من مدريد إلى اليونان إلى المكسيك.. أربع ثورات غربية شارك العرب في قمعها

في متحف “ديل برادو” بمدريد، لوحة بعنوان “الثالث من مايو 1808” للفنان الإسباني غويا، تصوّر مشهد إعدام إسبانيين شاركوا في الثورة ضد الاحتلال الفرنسي أثناء حكم نابليون.

وفي لوحة ثانية في المتحف نفسه، وأيضاً للفنان غويا، تحمل اسم “الثاني من مايو”، يظهر جنود بملامح وأزياء شرقية، يقمعون ثورة شعب مدريد، وهم على صهوات جيادهم. هؤلاء “مماليك نابليون” الذين شاركوا في قمع ثورة مدريد 1808، في أول حادثة لثورة غربية يشارك عرب ومسلمون في قمعها في العصر الحديث.

ولكنها ليست الأخيرة. فبعد عدة سنوات سيشارك الجيش المصري في قمع “ثورة اليونان”، ثم في قمع ثورة الشعب المكسيكي ضد الإمبراطور ماكسميليان الأول المدعوم من فرنسا. وعام 1936 سيعود المسلمون مرة أخرى إلى مدريد، للقتال مع الجنرال “فرانكو” ضد الجمهوريين.

مَن هم مماليك نابليون؟

يذكر فيصل جلول في مقال أن نابليون بونابرت جنّد عدداً من المماليك المتمرّدين على قادتهم، ولم يكن يتجاوز عددهم المئة، وعادوا مع فلول الحملة الفرنسية المهزومة إلى مارسيليا عام 1801. وقد جرى تنظيمهم في فصيلة بقيادة الجنرال “راب” بعد أن أُضيف إليهم عددٌ من الجورجيين والأقباط والسوريين والشراكسة، وصاروا يُعرفون باسم “مماليك الجمهورية” وبلغ عددهم 250 شخصاً، اشتركوا في معظم حروب نابليون.

وفي عام 1807 غزا نابليون إسبانيا، وخلع الأسرة الحاكمة عن العرش، وأعلن أخاه “جوزيف نابليون” ملكاً عليها. ولكن الشعب الإسباني لم يستسلم للاحتلال الفرنسي، وانتفض ضده حتى جلائه عام 1814. ويذكر روبرت هيوز في كتابه “غويا” أنه في الثاني من مايو 1808، اقتاد الفرنسيون آخر مَن تبقى من الأسرة المالكة الإسبانية بغرض إرسالهم إلى المنفى، وكانت القوات الفرنسية تضم مجموعة من مماليك الجمهورية، ما دفع بالناس إلى الهتاف بحياة الأسرة المالكة، وسقوط نابليون. ثم اندلعت انتفاضة في ساحة بويترا ديل سول، قرب القصر في مدريد، ودقت أجراس الكنائس تحرض السكان على الثورة، ما أدى إلى مهاجمة السكان للفرنسيين بما يملكونه من أسلحة بيضاء ونارية، فسقط عدد من المماليك قتلى في الهجوم الأول، ثم صدرت لهم الأوامر بقمع الثورة، فانطلقوا يقتلون كل مَن أشتُبه في مشاركته فيها. ويري فيصل جلول في المقال المذكور أنّ أحد أسباب التمرد يتصل بالمماليك: ذلك أن المتمردين راعهم أن تخضع بلادهم لجنود فرنسيين، بينهم عدد من المسلمين، وهم الذين طردوا مسلمي الأندلس. وتجمع المصادر الفرنسية على إحصاء 18 مملوكاً فقط على قيد الحياة بعد هزيمة واترلو عام 1814، وقد توجه هؤلاء إثر المعركة إلى مارسيليا لزيارة أُسرهم، لكن السكان الغاضبين جراء الهزيمة بادروا إلى قتلهم جميعاً والتمثيل بجثثهم في شوارع المدينة. واشتهر من مماليك نابليون “رستم” الذي تزوج فرنسية، وتخلى عن نابليون في أواخر حياته، وكتب مذكراته ونشرها. ورافق نابليون في منفاه في سانت هيلانة مملوك آخر يدعى علي، ظل معه حتى وفاته، وأوصى نابليون له بجزء من ثروته، وكتبه.

ثورة اليونان ومشاركة الجيش المصري

يذكر عبد الرحمن الرافعي في كتابه “عصر محمد علي” تفصيلاً للتدخل العسكري المصري لقمع ثورة اليونان ضد الحكم التركي. فقد اندلعت الثورة عام 1821 للمطالبة بالاستقلال، ونجح العثمانيون في هزيمة الثوار في مناطق رومانيا، لكن الأوضاع تفجّرت في شبه جزيرة المورة (بيلوبونيز).

وعجز الأتراك عن إخماد الثورة، ومنوا بهزائم عديدة، وتعرّض الأسطول التركي لهزائم فادحة على يد أسطول الثوار، ما دفع بالسلطان محمود الثاني إلى طلب المساعدة من والي مصر محمد علي، عام 1824. واستجاب الأخير وجرّد حملات عسكرية متتالية بدأت بالهجوم على جزيرة كريت وقبرص، وصولاً إلى المورة، حيث نزلت القوات البرية بقيادة إبراهيم باشا، لتبدأ سلسلة من المعارك ضد الثوار، كان النصر فيها حليف المصريين، ما دفع بريطانيا وفرنسا وروسيا إلى إرسال أساطيلها الحربية لمحاصرة الأسطولين المصري والتركي في نافارين. واضطر إبراهيم باشا للقبول بهدنة مع الحلفاء الأوروبيين ريثما تأتيه التعليمات من مصر وإسطنبول رداً على مطالب الحلفاء بمنح اليونان الاستقلال تحت السيادة التركية، ومال محمد علي للقبول بالمطالب تجنباً لقتال الحلفاء، خشيةً على الجيش والأسطول، ولكن السلطنة تعنّتت فاضطر للقبول بموقف السلطان. وهاجمت الأساطيل الغربية أسطولي مصر وتركيا، وأنزلت بهما هزيمة شديدة.

ويرى الرافعي أن السلطان العثماني طلب إشراك محمد على لسببين: أولهما الاستفادة من قوة مصر لإخماد ثورة اليونان، والثاني إضعاف محمد علي بالحرب وشغله عن أية أطماع توسعية. ويذكر سليم حسن في كتابه “مصر منذ الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر” أن إبراهيم باشا عامل أسرى الثوار والمدن التي فتحها بشكل طيب، لكن حين عاودوا الثورة أسر منهم خمسة آلاف، وأرسلهم إلى مصر فبيعوا رقيقاً في أسواقها، ما أثار حنق الدول الأوروبية وحفّز تدخلها بحرياً وبرياً. وانتهت الحرب بتكبّد الجيش المصري 30 ألف جندي، وفقدان الأسطول الحربي، ونفقات بلغت 775 ألف جنيه، وفقاً لما ذكره الرافعي.

الأورطة المصرية السودانية

عام 1861، تدخلت فرنسا وبريطانيا وإسبانيا عسكرياً في المكسيك، وأسقطت الجمهورية بزعامة الرئيس خواريز متذرعةً بأن المكسيك تسيء معاملة رعاياها. بينما يذكر الأمير عمر طوسون في كتابه “بطولة الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك” أن الدافع الحقيقي للحرب كان رغبة الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث في إقامة حكومة ملكية كاثوليكية في المكسيك تنافس الولايات المتحدة، والطمع بامتيازات تجارية.

وبدأت الحرب عام 1861 وانتهت عام 1867 بهزيمة فرنسا والإمبراطورية المكسيكية الثانية التي أنشأتها على أنقاض الجمهورية. وترأس هذه الإمبراطورية الأرشيدوق” فرديناند ماكسيمليان” من النمسا الذي حظي بدعم من رجال الدين الكاثوليك والمحافظين، قبل أن يستسلم ويُحاكَم ويُعدم في 19 يونيو 1867. ويرى طوسون أن الخلاف لم يلبث أن دبّ بين الدول الثلاث، فانسحبت بريطانيا وإسبانيا في أبريل 1862 ليتركا فرنسا وحدها في الحرب ضد المقاومة الشعبية التي نظمها الجمهوريون ضد عودة الحكم الإمبراطوري. وعام 1863 طلب نابليون الثالث من حاكم مصر سعيد باشا العون العسكري، نظراً لامتلاك مصر قوات يمكنها العمل في المناخ الصحراوي الحار، فأرسل سعيد باشا “أورطة عسكرية” مكوّنة من 453 جندياً وضابطاً بقيادة البكباشي جبرة الله محمد أفندي. ويورد عبد الله حسين في كتابه “السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية” تقارير فرنسية عن بطولات الأورطة في المكسيك. وذكر أحدها عن صد هجوم للثوار على قطار يحمل جنوداً ومؤناً، التالي: “أبلى الجنود السبعة المصريون في هذه الموقعة أعظم بلاء، وثبتوا ثباتاً مدهشاً فوق التصور، والكل كان موضع إعجاب الضباط والعساكر الذين حاربوا جنباً إلى جنب”. وخاضت الأورطة ما يقرب من 48 معركة ضد الثوار الجمهوريين كان النصر فيها حليفها، وفقدت 140 من أفرادها بنهاية الحرب، من بينهم قائدهم جبرة الله. ومُنح أفرادها رواتب مجزية من حكومات مصر وفرنسا والمكسيك، كما تمت ترقية العائدين إلى مصر، ومنح أغلبهم أوسمة من مصر وفرنسا، ومنحت أسر القتلى تعويضات.

مغاربة فرانكو وقمع الثورة الإسبانية؟

عام 1936، تمرّد عدد من ضباط الجيش الإسباني ضد الحكومة الجمهورية بقيادة مانويل أزانيا، ما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، بين معسكر الجمهوريين الذي ضم اليساريين والحكومة المنتخبة، ومعسكر القوميين الذي ضم الجنرالات والكنيسة وملاك الأراضي. وقاد الجنرال فرانسيسكو فرانكو القوميين زاحفاً من الريف المغربي الذي كان خاضعاً للاستعمار الإسباني، في حرب استمرت حتى عام 1939، وشارك فيها مغربيون كثر ضمن صفوف القوميين، عُرفوا بمغاربة فرانكو.

وأطلق الإسبان على الجنود المغاربة تسمية “المورو”، التي تحمل إرثاً من الكراهية الدينية للمسلمين. وتقول ماريا روسا دي مادارياغا في كتابها “مغاربة في خدمة فرانكو”: “كانت مشاركة الجيوش المغربية، خلال الحرب الأهلية سنة 1936، إلى جانب فرانكو، في رأيي، من بين العوامل التي عملت على تأجيج وترسيخ الصورة المتجذرة سلفاً في المتخيل الجماعي لدى الشعب الإسباني. وبقيت تلك النظرة المرعبة ملتهبة مع مرور الزمن، وواكبت المواجهات بين المسيحية والإسلام، بالإضافة إلى الأحداث الحربية المتتالية بعد ذلك في أواسط القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين”. وتوضح دي مادارياغا أن مسلسل تجنيد المغاربة الريفيين بدأ بين عامي 1908 و1911، وارتفعت نسبتهم خلال السنوات التالية، وأغلبهم كانوا من الفارين من الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى، ثم زاد العدد خلال قمع الثورة عام 1936 ليصل إلى 60 ألف مقاتل. وتناول فيلم وثائقي بعنوان “المنسيون” قصة تجنيد هؤلاء، وقال إن جيش فرانكو استخدم الدعاية الدينية عن الذهاب لمحاربة الملاحدة الماركسيين الذين يمنعون الصلاة. هذا عدا تقديم إغراءات مادية للمجنّدين.

وتشير مصادر إلى أن الجيش الإسباني كان يقتل مَن يرفضون التجنيد أو يهددهم ويأخذهم عنوة. وتورطت بعض كتائب المغاربة في أعمال شنيعة بحق الإسبان. وفي تقديم لكتاب “الهولوكوست الإسباني” لبول بريستون (نشره موقع “شبكة أخبار الناظور والريف”) جاء أنه “كان الاغتصاب المنظم الذي تقوم به كتائب القوات المغربية جزءاً من خطة لبث الإرهاب. فبعد الاستيلاء على أية مدينة أو قرية، تمنح الكتائب (بقيادة المارشال محمد أمزيان) ساعتين للقيام خلالها بالنهب والاغتصاب”. ويبيّن عزيز الساطوري الظلم الذي لحق بالمغاربة في مقال نشر في مجلة الاتحاد الاشتراكي: “أثمرت هذه الجهود خلاصات قيمة أثبتت مدى الحيف التاريخي الذي لحق بحوالي 150 ألف مقاتل مغربي، زج بهم في أتون حرب شرسة بين اليمين بزعامة فرانكو واليسار الجمهوري، حيث تؤكد الوثائق التاريخية أن الآلاف منهم كانوا أطفالاً قاصرين”. ويحفل وثائقي “المنسيون” بشهادات لقدامى مغاربة فرانكو، ولأسر القتلى حول المأساة التي عاشها المغاربة، والتنكر الإسباني لهم. ويكتب الساطوري في مقاله المذكور “مما زاد من مأساة هؤلاء الضحايا أن اليمين الإسباني تنكر لهم بمجرد أن وضعت الحرب أوزارها، رغم أن الحقائق التاريخية تؤكد أن مشاركة المقاتلين المغاربة رجحت كفة فرانكو خلال الحرب، كما أن اليسار ناصبهم العداء معتبراً أنهم كانوا وراء انتصار الدكتاتورية التي حكمت إسبانيا لعدة عقود”.

المصدر: رصيف 22.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *