حنبعل قائد قرطاج الذي كاد يطيح الإمبراطورية الرومانية ومات منتحرًا في منفاه
فقبل 2500 عام كانت قرطاج، المدينة الواقعة في تونس حاليًا، مركزًا تجاريًا وحضاريًا متناميًا، تؤوي 300 ألف ساكن في مساحة صغيرة؛ ما جعل القرطاجيين يبتكرون في ذلك الوقت “بنايات” من عدة طوابق لإيواء الجميع، كما شيدوا الحمامات العمومية، ونظام صرف صحي، وصهاريج ضخمة لتخزين المياه، وهي أشياء لم تزل تفتقر إليها ساكنة المناطق الفقيرة في العديد من الدول حول العالم، حتى يومنا هذا.
لا تكن أبدًا صديقًا لروما.. حنبعل يعبر جبال الألب بجيش من الفيلة!
وُلد حنبعل برقا عام 247 قبل الميلاد في قرطاج (تونس حاليًا)، التي كانت إمبراطورية تجارية كبرى في شمال أفريقيا. كان والده، هاميلكار باركا (حلمقار برقا)، جنرالًا كبيرًا في الجيش، حارب الرومان خلال الحرب البونيقية الأولى (264-241 قبل الميلاد)، في أول اشتباك لهم مع جمهورية روما الوليدة.
بعد وفاة والده في إحدى المعارك تولى صهر حنبعل، المسمى صدربعل المعرض، قيادة الجيش ووقع معاهدة سلام مع روما تفيد بعدم عبور أي من الجانبين نهر إيبرو، ولم يلبث طويلًا حتى جرى اغتياله، ليتولى بعده حنبعل البالغ من العمر 26 عامًا وقتها قيادة جيش قرطاج.
حينئذ كانت قرطاج الفينيقية تطمح لاستعادة ثرواتها، وإعادة بناء قواتها، وكذا الانتقام من روما، فتوجه حنبعل بجيشه إلى مدينة “ساغونتوم”، المتواجدة في إسبانيا حاليًا، والتي كانت تدين آنذاك بالولاء لروما.
هناك استخدم حنبعل إسبانيا قاعدة لجمع الرجال والأموال من أجل الاستعداد للمعركة القادمة، وبالفعل جهَّز جيشًا هائلًا يضم مرتزقة من إسبانيا، وشمال أفريقيا، والغال، كان قسم كبير منهم مدفوعين بالكراهية لروما أكثر من الولاء لحنبعل، وأعلن الحرب على الجمهورية الرومانية، لتبدأ الحرب البونيقية الثانية (تعني “الفينيقية” باللاتينية).
لكن حين وصل الجانب الآخر بعد 17 يومًا، كانت قوة حنبعل برقا قد استنفدت نصفها تقريبًا، وانقضت معظم الأفيال، التي كانت تقوم مقام الدبابة في الحروب القديمة، ومع ذلك فسرعان ما استعاد حنبعل قوة جيشه، من خلال تجنيد جنود من السكان المحليين عبر تقديم نفسه على أنه “المحرر” من سطوة الرومان.
سلسلة انتصارات كبيرة للقائد الشاب
أدى هذا الانتصار في أول مواجهة لحنبعل مع جيوش روما، إلى تحول ولاء المدن المحلية لقضيته، وبذلك تَقوت جيوشه بالأعداد، وتشجع أكثر نحو التحرك جنوبًا باتجاه العاصمة روما في ربيع عام 217 قبل الميلاد.
منذ سنتين “معجونين بالدماء”.. هكذا بلغت سادية أباطرة روما القديمة حد الجنون
علمت روما باقترابه، وأغلقت الطريقين الرئيسيين المؤديين للعاصمة بجيشين آخرين، بقيادة سيلفيوس وآخر بإشراف فلامينيوس، إلا أن حنبعل اتخذ طريقًا ثالثًا عبر وادي نهر أرنو، وهو عبارة عن مستنقع كبير، اعتبره الرومان طريقًا غير سالك وتركوه بدون حراسة، غير أن جيش حنبعل اجتازه في غضون أربعة أيام فقط، على الرغم من الخسائر البشرية الباهظة أثناء العبور، حتى أن حنبعل نفسه فقد إحدى عينيه، وبذلك ترك الجيوش الرومانية خلفه، فلم يجد جيش فلامينيوس خيارًا سوى اللحاق به على عجل عبر طريق المستنقع.
وهكذا باتت روما على مرمى حجر، إلا أن جيش حنبعل كان قد ترك جميع معدات الحصار على الجانب الآخر من جبال الألب الشاهقة، وبالتالي قرر تجاوز روما، والبدء في شن حملته وسط وجنوب إيطاليا على أمل خلق ثورة محلية.
بيد أن هذا التكتيك أثار غضب روما لجبن هذه الطريقة في القتال، وانتخبت روما قائدين جديدين، فارو وباولوس، لقيادة جيش موحد قوامه 80 ألف جندي، ومواجهة القائد الشاب.
وتشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 70 ألف روماني لقوا حتفهم في تلك المعركة؛ مما يجعلها أكبر هزيمة تلقتها روما على الإطلاق في تاريخها.
لكن.. “ما طار طير وارتفع”
كان الرومان لا يعرفون الاستسلام ويثابرون إلى النهاية حتى مع الخسائر الفادحة، كما أنهم كانوا يستفيدون من أخطائهم، ويجيدون تعلم تكتيكات خصومهم والتكيف معها، مع شهية لا حدود لها في التوسع؛ مما صعّب على حنبعل برقا تحقيق نصر حاسم رغم عبقريته العسكرية.
بعد تلك الحرب تنازلت قرطاج إلى روما عن جميع أراضيها خارج أفريقيا، وحلّت جيشها، بالإضافة إلى تعويضات وقيود شديدة فرضت عليها، ومن ثم بدأ القائد الشاب في التركيز على إدارة شؤون المدينة مبتعدًا عن المعارك، وبعد سنوات قليلة نجح في جعل قرطاج مزدهرة مرة أخرى، رغم التعويضات الثقيلة لروما، وهو ما أثار قلق الأخيرة.
في نهاية الحرب البونيقية الثالثة احتلت روما قرطاج ودمرتها تمامًا، بالكاد بقي حجر فوق حجر آخر، وانتهى بمعظم سكان المدينة بالموت أو الاستعباد، لذلك لم يتبق اليوم سوى القليل من المآثر التاريخية لـ”قرطاج حنبعل” في تونس اليوم، رغم أنها كانت حضارة مزدهرة في وقت من الأوقات.