متفرقات

«اكتئاب ما بعد الولادة».. الوجه الآخر لضحكات المواليد الجدد

كان الأمر أشبه بالوقوف في قاع البئر؛ إذ ظللت أنظر إلى دائرة الضوء الممتدة من الأعلى وأرى الناس يعيشون حياة طبيعية وسعيدة، لكني في الوقت نفسه لم أستطع الصعود *لين – أم لطفلين – 40 عامًا.

إذا ما كنت تعتقد أن جميع الأمهات يشعرن بالسعادة الغامرة بعد قدوم مولودهن، فلا شك أن التجارب السابقة ستجعلك تعيد النظر في ذلك؛ فالمرأة بعد ولادة طفلها تمر بخليط من المشاعر، فتكون سعيدة وترغب في رعايته واحتضانه، لكن ذلك لا ينفي شعورها بالخوف والقلق الذي من المفترض ألا يرافقها أكثر من أسبوعين، إلا أنه في بعض الأحيان تزداد حدة المشاعر السلبية وتتحول إلى ما يُعرف باكتئاب ما بعد الولادة.

يتمثل هذا النوع من الاكتئاب في اضطراب في المزاج يصيب الأم بعد ولادة طفلها؛ فتشعر بحزن شديد وقلق وإرهاق، وتجد صعوبة في تقديم الرعاية اليومية اللازمة لطفلها أو حتى لنفسها، ويصيب اكتئاب ما بعد الولادة 15% من الأمهات، وقد يبدأ قبل الولادة بقليل أو بعدها مباشرة، وتتباين فترة علاجه؛ فقد تستمر لأشهر أو لسنوات، ولا يقف تأثيره عند الأم فقط، بل يصل إلى الأب، وربما يمتد إلى الطفل نفسه بعدم توفير له الرعاية الملائمة؛ مما يعرضه لمشاكل صحية في النمو والتطور.

الاستحمام أثناء الدورة الشهرية.. هل يؤذي الفتاة؟

لماذا قد تكتئب المرأة بعد الولادة؟

تختلف الأسباب التي تقف وراء كل حالة من حالات اكتئاب ما بعد الولادة، لكن الباحثين يعتقدون أن الهرمونات والكيمياء العصبية وتاريخ الأمراض النفسية يلعبون دورًا مؤثرًا في نشوء الحالة وتطورها؛ فخطر التعرض لهذا النوع من الاكتئاب يكون أعلى بين الأشخاص الذين مروا بأمراض نفسية، مثل الاكتئاب، أو القلق، أو اضطراب المزاج ثنائي القطب، وقد وجدت دراسة علمية نشرتها جامعة براون الأمريكية أن خطر الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة كان أعلى بنسبة 20% لدى النساء اللواتي لديهن تاريخ مرضي مع الاكتئاب.

توجد هناك أيضًا عوامل خارجية منها الحرمان من النوم الذي يؤدي إلى صعوبة تعامل المرأة مع أبسط الأمور، ولا شك أن ساعات النوم تقل بشكل خاص في الأيام الأولى لقدوم المولود الجديد، بالإضافة إلى عدم تأكدها من قدرتها على رعايته بالشكل المطلوب، لا سيما إذا كان المولود الأول، ويمتد القلق إلى عدم ثقتها بجاذبيتها الجنسية في ظل زيادة الوزن الذي تتعرض له الكثير من النساء خلال الحمل.

من المظاهر المتكررة وجود مشاعر غضب لدى بعض الأمهات تجاه المولود الجديد؛ نظرًا لبكائه المستمر، وكونه مصدر ضغط زائد في حال إذا ما كان الفارق السني بينه وبين الطفل الذي قبله قصيرًا، فهنا يتوجب على الأم أن ترعاه وترعى الطفل الآخر.

أما من الناحية البيولوجية فالتفسير العلمي يؤكد أن السر يكمن في الانخفاض الحاد في مستوى الهرمونات بعد الولادة، خصوصًا هرموني الاستروجين والبروجيستيرون، إلى جانب احتمالية الانخفاض الحاد في الهرمونات التي تنتجها الغدة الدرقية؛ مما يجعل الأم بطيئة الحركة وحزينة وتمر بتقلبات مزاجية مستمرة.

يرجع ذلك إلى أنه طوال فترة الحمل تكون الدورة الهرمونية في أعلى نسبها؛ إذ ينتج المبيض والمشيمة البروجسترون والاستروجين بشكل مرتفع تدريجيًا لدعم الجنين الذي ينمو، لكن مع ولادة الطفل والتخلص من المشيمة تنخفض مستويات الهرمونين، ولا يوجد تغير فسيولوجي يقترب من هذا السقوط الحر في السرعة والشدة؛ مما يعرض نسبة من النساء اللواتي لا تنجح أدمغتهن وأجسامهن في الهبوط بشكل سلس للشعور بالاكتئاب والقلق، في الوقت الذي يتوقع فيه المجتمع المحيط بهن أن يكن أكثر سعادة.

الأطفال

قد تنتاب الأم حالة من الشك في حال مرورها ببعض أعراض اكتئاب ما بعد الولادة في البداية، لكن إذا ما استمرت هذه الأعراض فترة طويلة حينها يكون مرجحًا إصابتها بهذا الاضطراب النفسي، وتتطور العلامات المؤكدة لذلك في الأسابيع القليلة بعد الولادة وأحيانًا تبدأ في وقت سابق أثناء الحمل.

يعد الخوف والقلق المستمر من أبرز الأعراض؛ فتشعر الأم بالحرص الزائد على سلامة طفلها بشكل مرضي، فتتفقده وتطمئن عليه باستمرار وتحرص على نظافة وتعقيم كل شيء من المحتمل أن يلامس جسده، بالإضافة إلى خوفها من أن يقترب أي شخص منه والذعر إذا ما ظهرت أي علامات للمرض على الطفل ولو كانت اعتيادية مثل الارتفاع الطفيف في درجة الحرارة، وربما يتجاوز هذا الخوف الطفل فتشعر بالقلق الذي لا ينتهي على الزوج وتخاف من تعرضها للخيانة من جانبه.

إلى جانب ما سبق، فمما يؤكد الإصابة بهذا النوع من الاكتئاب عدم القدرة على النوم بسهولة والمعاناة من اضطراب النوم بالاستيقاظ المتكرر دون مبرر منطقي، والبقاء لفترات طويلة في الفراش من أجل الذهاب في النوم، وهذا العرض ربما يتطور ويصل إلى درجة الانهيار العصبي.

ولا يخفى على النساء اللواتي مررن باكتئاب ما بعد الولادة صعوبة المرور بمشاعر سلبية مفاجئة، مثل الحزن، والملل، والوحدة، رغم إحاطتهن بالعديد من الأشخاص المحبين لهن، فأحيانًا يجدن أنفسن يذرفن الدموع دون مقدمات أو أسباب، ويرتبط ذلك بالتغيرات الهرمونية التي تتواجد في فترة ما بعد الولادة.

تتطور الأعراض في بعض الحالات المتقدمة؛ فتصل إلى الخوف من الانتحار أو التسبب في إيذاء الطفل، وقد لا تُقدم الأم على ذلك بشكل فعلي، لكنها تصارع الرغبة في داخلها بإلقاء طفلها أو نفسها من شرفة المنزل، وهنا يعد الأمر في غاية الخطورة، لذلك لا بد من الاستعانة بالعلاج النفسي الفوري.

لجميع الأمهات المشغولات جدا.. 10 نصائح لإدارة الوقت في رمضان

الرجال يصابون به أيضًا!!

يعتبر أمرًا غير منطقيًا بالنسبة للكثيرين أن يمر عليهم مصطلح «اكتئاب ما بعد الولادة» عند الرجال، فكيف لهم أن يختبروا هذه المشاعر وهم لا يتحملون العبء الأكبر من حمل الطفل، ومتابعة حمله، ثم ولادته، لكن في الواقع سنجد الكثير من الآباء يؤكدون أن تجربة الإنجاب كانت كابوسًا نفسيًا مروا به، ورغم تأكيداتهم فما زال الكثير من الأطباء النفسيين يتجاهلون ذلك بشكل كبير.

ثمة أرقام توصلت إليها دراسات أُجريت لرصد اكتئاب ما بعد الولادة عند الرجال، منها دراسة أجرتها المؤسسة الوطنية البريطانية للولادة عام 2007، وتوصلت إلى أن أكثر من واحد من أصل ثلاثة آباء جدد يكونون قلقين بشأن صحتهم العقلية، في حين وجدت دراسة أجرتها الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال عام 2014 أن الاكتئاب بين الآباء الجدد يزداد بنسبة 68% خلال السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل.

من الشائع في الأوساط الطبية أن اكتئاب ما بعد الولادة ينتج بنسبة كبيرة عن التقلبات الهرمونية عند المرأة، لذلك لا يمكن أن يتواجد نفس الاضطراب النفسي عند الرجل، لكن على عكس المتوقع تشير الدراسات إلى أن هرمونات الرجال تتغير أثناء الحمل وبعد الولادة لأسباب لا تزال مجهولة، فمثلًا ينخفض مستوى هرمون التستوستيرون وترتفع هرمونات الاستروجين والبرولاكتين والكورتيزول.

تمديد إجازة الولادة في إسبانيا

والنبأ غير السار بالنسبة للآباء الجدد أن اكتئاب ما بعد الولادة قد يكون أكثر انتشارًا في الجيل الحالي والأجيال التالية؛ لأن هذه الأجيال تشعر بضغوط مشابهة للضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها بعض الأمهات، ومع عمل الكثير من الأمهات يتحمل الآباء رعاية الأطفال وبعض المهام المنزلية التي كانت تتولاها النساء بشكل تلقائي، وينتج عن ذلك ظهور مشكلات من أبرزها الإجهاد وقلة النوم، وإذا ما أضفنا إليهما التغيرات الهرمونية السابق الإشارة إليها سيكون لدينا ظرف مثالي لنشأة الاكتئاب.

ورغم أن بعض الرجال تظهر عليهم أعراض الحزن الكلاسيكية، فهناك رجال آخرون يصبحون عصبيين أو مضطربي المزاج أو غاضبين، وتظهر الأعراض عند فئة أخرى على هيئة ضيق في التنفس، أو خفقان في القلب، أو المرور بنوبات فزع، وقد يشعر الرجال المصابون باكتئاب ما بعد الولادة بعدم القيمة الذاتية، وفقدان الاهتمام بالأنشطة الممتعة، مثل الجنس.

ونظرًا لعدم انتشار ثقافة العلاج النفسي عند الرجال بالمقارنة مع النساء، فإن الكثير من المصابين يلجأون للهروب بوسائل متعددة منها تعاطي الكحوليات أو المخدرات أو لعب القمار، وكذلك إدمان العمل فالرجل الذي يتحول فجأة بعد ولادة طفله إلى العمل 60 ساعة في الأسبوع قد يكون مكتئبًا، والحل الأمثل هو لجوؤه للطبيب النفسي، وليس أن يُغرق نفسه في مهام عمله.

للنساء.. ماذا تعرفين عن هوس ما بعد الولادة والطفل الوردي؟

الطفل يدفع الثمن!

لا يتوقف تأثير اكتئاب ما بعد الولادة عند الأم والأب فقط، وإنما يمتد إلى الطفل، وذلك فيما يتعلق بنموه العاطفي، والمعرفي والجسدي؛ فقد أشارت نتائج دراسة، أجرتها الدكتورة سارة مايرز، المتخصصة في الأنثروبولوجيا بجامعة كينت البريطانية، إلى أن العوامل المؤثرة على علاقة الأم بطفلها في مرحلة الطفولة المبكرة يمكن أن يكون لها عواقب تستمر مدى الحياة، بدليل أن النساء اللواتي عانين من اكتئاب ما بعد الولادة أكدن على انخفاض جودة علاقاتهن بأطفالهن رغم وصولهم إلى مرحلة البلوغ.

وبشكل أدق فقد أكدت جانيس كوبر، مديرة المركز الوطني للأطفال التابع لكلية ميلمان للصحة العامة بجامعة كولومبيا الأمريكية، أن الأمهات اللواتي مرضن باكتئاب ما بعد الولادة واجهن صراعات من أجل الترابط مع أطفالهن، وانعكس ذلك على خلل في ثقة هؤلاء الأطفال بأمهاتهم، ونمو الشعور لديهم بعدم الأمان.

ومن المستجدات المثيرة للاهتمام توصل دراسة أجرتها الجمعية الكندية لطب الأطفال إلى نتيجة مفادها مواجهة الأطفال الذين ولدوا لأمهات عانين من اكتئاب ما بعد الولادة صعوبات في الأداء الإدراكي والتفاعلات الاجتماعية مع المحيط المجتمعي، بالإضافة إلى تعرضهم لخطر الاضطرابات السلوكية وبالأخص اضطراب القلق واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه.

وقد حاولت دراسة أخرى أجرتها الجمعية الطبية الأمريكية ونُشرت في مارس (آذار) 2018 أن تبحث بعمق أكثر في تأثير هذا النوع من الاكتئاب على الأطفال، فتابعت الأطفال الذين ولدوا في منطقة محددة جنوب غرب إنجلترا بين أبريل (نيسان) 1991 وديسمبر (كانون الأول) 1992، وكانت إحدى النتائج المهمة أن الأطفال الذين تعرضت أمهاتهم لاكتئاب ما بعد الولادة ظهرت احتمالية إصابتهم بالمشاكل السلوكية أكثر أربع مرات من الأطفال الآخرين، إلى جانب زيادة احتمالية انخفاض درجاتهم في مادة الرياضيات مرتين، أما الأمر الأكثر خطورة فهو أنهم عرضة للإصابة بالاكتئاب في سن الثامنة عشر أكثر سبع مرات من أقرانهم.

لم تغلق كل الأبواب.. هناك أمل للعلاج

هناك أكثر من مسار يمكن للأم المصابة باكتئاب ما بعد الولادة أن تسير فيه للعلاج، لكن غالبًا ما تكون البداية من العلاج الدوائي بالتوازي مع العلاج النفسي، وينصح الأطباء النفسيون بتناول مضادات الاكتئاب – التي لن تعمل فورًا، وإنما تحتاج إلى عدة أسابيع كي يظهر تأثيرها – ويجب الانتباه أيضًا لكون الدواء آمنًا للأم المرضعة أم لا، وبالنسبة للعلاج السلوكي فيستحسن أن تتابع الأم مع معالج متخصص في اضطرابات ما بعد الولادة المرتبطة بالاكتئاب كي تكون الجلسات أكثر فاعلية، إلى جانب إمكانية الانضمام لمجموعات دعم للأمهات الجدد.

أحد العناصر المهمة التي يجب التركيز عليها كذلك، هو الالتزام بنمط نوم صحي؛ فالنوم المتقطع يُضعف عملية الشفاء من اكتئاب ما بعد الولادة، لذلك سيكون من الجيد وضع جدول للنوم بالتعاون مع الزوج أو العائلة، مع الانتباه للنظام الغذائي والحرص على جعله صحيًا قدر الإمكان بتجنب السكر والنشويات، والتركيز على البروتينات الخالية من الدهون والأطعمة التي تحتوي على فيتامين «د» و«أوميجا 3».

توجد أيضًا طريقة فعالة للعلاج عن طريق اللمس، والذي أثبتت الدراسات أنه يساعد في تقليل الاكتئاب، بزيادة هرمون الأوكسيتوسين الذي ينعكس على الشعور بالسعادة، ويمكن أن يتحقق ذلك بأكثر من وسيلة سواء بحمل الطفل، أو ملامسة شريك الحياة أو اللعب مع حيوان أليف.

كما اكتشفت دراسة نشرتها المجلة البريطانية للطب النفسي في فبراير(شباط) 2018 أن الغناء من الممكن أن يساعد الأم في تجاوز اكتئاب ما بعد الولادة، فقد توصل الباحثون إلى أن الأمهات اللواتي شاركن في جلسات غنائية جماعية بصحبة أطفالهن تحسنت حالتهن بشكل أسرع، وشملت الدراسة 134 أمًا من اللاتي يعانين من هذا النوع من الاكتئاب خضعن لثلاثة أنواع من الجلسات، الاولى تشارك فيها الأم بالغناء، والثانية تشارك فيها بالألعاب الابتكارية، أما الثالثة فتحصل فيها على الرعاية، سواء من خلال الدعم الأسري، أو تناول مضادات الاكتئاب.

وكانت النتيجة تحسن جميع الفئات على مدار المدة المخصصة التي امتدت لـ10 أسابيع، إلا أنه في الأسابيع الستة الأولى أظهرت مجموعة جلسات الغناء زيادة في التحسن بنسبة 35%، بالمقارنة مع مجموعتي الرعاية والألعاب الابتكارية.

المصدر: صحف ومواقع / إسبانيا بالعربي.

أخبار جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *