“إمارة فرخشنيط”.. قصة إمارة مسلمة في فرنسا أقلقت أوروبا وسيطرت على جبال الألب
إسبانيا بالعربي – إذا بحثت عن معارك المسلمين في أوروبا، وتحديدًا معاركها في فرنسا، ستجد أغلب المصادر تخبرك أن حركة الفتوحات في هذه الجهة من أوروبا توقفت بعد معركة واحدة فاصلة، قاد فيها شارل مارتل جنود الفرنجة لفوز ضد المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي، في معركة عرفها الأوروبيون باسم معركة تور، بينما عرفها المسلمون باسم بلاط الشهداء.
ومع الفوز تحول الحال في أوروبا الغربية، وانقلبت فتوحات المسلمين في فرنسا إلى هزائم، أكبرها بعد بلاط الشهداء كانت الهزيمة في ناربونة شرق جنوب فرنسا والتي أعلنت بشكل قاطع رحيل جيوش المسلمين وإنتهاء الفتوحات في فرنسا إلى الأبد.. لكن ماذا عن فرخشنيط؟
“إمارة فرخشنيط” في قلب أوروبا.. قصة بدأها 20 بحارًا
قبل أن نحكي قصة دويلة فرخشنيط وكيف استطاع 20 بحارًا إنشاء إمارة إسلامية في فرنسا؛ لا بد أن نوضح كيف كان الوضع في أوروبا في هذه الفترة الزمنية، والمعروفة تاريخيًا باسم القرون الوسطى المبكرة.
يحدد معظم المؤرخون القرون الوسطى المبكرة والمعروفة أيضًا بـ”عصور الظلام” بالفترة بين القرن الخامس وحتى القرن العاشر، وبالطبع هناك من يعود بها للقرن الثالث أو الرابع.
امتازت هذه الفترة بظهور العديد من الممالك والقوى، سقطت إمبراطوريات مثل الإمبراطورية الرومانية الغربية، وتوسع إمبراطوريات مثل الإمبراطورية البيزنطية. لكن فيما يخص قصتنا فنحن مهتمون ببداية انهيار الإمبراطورية الكارولنجية والتي أسسها شارلمان حفيد شارل مارتل لتمثل أبرز توسع للفرنجة، فضمت ما يعرف اليوم بفرنسا وألمانيا وأجزاء كبيرة من إيطاليا.
تفككت الإمبراطورية إلى ثلاث ممالك حكمها أحفاد شارلمان، وبدأت الصراعات تدب بين الممالك الثلاث والتي بدأت تتفك بدورها، كما بدأت غارات الفايكنج وغارات المجريين، لتضعف ما تبقى من قوى قائمة.
في عام 887 ميلاديًّا – وفي بعض المصادر 889 ميلاديًّا – ركب 20 بحارًا عربيًا البحر من الأندلس، قاصدين الإغارة على سواحل إقليم بروفانس، فقذفت بهم الرياح إلى خليج غريمو المعروف أيضًا باسم خليج سانت تروبيه والذي يتبع إقليم ألب كوت دازور، فسيطروا على قرية تسمى جارد فرينيه، واستقروا في الحصن المطل عليها والمغطى بأشجار كثيفة تعرف في اللاتينية بـ”Fraxinus” فجرى تسمية هذا الحصن باسم “فرخشنيط” أو “فركسيناتوم”.
كان الحصن يقع على قمة تعرف اليوم باسم جبل الموور وقد ذكره إبراهيم بن محمد الإصطخري في كتابه “المسالك والممالك” باسم جبل القلال، وقال عنه: “وأمّا جبل القلال فإنّه كان جبلًا فيه مياه خرّارة فوقع إليه قوم من المسلمين فعمروه وصاروا فى وجوه الإفرنجة لا يقدر عليهم لامتناع مواضعهم”.
ويذكر شكيب أرسلان في كتابه “تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط” والذي استند على المصادر الأوروبية في رواية الجزء الخاص بفرخشنيط بسبب قلة المصادر الإسلامية التي وثقت هذه التجربة بتعمق.
أنه بحسب “تاريخ ليوتبراند” في “مجموعة موراتوري” و”تاريخ دير نوفاليز” ومجموعة “الدون بوكيه” و”تاريخ بروفانس”: “كانت سلسلة جبال إلى الشمال من الخليج، بعضها أعلى من بعض، فإذا وصل الإنسان إلى قمتها أشرف على قسم كبير من بروفنس السفلي، فأغار العرب على أقرب قرية من البحر و”ذبحوا أهلها”، وأخذوا يرودون في الجوار، ولما وصلوا إلى القمم التي كانت تشرف من جهة على البحر وتناوح من جهة أخرى جبال الألب، فهموا ملاءمة هذا المكان لاستقرارهم فيه، بصورة دائمة”.
ويمكن ملاحظة اختلاف الصياغة بين المصدر الإسلامي المتمثل في كتاب الاصطخري وبين المصادر الأوروبية التي استخدمت ألفاظ مثل الإغارة والذبح، كذلك لم يجر أبدًا الإشارة إلى الدويلة التي ستقام فيما بعد بأنها دويلة أو إمارة في كافة المصادر الأوروبية؛ بل كان يشار إليها دائمًا باستخدام لفظ قراصنة واعتبار هذا الحصن وهذه المنطقة مجرد خليج ومعقل لقراصنة!
لذلك فلا بد من التنويه أنه ربما لم يكونوا 20 بحارًا فعلًا، ربما كانوا أكثر من ذلك، كما أنه لا يمكن التيقن أنهم كانوا من الأندلس فحسب، فالكلمة التي كان يتم استخدامها معظم الوقت كانت كلمة “Saracens” أو سركينيس، والتي كانت تستخدم في ذلك الوقت للإشارة إلى عرب الجزيرة أو عرب شمال أفريقيا أو حتى الترك الذين كانوا يدينون بدين الإسلام.
ومن المرجح أن المصادر الإسلامية لم تتطرق لذكر فرخشنيط كثيرًا لعدم دوامها لفترة طويلة أو لانشغالهم بما كان يدور في الأندلس في ذلك الوقت، على الرغم من أن إقامة دويلة مسلمة في قلب أوروبا وفي وسط العالم المسيحي أمرًا الذي يستحق التوثيق!
عودة إلى قصة فرخشنيط؛ بمجرد أن استقر المسلمون في حصنهم الجديد أرسلوا إلى الأندلس وأمصار شمال أفريقيا وحتى صقلية يطلبون منهم العون والقدوم لمساعدتهم في جهادهم الطموح. ومع عام 906 الميلادي، استطاع المسلمون السيطرة على كامل إقليم بروفانس تقريبًا، وقد ساعدهم في ذلك انقسام الدوقيات والإمارات في الإقليم، ووفقًا لشكيب أرسلان، فإن القوى المتصارعة سعت لضم المسلمين لمساعدتهم في حروبهم الداخلية، وما إن نمت شوكتهم حتى سيطر المسلمون على كل تلك القوى المتصارعة ولم تستطع أي قوة في المنطقة الوقوف أمامهم!
بدأت القوات المسلمة بالتوسع في قلب القارة الأوروبية، فوصلت فتوحاتهم حتى حدود جنوة، وبدأوا في النظر تجاه جبال الألب. ومع عام 939 نجح المسلمون في عبور الجبال، حيث غزوا شمال إيطاليا وكذلك جنوب سويسرا. وتذكر المصادر الأوروبية كيف اقتحم السرسكينيس الكنائس والأديرة، مثل كنيسة نوفاليسا التي هرب منها الرهبان بمجرد معرفتهم بوصول قوات المسلمين، لكن هناك كنائس وأديرة لم يستطع الرهبان الهرب منها مثل دير القديس جول.
ومع الهجمات المتكررة على الأديرة والكنائس، قرر هيو ملك إيطاليا التدخل وإيقاف المسلمين. وبالاتفاق مع الإمبراطور البيزنطي رومانوس ليكابينوس، وفي عام 941، هاجم هيو قوات السارسكينيس وكاد أن يحقق النصر بالفعل، إلا أنه لم ينتصر، بل توقف وأعلن الهدنة مع المسلمين شريطة أن يحموا حدود إيطاليا من المعتدين وفي المقابل يتركهم يغيرون على ما يريدون من قرى ومدن وممالك.
استنكر الكثيرون ما فعله هيو، لكن في الواقع كان عرش هيو في خطر، فالملك الألماني أوتو الأكبر القادم من الشمال – والذي يعتبره معظم المؤرخون أعظم إمبراطور للإمبراطورية الرومانية المقدسة – كان يفكر في الاستيلاء على إيطاليا وضمها لحكمه.
ترك هيو الطريق خاليًا أمام قوات المسلمين فسيطروا على ممرات جبال الألب، ويوضح شكيب في كتابه كيف أنه ومن بعد هذه الحادثة، استقر المسلمون في البلاد التي فتحوها يزرعون الأراضي ويحرثونها، وتزوجوا من أهلها، وكان أمراء تلك الأراضي يرتضون دفع جزية هينة.
أما عن ممرات الألب، فأقام المسلمون فيها نظامًا مثل نظام رسوم المرور، لكن هذه الرسوم كانت باهظة، فقلت رحلات الحج إلى روما؛ ووفقًا لكتاب شكيب أيضًا فإن المصادر الأوروبية ذكرت أنه في تلك الفترة كان المسلمون قد وصلوا لمدن نيس وغرونوبل واستقروا فيها.
ما طار طير وارتفع.. بداية النهاية للمسلمين
زادت ثقة مقاتلي فرخشنيط، فوصلوا إلى وادي نهر الراين، والذي كان يخضع لسيطرة الملك أوتو، في ذلك الوقت كان الملك أوتو على علاقة جيدة بخليفة الأندلس عبد الرحمن الناصر لدين الله.
وقد ذكر كتاب “تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس” أنه قد: “جرت مراسلات وسفارات طويلة بين حكومة الناصر بالأندلس وبين أوتو الأكبر إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة حول أمر هذه القاعدة… وبيّن الخليفة الناصر للسفير الأوروبي أن حكومته ليست لها أية علاقة ولا أية سلطة على جبل القلال، وأنها لا تتحمل تبعة أعمالها. وبذلك أعطت خلافة قرطبة للسلطات الألمانية مطلق الحرية في اختيار السبل المناسبة لعلاج هذه المشكلة”، ليبدأ العداء المباشر بين فرخشنيط وأوتو الأكبر.
في الوقت نفسه، ظهر عدو جديد للمسلمين، متمثلًا في قبائل المجريين التي كانت تغير هي الأخرى على ممالك أوروبا، وتذكر المصادر أن الصدام حدث بين قوات المسلمين وقوات المجريين بعد أن قام حاكم برغندي في ذلك الوقت بتشجيع الفرقتين على مواجهة بعضهما البعض، فأخبر المسلمين أن المجريين يطمعون في أراضيهم الخصبة وأنه سيتعاون معهم ليهزم هؤلاء الوثنيين.
وعلى جانب آخر، أخبر حاكم برغندي المجريين أن المسلمين يستأثرون بكل الأراضي الخصبة، وأنه سيتعاون معهم ليتشاركوا خيرات الأراضي سويًا. وما أن التقى الجيشان في المعركة واشتد القتال إذ بقوات ملك برغندي تذبح من تبقى من الفريقين، لتصبح أول ضربة حقيقة للقوات المسلمة!
في 972 اختطف المسلمون رجلًا يدعى مايولوس، تعده الكنيسة الكاثوليكية قديسًا، وطلبت فيه فدية قدرت بألف قطعة ذهبية. كانت هذه العملية هي القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للمسيحيين، فقرروا أن يتحدوا للتخلص من المسلمين نهائيًا.
ثار أهالي إقليم بروفانس تحت قيادة ويليامس حاكم بروفانس، الذي استطاع هزيمة قوات المسلمين سنة 973 في معركة طورطور، وتخبر بعض المصادر عن خيانة رجل يسمى أيمون لرجال حصن فرخشنيط، مما سهل هزيمتهم من قبل القوات المسيحية. وبعد الهزيمة لم يكن مصير المسلمين في بروفانس سوى الموت أو الاستعباد أو النفي، كذلك كان الحال بالنسبة لباقي المسلمين الذين سكنوا في إيطاليا وفرنسا وسويسرا حينما كانت لهم الغلبة!
فرخشنيط.. دويلة ظلمها التاريخ!
بالنظر للمصادر المختلفة التي تناولت قصة فرخشنيط، فكما ذكرنا نجد أن المصادر الإسلامية لم تهتم كثيرًا بهذه الدويلة التي نشأت في قلب أوروبا المسيحية، وأغلب المصادر الأوروبية اعتبرتهم مجرد قراصنة أو قطاع طرق أو لصوص، لكن ما هي الحقيقة؟ وهل يمكن أن نقول أن فرخشنيط كانت بالفعل دويلة؟
يقول محمد بلان الأستاذ المساعد بجامعة ستوني بروك بنيو يورك في بحثه المنشور باسم “فرخشنيط: الدولة الحدودية في إقليم بروفانس في القرن العاشر”، أن المؤرخين قد ظلموا فرخشنيط بحصرها في دور “كهف القراصنة”.
فعلى الرغم من أنه يمكن اعتبار ما قام به هؤلاء الرجال “جهاد”، وأنهم اعتبروا أنفسهم مجاهدين، فإنه لا يمكن إغفال الجوانب الأخرى لهذه القصص، فإذا تم النظر إلى فرخشنيط باعتبارها دويلة مسلمة نشأت في قلب القارة المسيحية، سيتمكن الباحثون من فهم هذه الظاهرة بشكل أفضل.
وبالفعل فإن فرخشنيط لم تكن مجرد مجموعة من الحصون تسيطر على مجموعة من القرى والمدن وتفرض عليها الأموال؛ فبالنظر لبعض المصادر كان يجري تقطيع الأخشاب في الإقليم وتصديرها إلى الأندلس، كذلك زُرع نبات الحنطة السوداء في القرى التي كانت تحت سيطرة المسلمين، وقد كان محصولًا غريبًا على أهالي تلك البلاد وتُعرف حتى اليوم في إقليم بروفانس الفرنسي بالقمح السارسكينيسي، أيضًا فهناك أنواع من الماعز موطنها الأصلي كان شمال أفريقيا جلبها المسلمون إلى تلك القرى.
يمكن أيضًا القول بأن مسلمي فرخشنيط، كانوا أكثر من مجرد قراصنة بالنظر للقرى التي وقعت تحت سيطرتهم؛ فلقد استقر الكثير منهم في هذه القرى وتزوجوا من أهلها، بل واكتسبت بعض من هذه القرى أسمائها عن طريق المسلمين.
هذه كانت قصة فرخشنيط، دويلة بدأها 20 بحارًا واستمرت قرابة 100 عام، لكن كتب التاريخ لم تعطها حقها، فهل لو أمعنا النظر في صفحات كتب التاريخ سنجد دويلات إسلامية أخرى مثل فرخشنيط، لم يوفها التاريخ حقها؟
المصدر: إسبانيا بالعربي / ساسة.