الرايس حميدو: قصة أميرال جزائري أسست أمريكا سلاح «المارينز» لمحاربته
في الفاصل المائي بين قارتي إفريقيا وأوروبا؛ كتب الأسطول البحري الجزائري فصولًا طويلة من الهيمنة على البحار امتدت لعقود طويلة؛ الأسطول القوي الذي لم تصمد أمامه سفن أوروبا الحربية والأمريكية التي كانت تجرُّ تباعًا إلى الموانئ الجزائرية.
تعاقب على قيادة ذلك الأسطول؛ العشرات من الرياس – كما يسمون في القاموس العسكري العثماني- ولعلَّ أشهرهم الإخوة بربروس وصالح باي والعلج علي، ومراد بيري رايس وأخيرًا الرايس حميدو، الذي كان آخر أقوى الرياس الذين قادوا الأسطول الجزائري إلى المجد قبل أن ينهار في «معركة نافارين» البحرية سنة 1827، وتتعرض الجزائر إلى الغزو والاحتلال الفرنسي لأزيد من قرن. في هذا التقرير نستعرض سويًّا سيرة آخر قائد للبحرية الجزائرية فرض على أمريكا الدفع لعبور المتوسط..
الرايس حميدو من حرفة الخياطة إلى ركوب البحار
في الجزائر سنة 1770م، وتحديدًا في حي القصبة؛ ولد طفلٌ اسمه محمد بن علي؛ سيُلقب فيما بعد بـ«الرايس حميدو» من أسرة جزائرية بسيطة، لا يعرف منها سوى أبيه علي الذي كان يشتغل خياطًا. وكعادة غالبية الآباء الجزائريين في ذلك الوقت، كان الوالد علي يلتمس لابنه محمد مستقبلًا في الخياطة؛ فهيأه لذلك منذ سن العاشرة بإرساله إلى أشهر مفصليّ البزَّات بالجزائر لتعلم الحرفة.
أحلام الطفل حميدو – وهو تدليل لاسم محمد- حسب المؤرخ الجزائري علي تابليت الذي كتب سيرة الرايس حميدو في كتاب «الرايس حميدو أميرال البحرية الجزائرية 1770-1815»؛ كانت أوسع من أن تُحصر في ورشة للخياطة، فكان يستغل فترة ذهابه لتعلم الخياطة ويهرب إلى ميناء الجزائر لمشاهدة السفن الراسية عليه؛ واستقبال البحارة الجزائريين والعثمانيين والسماع لقصصهم ومغامراتهم في البحار.
أعجب الطفل محمد علي بحياة البحر ومغامراته التي كان يسمعها من أفواه البحارة، فقرر أن يترك الخياطة ويشتغل بحارًا في سفينة أحد البحارة الجزائريين، وكان في البداية يقول أنّ كل ما يريده من وراء صعود السفينة وركوبه البحر، مجرد تنشيط ركبتيه اللتين أصابهما الفشل بفعل وضعيتهما غير المريحة أثناء الخياطة، بحسب ما ذكره المؤرخ الجزائري علي تابليت.
في وقتٍ وجيز استطاع الرايس حميدو التدرب وإتقان فنون البحرية، ولفت أنظار البحارة ومن ورائهم قادة البحرية الجزائرية، واستطاع بدهائه وذكائه الحربي وقدرته العالية على التخطيط أن يستولي على إحدى سفن الأسطول البرتغالي التي أطلق عليها «البرتغالية»، ومن بعدها استولى على سفينة أمريكية أطلق عليها «الميريكانا»، واستطاع بعدها تكوين أسطوله البحري الخاص المكون من ثلاث سفن بحرية سفينته الخاصة المسمى بـ«مسعودة» والسفينتين البرتغالية والأمريكية، كانتا محملتين بـ40 مدفعًا.
العصر الذهبي للبحرية الجزائرية: الجميع يخضع لمدفع حميدو
بينما كان نشاط الأسطول البحري الجزائري يتجه إلى الانكماش مطلع القرن السابع عشر؛ أعاد الرايس حميدو الانتعاش للبحرية الجزائرية من خلال انتصاراته المتتالية واستيلائه على عشرات السفن الأوروبية، حتى صار عهد الرايس حميدو عصرًا ذهبيًّا في تاريخ البحرية الجزائرية.
ذاع صيت الرايس حميدو، وما حققه من بطولات وإنجازات في أعالي البحار، ونذكر مثال معركته في سنة 1799م، التي التقى فيها مع فرقاطة كبيرة للبرتغاليين مجهزة بـ44 مدفعا واستطاع أن يستولي عليها، وهذه غنيمة بحرية كبيرة آنذاك.
وقد أجبرت تحركاته في الحوض الغربي للمتوسط الولايات المتحدة الأميركية على توقيع معاهدة مع الجزائر سنة 1795م، جرى من خلالها دفع أميركا مبالغ كبيرة، بالإضافة إلى ضريبة سنوية تدفع للجزائر على شكل معدات بحرية، من أجل أن يكفّ الرايس حميدو عن استهداف السفن الأميركية.وكتبت الاتفاقية باللغة العربية لأول مرة في تاريخ أمريكا.
تأثرت خزينة أميركا بدفع الضرائب المرتفعة للجزائر فقررت التوقف عن دفع الضرائب سنة 1812م، فردت الجزائر بإعلان الحرب على السفن الأميركية بسبب هذا القرار وصارت سفنها هدفا لها. فقامت أميركا بإرسال أسطول عسكري يتكون من 9 سفن حربية، بقيادة الأميرال ستيفن ديكاتور، من أجل حماية السفن التجارية الأميركية بالمتوسط.
وفي سنة 1815م، وبينما كان الرايس حميدو يقود سفينته وحيدة في عرض المتوسط، انقضّ ديكاتور على الرايس حميدو وقام بمحاصرة سفينته من كل جهة. ونشبت معركة بحرية غير متكافئة بين الرايس حميدو والأسطول الأميركي، أدت إلى وفاته بعد أن أصابته قذيفة مدفعية إصابة مباشرة، ودُفن كما أوصى بالبحر، لتنتهي قصة واحد من أبرز قادة أسطول الجزائر العثمانية حينها، لكن اسمه ظل متداولاً عبر الأجيال، وهناك عدّة أحياء باتت تحمل اسمه.
إسبانيا بالعربي.