الأندلسي اللين تراعي وضوح القراءة وتوازن التكوين. وقد حُفظت هذه الثلاثية في أعمال تلامذة المدرسة ومن سار على نهجها، كما انعكست في الذائقة الأندلسية العريضة التي مزجت بين جمال العرض ودقة الأداء.
وهكذا انتقل اسم ابن غطّوس من صانع نسخة إلى مُؤسِّس أسلوب، ومن حرفيّ مبتكر إلى مرجع في تاريخ المصحف الأندلسي، يلتقي عند سيرته الفنّ والدين والمهنة على صعيد واحد.
إسبانيا بالعربي.

