ماذا تعرف عن الموريسكيين الموجودين في تونس الآن؟

لم تمحَ بعد آخر آثار أقدام الموريسكيين من على أرض تونس كما يقول البعض، حتى بعد أن قاموا بتغيير أسمائهم عند استقرارهم فيها، ظلّت أسماء عائلاتهم على ماهي عليه، وإلى اليوم نجد هذه الألقاب بين العائلات التونسية على غرار، بلانكو وبوريقة وابن عاشور والجورشي وبكيل وماركو ورشيكو وصحابو وكشتيلو وكريستو وكوندي وقسطلي وغيرها.

تاريخ الموريسكيين في تونس يعد جزءا من تاريخ البلاد، ويتجلّى الوجود الأندلسي إلى الآن في الحياة اليومية للتونسي حيث ترى المعمار ذا الطابع الأندلسي والحلوى والموسيقى الأندلسية، وأيضًا الملابس، ولم تكن علاقة الموريسكيين بسكان تونس الأصليين علاقة جوار فقط بل تطورت لتصبح علاقة نسب فاختلطت الدماء ببعضها واليوم أصبح الموريسكيون تونسيين بألقاب إسبانية تخط بحروف عربية.

كما تعلقت أرواح قطاع عريض من الموريسكيين بالدين الاسلامي وتشبّثوا به وماتوا عليه فقد اختاروا القرى التونسية الصّغيرة والعائمة فوق الماء ليجعلوها مستقرًّا لهم وانتظّموا على هيئة الجماعات المعمول بها في الأندلس، وطبّقوا بها نفس نظام الرئاسة.

وأقام الموريسكيون على ضفاف نهر مجردة، وفي السهول الشمالية الممتدة من بنزرت إلى العاصمة تونس، ونابل وكذلك زغوان، بجوار جبل زعوان نبع تونس الذي لايجف ومازالوا يقطنوها إلى اليوم ولم تزل خصائصهم العمرانية والمعمارية قائمة هناك وخاصة في تستور، وفي قلعة الأندلس، وغرومباليا وفي بنزرت حيث يوجد إلى اليوم (حي الأندلس).

وينتسب الموريسكيون إلى ميدان طبربة بمحافظة منوبة وهو ذو طابع إسباني كما توجد نافورات بمختلف المدن والقرى التي كانت مستقرا لهم. وقد ساعدتهم جغرافية الأمكنة على إنجاز مشاريع تطوير طرق الري.

وصول الموريسكيين إلى تونس وبداية عصر جديد

وبحسب الوثائق المتوفرة  لدى المركز التونسي (دراسات الأندلس وحوار الحضارات)، فقد كان لويس ثاباتا أول شيخ للموريسكيين، وخلفه بعدها بعقود، التاجر الكبير مصطفى دي كارديناس حيث كانت للموريسكيين مؤسساتهم الخيرية الخاصة بهم ومدرسة عليا لشباب الموريسكيين.

ويذكر المؤرخون أن الموريسكيون الذين قدموا من منطقة وادي الإبرو، ومن القشتالتين القديمة والحديثة لا يتحدثون العربية، كما كانوا يدعون بأسماء إسبانية وقد حصل الموريسكيون على تصريح بأن يتلقوا التعليم الإسلامي باللغة الإسبانية، حتى يمكنهم مواصلة الكتابة بها، وثمة مخطوطات موريسكية تونسية كتبت بالإسبانية مازالت محفوظة إلى اليوم، وتتعلق أساسًا بمواضيع دينية ذات صلة بالأخلاق، وكذلك بمواضيع شعرية وأدبية.

وكما هو مدون في الوثائق التاريخية، فإن اللغة الإسبانية في الكتابة تزامن وجودها مع قدوم الجيل الأول من المهاجرين فحسب، فقد قامت السلطات التونسية بإغلاق المدارس التي يتم التعليم فيها باللغة الإسبانية، كما أصدرت أوامرها بأن يتلقى الأطفال الموريسكيون تعليمهم في المدارس العربية، حيث توقف استخدام اللغة الإسبانية في الحديث الشفوي فيما بينهم في منتصف القرن الثامن عشر ميلادي.

والموريسكي هو لفظ أطلقه الاسبان على العرب المسلمين الذين أخفوا دينهم قسرًا وتظاهروا بالتعميد فلم يكونوا مسلمين أمام العلن، ولا مسيحيين بينهم وبين أنفسهم، وهي كلمة إسبانية اشتهر بها هؤلاء سنة 1524 ميلادي، وذلك بحسب الباحث التونسي عبد الجليل التميمي.

وتعود هجرة الموريسكيين نحو تونس إلى سنة 1609م فقد قام الحاكم الإسباني آنذاك فيليب الثّالث بتخيّير هؤلاء بين أمرين، إمّا التنصّر أو التهجير من البلاد مع ترك المال والعقارات، فرفض أغلبهم الارتداد عن الإسلام وأجبروا على التهجير، وقامت السّفن الإسبانيّة بترحيلهم إلى بلاد المغرب وبلغ عدد المهاجرين في القرن الـ17 أكثر من 80 ألف مهاجر وصلوا على دفعات متتالية، فأوّل من وصل من هذه الدّفعات العلماء، يليهم التجّار ويليهم الفلاّحون والصّناعيّون.

ويذكر المؤرخون تدخل السلطان العثماني أحمد الأول حيث طلب من السلطات التركية في تونس أن تستقبل الموريسكيين المطرودين. وقام والي تونس عثمان داي بإعفاء السفن التي كانت تقل الموريسكيين من رسوم الموانئ، ثم منح الموريسكيين إعفاءات ضريبية، وأعطاهم الأراضي اللازمة للإقامة وقدم لهم الحماية على الصعيد الرسمي.

شكل الموريسكيون عنصرًا أساسيًا في تطور الإيالة التونسية وازدهارها خلال العصر العثماني وقد تخصصوا في الأنشطة البحرية، كما امتهنوا الزراعة والتجارة، ومارسوا الحرف الحضرية وتركوا بصمات واضحة في فن العمارة، وكذلك جميع الفنون المتعلقة بصناعة الخزف والنسيج، كما اهتموا بصناعة الحرير، والتطريز، واحتكروا تصنيع الشاشية الحمراء وتسويقها، والشاشية هي غطاء الرأس الذي يتميز به التونسيون.

وجلب الموريسكيون معهم التقنيات والمعارف التي كانت متطورة في شبة الجزيرة الأيبيرية على غرار فنون الحرب، تحديدًا سلاح المدفعية  والأسلحة النارية، وابتكروا تقنيات جديدة من فنون العمارة.

الموسيقى.. وما تبقى للتونسيين من أجدادهم الموريسكيين

المالوف مصطلح يطلق على الموسيقى الكلاسيكية بالمغرب العربي بقسميه الدنيوي والديني المتصل بمدائح الطرق الصوفية، حيث كانت بداية نشأته ببلاد الأندلس، وكثيرًا ما ارتبط هذا الأخير بالمدائح، كما لا تتقيد صياغته بالأوزان أوالقوافي، وبحسب الباحثين فإن تداوله لم يمتد إلى مصر وبلاد الشام، بل استقر في المغرب العربي.

وقال الباحث التونسي فتحي العابد، إن المالوف يعتبر جزءً من الموورث الغنائي بنصوصه الأدبية، وأوزانه الإيقاعية، ومقاماته الموسيقية التي ورثتها بلدان الشمال الإفريقي عن الأندلس، وتتكون مادتها النظمية من الشعر والموشحات والآزجال، والدوبيت مع ما أضيف لها من إضافات لحنية أو نظمية محلية، وما استعاروه من نصوص وألحان مشرقية.

وتختلف تسميات المالوف الاندلسي من منطقة مغاربية إلى أخرى فهو الآلة في المغرب الأقصى، والغرناطي في كل من وجدة وسلا وتلمسان ونواحي غرب الجزائر، والصنعة في العاصمة الجزائرية، والمالوف في قسنطينة وتونس وليبيا.

ويعتبر المالوف التونسي بمثابة عصارة للموروث الحضاري الخاص بـ«إفريقية» ولا يختلف اثنان حول المكانة المهمة التي يحظى بها المالوف في الموروث الموسيقي الشعبي التونسي ويضم المالوف سائر أنواع الغناء التقليدي والمتقن كالموشح ، والموشح هو فن شعري مستحدث، يختلف عن ضروب الشعر الغنائي العربي في أمور عدة، وذلك بالتزامه بقواعد معينة في التقنية، وباستعماله اللغة الدارجة أو الأعجمية في خرجته، ثم باتصاله القوي بالغناء.

ويجمع المالوف فحوى باقات وبدائع من أبرز الأشعار، والموشحات والأزجال ومن أشهر شيوخ المالوف في تونس نذكر على سبيل المثال وليس الحصر، خميس الترنان وأحمد الوافي وغيرهم.

ويتطلب اداء المالوف استعمال مجموعة من الآلات الموسيقة كالغيطة وهي آلة نفخية وآلات رقية من جلود الحيوانات منها: النوبة، وتستعمل في الموكب المولدي ويتم تعويضها بـ»الدربوكة» والطار أو البندير وآلة النقرة داخل مقامات الأولياء الصالحين.

والمعهد الرشيدي، وريث الجمعية الرشيدية هو أول معهد موسيقي عربي في تونس والمغرب العربي يرسي دعائم التكوين الموسيقي الأكاديمي للمالوف، ولكن سبقه التلقين الشفاهي الذي كان يعد من أهم طرق التعليم المعتمدة لحفظ التراث الموسيقى التونسي والعربي بمختلف أصنافه وتأسست الرشيدية سنة 1934 على يد ثلة من المثقفين.

الطابع المعماري الأندلسي في تونس

إن الحضور الأندلسي يظهر اليوم في عديد المعالم المعمارية وسافر هذا الأسلوب إلى تونس بالتزامن مع عملية التهجير القسرية للموريسكيين إلى البلاد التونسية حيث أحدثوا تغييرات كبيرة على الطراز المعماري والتي مازالت معالمها حاضرة إلى حد اليوم، وتتجلى أساسًا في الزخارف الفنية التي تحمل ملامح الفن المعماري الأندلسي داخل منازلها وقصورها وجدرانها وأبوابها وجوامعها وخاصة في المدن التي نزل بها الموريسكيون بالعاصمة تونس وتستور من محافظة باجة الواقعة بالشمال الغربي للبلاد التونسية.

لقد ترك الأندلسيون طابعًا فنيًا ومعماريًا غنيًا من أبرز مابقي منه  بعض الديار الموجودة في المدينة العتيقة بالعاصمة تونس وبعض أبوابها كباب بنات وباب الخضراء على غرار عدد مهم من الجوامع والزوايا والمدارس والحمامات، مثل الواجهة الشرقية من جامع الزيتونة وزاوية سيدي قاسم الزليجي وغيرها من المعالم الصامدة إلى حد اليوم أمام الزمن.

تستور مدينة تونسية مغروسة في قلب العصر الأندلسي

تعد مدينة تستور التونسية الواقعة شمال تونس من أبرز الشواهد المعاصرة على استقرار الأندلسيين وازدهار حياتهم في ربوع البلاد التونسية، ومع قدوم الموريسكيون بعد أن طردوا من الأندلس عادت الحياة إلى تستور وعاد إليها بريقها من جديد وشيدت المباني بأنامل أندلسية؛ فكان العمران منظمًا حيث أنشئت الأنهج والحارات، وتمت تغطية سطوح المنازل بالقرميد الأحمر، وبقي موريسكيو تستور على عاداتهم وتقاليدهم التي صمد عديد منها إلى اليوم، وتم توارثه عبر الأجيال.

الزراعة والحرف الأندلسية – التونسية تقف صامدة في وجه الزمن

بعد قدومهم من الأندلس جلب الموريسكيون معهم صناعات كثيرة وحرفًا متعددة، فعلاوة على صناعة المرقوم الإسباني اشتهر الاندلسيون في تونس بحياكة «القشابية»، وهي حرف جعلت سكان تستور وسائر القرى الأندلسية التونسية على غرار «مجاز الباب» و»سليمان» و «قلعة الأندلس» و«رأس الجبل» و«العالية» و«رفراف» وغيرها تنفتح على محيطها التونسي الجديد والتونسيين بعدما انعزلوا على حالهم لسنوات عديدة.

وقام عثمان داي بحث الأندلسيين على صناعة الشّاشيّة، حيث درت عليهم ربحًا وفيرًا، إضافة إلى ظهور صناعات جديدة نقلوها معهم كصناعة الخزف والجليز والقرميد.

وتتميز القرى الأندلسية في تونس بزراعات سقوية متطورة استفادت من المزج بين الموروثين التونسي القديم والأندلسي، حيث عرفت هذه الأخيرة نهضة زراعية وتطورت فيها علوم الزراعة حيث غرست على أرضها الأشجار المثمرة؛ نظرًا لخصوبتها وقربها من منابع المياه، فأغلب المناطق التي سكنها الأندلسيون في تونس تنام على أسرة من ماء، سواء تعلق الأمر بمنطقة وادي مجردة في الشمال الغربي أو سواحل ولاية بنزرت أو حتى في منطقة الوطن القبلي.

ونقل الموريسكيون طرق الري والمنتجات الزراعية الجديدة، حيث أدخلوا إلى تونس، وإلى شمال إفريقيا بشكل عام، منتجات زراعية منها نبات الصبار الهندي وزهرة النسري الموجودة اليوم بكثافة في مدينة زغوان.

والنسري أو النسرين هي زهرة بخمس وريقات ناصعة البياض بقلب أصفر تفوح منه رائحة عطرة، وتعد هذه النبتة الزهرة المميزة لمدينة زغوان، حيث توارث الأهالي زراعتها منذ قدوم الأندلسيين خلال القرن السابع عشر واستقرارهم بالمدينة.

الحلوى الأندلسية بأنامل تونسية

وفي سياق متصل، جلب الموريسكيون معهم في هجراتهم المتتالية من غرناطة إلى تونس والتي تواصلت على مدى ثلاثة قرون عادات كثيرة من أهمها صناعة الحلوى.

ويذكر أن الأندلسيين أخذوا معهم في رحيلهم هذا العديد من أنواع المكسرات كاللوز والجوز والفستق، وهي لم تكن آنذاك معروفة في تونس، وباتت اليوم التركيبة الأساسية للحلويات التقليدية التونسية، ومن أشهر أنواع الحلوى الأندلسية التي أصبحت تونسية نذكر كعك الورقة المحشور بعجين اللوز، وهي حلويات بيضاء اللون ذات شكل دائري أدخلتها النساء الأندلسيات إلى تونس بطريقة طريفة، وتقول الأسطورة: إن الأندلسيات في تلك المرة لم يحشوه لوزًا، بل وضعن فيه مصوغهن لتهريبه بعيدًا عن أعين الإسبان.

كما جلب الأندلسيون معهم كل الحلويات المصنوعة من عجين الورق المحشوة بالمكسرات، فمنها تلك التي تأخذ أشكال بعض أنواع الفواكه على غرار التفاح والفراولة والإجاص ومنها القطائف، التي تصنع من عجين على شكل شعيرات متشابكة وبإضافة المكسرات والقطر، وأيضًا جلبوا الصمصة هي كذلك أندلسية الأصل تصنع من ورق العجين وتحشى بالسمسم المطحون وتأخذ شكل مثلث هو في الأصل شكل حافظة نقود تعمدت الأندلسيات صنعه على هذا النحو؛ ليتمكن من تهريب نقودهن داخله، بحسب ما يروى شعبيًا.

ومن عبد الرحمن ابن خلدون مرورًا بالشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، وصولًا إلى أصغر طفل تونسي من أصول أندلسية، كون الموريسكيون تاريخًا ثقافيا علميّا مؤثّرًا، وإضافة جوهرية إلى الموروث الحضاري والثقافي للبلاد التونسية.

المصدر: ساسة بوست.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *