إلياس الموصلي.. ماذا رأى أول عربي وطأت قدمه أمريكا اللاتينية؟
أمريكا اللاتينية الجديدة، في عصر لم يكن الوصول إليها سهلًا، ليس فقط لبُعدها وإنما للشروط التي وضعها الملوك الإسبان.
وقد كتب الأب رباط اليسوعي في أواسط مايو (أيار) من سنة 1905 في مجلة “المشرق” عن المخطوطة التي عثر عليها وما فيها من وصف “لا يخلو من اللذة” – على حد قوله- كتبه الموصلي عن بلاد أمريكا اللاتينية، فمن هو إلياس الموصلي الذي سُمح له دون غيره بهذه الرحلة غير العادية؟ وما الذي سجله عن أرض الهند الشرقية كما أسماها؟
من هو إلياس الموصلي؟ وكيف ذهب إلى أمريكا اللاتينية؟
رغم كثرة من تناول تاريخ الرجل، لم تسجل أية كتب ما يُشبع الفضول حول قصة إلياس الموصلي، سوى أنه انتمى إلى عائلة تربطها روابط وثيقة بالفاتيكان والبابوية منذ القرن السادس عشر الميلادي، وقيل إن أخوته لعبوا دورًا مهمًّا في الحياة الاجتماعية والدينية في الموصل وحلب، وأن عائلته قدَّمت عددًا من البطاركة جمعتهم صلات قوية بروما، وبكل الطوائف المسيحية في الشرق والغرب، أما نشأته فلم يُعرف عنها شيءٌ، وكذلك مولده ووفاته.
وقد بدأت رحلة إلياس الموصلي بالأساس لزيارة الأماكن المقدسة، وهكذا انطلق في عام 1668م، نحو دمشق ثم القدس فوصلها في عيد القيامة، عاد بعد ذلك إلى حلب، ثم أبحر إلى قبرص ثم البندقية، حيث خضع للحَجْر الصحي، ووصف كيف اضطر لقضاء 40 يومًا قبل أن يُسمح له بالدخول إلى إيطاليا للتأكد من عدم إصابته بمرض الطاعون.
وبعد دخوله إلى البندقية اتجه إلى روما لمقابلة البابا، الذي حمَّله رسالة إلى ملكة إسبانيا، ليرحل إلياس الموصلي إلى فرنسا، وعمل هناك لشهورٍ في الترجمة بين الملك وموفد السلطنة العثمانية، ثم اتجه إلى إسبانيا، حيث سلَّم رسالة البابا إلى الملكة، ومن هناك انطلق إلى إيطاليا بأوامر إلى وزيرين إسبانيين في نابولي وصقلية بصرف مبلغ مالي له، ويذكر الموصلي في مذكراته أن طلبه قوبل بالرفض، فأكمل جولاته في مدن إيطاليا ثم عاد إلى إسبانيا.
وتكشف كتابات الموصلي بعد ذلك كيف أن الصدفة وحدها هي التي قادته إلى أبعد بقاع الأرض عن موطنه، إذ امتدت رحلته من بغداد لتشمل عدة مدن أوروبية حتى وصل إلى لشبونة، ثم عاد إلى مدريد ليبحر منها إلى كاراكاس، ويتوغل أكثر في البلدان الأمريكية، فيزور مدن وقرى كلًّا من بنما وكولومبيا وبيرو وتشيلي والمكسيك وأخيرًا يعود من مكسيكو إلى روما، فقد كانت المدن مفتوحة أمام الرجل القادم من الشرق، بشكلٍ يثير التساؤل.
فبعد جولاته في المدن الأوروبية لأسبابٍ مختلفةٍ، إذ أخبرته ملكة إسبانيا أن بإمكانه أن يطلب ما يشاء فأشار عليه المحيطون وعلى رأسهم الكادرينال ماريسكوتي رسول البابا في مدريد أن يطلب تصريح الملكة بالعبور إلى أمريكا اللاتينية أو بلاد “هند الغرب”، كما أُطلق عليها في تلك الفترة، وكان دخول الأرض الجديدة يتطلب إذن ملك إسبانيا، ولم يكن يُمنح إلا للإسبان، وكانت محاكم التفتيش تواصل في تلك السنوات عملها في التنصير، وهو ما كتب عنه الموصلي أيضًا.
كتابه “الذهب والعاصفة: رحلة إلياس الموصلي إلى أمريكا.. أول رحلة شرقية إلى العالم الجديد 1668-1683م”، متدينًا حريصًا على اتباع التعاليم الدينية، محبوبًا ممن حوله، وتكشف الرحلة عن مكانة متميزة للخوري في كل البلاد التي ذهب إليها.
إذ كان في استقباله الملوك، كما ارتبط بصداقاتٍ وعلاقاتٍ دينية مع أرفع الشخصيات في عصره، ففي باريس استقبله ملك فرنسا لويس الرابع، واحتفى به أخوه أورليانوس، وفي البرتغال كانت في استقباله أم الملك كارلوس الثاني، وفي إسبانيا التقى الملكة عدة مرات.
وكان ذهابه إلى أمريكا اللاتينية في تلك الفترة يعني الكثير عن مكانته أيضًا، وإلى جانب ذلك فقد أوصت ملكة إسبانيا إلى الحكام والبطاركة في المستعمرات الأمريكية بالاهتمام بإلياس الموصلي بصورةٍ استثنائية، وصرحت له بأن يتجول في كل البلاد التي حملت العلم الإسباني، وهكذا قطع الموصلي كل نقط التفتيش بسهولةٍ ويسرٍ، بينما كان المسافرون الآخرون يتعرضون للمضايقات والتفتيش، فقد كانت حمى البحث عن الذهب والفضة قد أصابت المستعمرين حينذاك.
الذهب والعاصفة
في منزلٍ جميل في عاصمة البيرو، كَتَب إلياس الموصلي ملاحظاته حول الرحلة، وتعد تلك الكتابات يومياتٍ لإلياس الموصلي، فلم يكن الموصلي رحَّالة ولا مؤرخًا، بل حرص فقط على تسجيل مشاهداته وما بدت عليه أمريكا من منظور رجل شرقي، وفي الكتاب يُطلق الموصلي على بلاد أمريكا اللاتينية “بلاد الهند الغربية” تمييزًا لها عن “الهند الشرقية” في آسيا، ويبدو كتابه ممتعًا بالفعل ويحمل بصمة ذلك العصر ودهشة الموصلي مما رآه.
“رحلة أول شرقي إلى أمركة” يصف إلياس الموصلي الطريق إلى الأرض الجديدة، وكيف استعدت السفينة للمغادرة، وأنها لم تحمل سوى مواطنين من “الجنس السبانيولي” (الإسبان) أو ممن يحملون أوامر من الملك شخصيًّا كما تحدد القوانين.
وحكى الموصلى عن اضطراب البحر وما واجهته السفينة من خطر استمر لثلاث ساعات، فأودى بحياة أحد ركابها، مات بسبب الخوف فقط، واضطر الركاب لربطه بقوارير مملوءة بالماء لتغوص جثته في البحر، وضربوا له ثلاثة مدافع.
ومع الاقتراب من الأرض الأمريكية يظهر محور الأحداث في الأرض الجديدة: تجارة العبيد، إذ يحكي الموصلي عن رؤيته لمركب إنجليزي يحمل “العبيد السود” قادمًا من البرازيل، ثم يذكر الموصلي أنه حين وصل إلى الهند استقر على جزيرة “ماركاريتا” (أو مرغريتا وهي جزيرة صغيرة في بحر الكاريبي تتبع فنزويلا اليوم) التي تشتهر باللؤلؤ.
فيقول عن بلدة “بنما” إنها لطيفة جدًا وبيوتها من الخشب، وذكر إصابته بمرضٍ شديدٍ حين وصل إلى بلدة “بورتوبيللو” حيث كان المرض يفتك بأهلها.
ووصف مكانًا وصل إليه بعد خروجه من بلدة “بوتوسي” يسمى “طارابابا” كان به ماء ساخن “له رائحة الكبريت” يذهب الناس إليه من بلدان مختلفة للاستشفاء، وذكر مشاهدته لزفاف حضره في ليما، وكيف أن العروس منحت زوجها 150 ألف قرش مثلما جرت العادة في هذه البلاد.
بوتوسي.. المدينة التي أمدّت أوروبا بكنوز الفضة وعاشت في الفقر
وفي المكسيك رصد إلياس الموصلي كيف أرسل معه الحاكم حراسًا يحمونه من قطَّاع الطرق، ويذكر قرية تدعي «ليلموا» المقفرة وعديمة الماء، بدت له مثل أرض مصر، وذكر أن كل أهلها من الهنود ماعدا القسيس، وذكر أن بعضهم نصارى حقيقون، وبعضهم يتظاهر بذلك خوفًا من محاكم التفتيش.
الهنود كما تصورهم، خاصةً أنه شديد التدين، فقال إنهم “أناس كفرة”، وذكر عاداتهم التي لفتت انتباهه كما ذكر القصص والخرافات التي كانت منتشرةً في تلك الفترة، وحكى في كتاباته عن اختلاف لهجاتهم وأنهم يسيطرون على بعض القرى والمدن خاصةً ما يقع منها على الجبال، وهؤلاء كانوا يأسرون الإسبان ويستولون على دوابهم، كما حكى عن المعارك غير المتكافئة التي استخدم فيها الأسبان الرصاص أمام سيوف الهنود، ليفرضوا سيطرتهم في النهاية.
عن المخطوطة ونهاية صاحبها
كان المخطوط مكتوبًا بخطٍ واضحٍ؛ لكنه غير متقن كما وصفه الأب رباط، وكان يحتوي على 269 صفحة، وصف إلياس الموصلي في 100 صفحة منها فقط رحلته، وتناول في الصفحات الأخرى تاريخ أمريكا اللاتينية.
وفي تحقيقه للكتاب يقول الكاتب نوري الجراح إنه كان حافلًا بالأخبار والقصص الواقعية والعجيبة أيضًا، التقط فيه الكاتب لمحات ذكية ورغم أنه كان في “جانب محاكم التفتيش” إلا أنه سجل بوعي شرقي عن العقاب الذي يتعرض له السكان الأصليين والاستغلال الاقتصادي لهم.
ويقول الجراح عن إلياس الموصلي أنه كان ضعيف المعرفة باللغة العربية فجاءت لغة الكتاب ركيكةً، وإنه اضطر لتصويب بعض الأخطاء اللغوية، فضلًا عن شرح بعض الكلمات القديمة؛ إذ أدخل الموصلي مع العربية اصطلاحات باللغتين التركية والفارسية.
ويؤكد أن ما يبدو من كتابته أنه كان قليل الخبرة، إذ فسر الأمور أحيانًا بتفسيرات «تافهة» تدل على بساطته، ويذكر المستشرق الروسي فلاديمير غوردليفسكي أيضًا تلك الملاحظة عن قدر معرفة الرجل؛ فقال إن أفقه الفكري كان محدودًا بشكلٍ لا يمكِّنه من إبداء ملاحظات مهمة على ما شاهده، لقد سجل فقط ما رآه.
دراسة بعنوان “إلياس الموصلي مستغربًا.. دراسة تاريخية اجتماعية لرحلته إلى أمريكا” أن الموصلي استطاع إقامة علاقاتٍ واسعةً مع كثير من رجال الدولة ورجال الدين أيضًا، ويمكن فهم كيف أتاح له ذلك التعرف إلى القارة الجديدة، لكنه يسجل أيضًا أنه لم يصادق أحدًا من عامة الناس أو الطبقات الفقيرة، إذ لم يذكر إلياس الموصلي ذلك على الأقل.
ويرجح المؤرخون أن يكون الموصلي قد أمضى بقية حياته في روما، بعد عودته من أمريكا اللاتينية ويستندون في ذلك فقط إلى عثورهم على كتاب “صلوات عربي” مطبوع في روما في عام 1692 على نفقته، هو ما جعلهم يرجحون أيضًا أن تكون وفاته قد جاءت بعد هذا العام.
يضم الكتاب الأخير الذي عُثر عليه في روما عدة ألقاب خلعها كلٌّ من البابا وإمبراطور إسبانيا على إلياس الموصلي، ومنها: “حامل صليب ماربطرس”، و”كونت بالاتينو”، و”كاهن كنيسة ملك إسبانيا”، والمشرف على كنيسة بغداد الكاثوليكية وهو اللقب الذي منحته له ملكة إسبانيا.
المصدر: مواقع إلكترونية + إسبانيا بالعربي.