تعرض أغلبها للحرق عمدًا.. هذا ما بقي من الآثار الأندلسية في البرتغال
حين وصل العرب حوالي عام 711 ميلادية إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، والتي أصبحت اليوم إسبانيا والبرتغال، لم يكن لوجودهم التأثير نفسه على مناطقها؛ فقد كان وجودهم على الحدود الشمالية ضعيفًا، بينما كان قويًا في الجنوب، وهناك في الجنوب خضعت البرتغال للحكم الإسلامي لحوالي خمسة قرون من تاريخها، وكانت تُسمّى حينها غرب الأندلس.
تركت هذه الحقبة آثارها على اللغة البرتغالية، وهي تضم اليوم آلاف الكلمات ذات الأصل العربي، أبرزها: الفعل «mourejar» الذي يستمدّ أصله من موري، أو مسلم، ويعني الاجتهاد والمثابرة.
على جانب آخر، صارت مدينة شِلْب بمثابة عاصمة للمنطقة، وكان بين الحكام الذين مروا على حكمها المعتمد بن عباد في خلافة أبيه المعتضد، وعرف منها ابنها أبو ابن بكر بن عمار، الشاعر الذي صار وزيره فيما بعد، وتدريجيًا انحسر الوجود العربي في البرتغال؛ إذ قام المسيحيون، في البرتغال وفي الممالك الإسبانية، بمحاصرة المسلمين؛ ليقتصر وجودهم على غرناطة، تاركين خلفهم آثارًا حاضرة هناك، وإن قلّت عما تركوه في إسبانيا، لكنها بقيت تذكّر بأن العرب كانوا جزءًا من تاريخ هذا البلد؛ تركوا آثارهم على اللغة والهندسة المعمارية، والتأثير الأكبر كان في مجال الملاحة.
لماذا اندثرت الآثار الأندلسية في البرتغال؟
أقام المسلمون مراكز حضرية في لشبونة وشنترين وفي باجة ومارتلة، وحلّ العرب محل القوط الغربيين القدامى شيئًا فشيئًا، وأظهروا تسامحًا مع العادات والتقاليد المحلية، وتركوا للسكان حرية ممارسة شعائرهم الدينية، وهيّأوا الظروف الملائمة لإقامة اتصالات اقتصادية وثقافية مثمرة بين المسيحيين والمسلمين.
وبالرغم من أن ما تركه العرب كان يماثل ما تركه الرومان في البرتغال، إلا أنه لم يبق منه الشيء الكثير؛ إذ كانت سياسة المسيحيين في هذا المنطقة، فيما سًمّي بـ”حروب الاسترداد”، هي حرق كل ما تركه المسلمون من آثار ومبانٍ، حتى أن بعضها أًضرمت فيه النار لأيام متتالية.
مع ذلك فقد بقيت آثار عربية على الموسيقى والآثار الخزفية والسجاد والمصنوعات المعدنية، وكان هناك أثر كبير في فنون الري ومجال الزراعة تمثل في دخول محاصيل مثل البرتقال والليمون واللوز والأرز والعنب والتين، فضلًا عن اللغة التي دخلتها أفعال من أصل عربي يتعلق أغلبها بالزراعة والري والأدوات.
كما ظهر تأثير تلك الفترة على موسيقى الفادو التي تعتبر – حتى لمن لا يعرف لغتها – نافذة على الروح البرتغالية بمعاناتها، وبما تحمله من قوة وصبر.
ألفاما.. مدينة برتغالية بتخطيط عربي
يعتبر حي ألفاما هو الجزء العربي من مدينة لشبونة أقدم مناطقها، وقلب البرتغال التاريخي، ويعود اسم هذا الحي إلى كلمة «الحمّة» بالعربية، وتعني عين الماء الساخن، كان الفينيقيون هم أول من بنى مدينة ألفاما – كما يرجّح المؤرخون – لكن العرب هم من خطط المدينة الواقعة أعلى تلة تشرف على نهر تاجة؛ لتكون بمأمن من الهجمات، ويسهل الدفاع عنها، وقد بنى العرب فيها قلعة لا تزال قائمة حتى اليوم: قلعة سانت جورج، وكانت مقر الحكم الإسلامي للمنطقة.
وحتى الآن لم يتغير تخطيط المدينة عما بناه المسلمون، شوارع ضيقة مرصوفة بالحصى، ومزهريات فخارية تحمل الزهور وتتدلى من جدران الأزقة الضيقة، وسلالم حجرية، ومنازل بيضاء تشبه مدن الأندلس القديمة، والمدن المغربية، بنوافذها الخشبية وشرفاتها التي تتدلى منها النباتات والزهور، جمال لا يخلو من رائحة فقر يشعر به زائرو المدينة المنسية منذ سنوات، يضفي عليها مزيدًا من الغموض والإثارة.
قلعة الحكام في شِلب.. أرض الأشواق
تعتبر أبرز الآثار العربية الباقية في البرتغال، شُيدت القرية في القرن التاسع الميلادي، في أواخر العهد الأموي، كانت أصول سكان شِلب من الأندلسيين تعود لأصول يمنية، وكانوا يتحدثون لغة عربية سليمة، وظهر بينهم كثير من الشعراء، وقد كان موقع المدينة على تلة يتدفق منها نهر أرادي الذي يصب في المحيط الأطلسي؛ فازدهرت الملاحة في المنطقة.
كانت شِلب حاضرة في كتب الجغرافيين والرحالة مثل الإدريسي والحميري، وعبّر الشعراء عن ارتباطهم بالمدينة، وكان أشهرهم المعتمد بن عباد حين قال مخاطبًا صديقه ابن عمار (أبا بكر):
أَلا حيّ أَوطاني بِشِلبٍ أَبا بَكرٍ
وَسَلهُنّ هَل عَهدُ الوِصال كَما أَدري
وَسَلِّم عَلى قَصر الشَراجيب عَن فَتىً
لَهُ أَبَدًا شَوقٌ إِلى ذَلِكَ القَصرِ
كانت القلعة مقر الحكم الإسلامي والشاهد على تاريخ المدينة حتى عام 1248، حين استولى عليها المسيحيون، وكانت تضم إلى جانب الثكنات العسكرية والتحصينات، صوامع لتخزين القمح، ومنازل المسؤولين عن الإدارة، وكان أفخم أقسامها بالطبع قصر الحاكم وعائلته.
بلغت مساحة القلعة 12 ألف كيلومتر مربع، وشيد فيها 11 برجًا، ولعبت دورًا تاريخيًا في حماية المدينة والدفاع عنها في عصر الموحدين، وبعدها عانت القلعة من الإهمال. قبل سنوات فقط قامت مجموعة من الفرق البحثية بالتنقيب عن قطع أثرية تجمع تاريخ القلعة، وكان بينها ثلاثة آبار وأوان وأباريق وقطع سيراميك منقوشة ذات أصول عربية، وبقايا جِرار يُرجّح أنها كانت تحتوي على عطور.
كانت القلعة تتضمن أيضًا صهريجًا كبيرًا يوفر المياة للقلعة ولكل المدينة، بسعة مليون و300 ألف لتر من المياه، توفر ما يكفي حوالي 12 ألف فرد لمدة عام كامل.
كنيسة مارتيث.. مسجد مرتلة
إلى جانب القلاع والمباني العسكرية التي بقيت في البرتغال واستُخدمت في الدفاع عنها ضد هجمات الفايكنج، حفظت مدينة مرتلة أحد مساجد القلعة، والذي تحول إلى كنيسة، لكنه ظل محتفظًا بطرازه في المئذنة، ومكان الوضوء، وصحن المسجد بأعمدته المشابهة لمسجد قرطبة، والمحراب، وترجّح الاكتشافات الأثرية الحديثة أن يكون المسجد قد بني على آثار كنيسة قوطية أو معبد روماني، وفي القرن السادس عشر تم وضع جرس أعلى المئذنة؛ ليتحول المسجد إلى كنيسة.
قلعة “Paderne”.. عمارة إسلامية تزين علم البرتغال!
هي إحدى القلاع السبعة التي تزين علم البرتغال اليوم، وهي أبرز آثار العمارة العسكرية الإسلامية في شبه الجزيرة الأيبيرية. تقع القرية في منطقة الغرب (Algarve)، في بلدية فارو، على ضفاف نهر كوارتيرا، وتشرف على منظر خلاب أعلى المنطقة، وتبلغ مساحتها ألف متر مربع.
وبشكل عام فقد كان أكثر ما بقي من الآثار الإسلامية – الملموسة – في البرتغال هي القلاع والقصور التي بقيت بهدف الدفاع عن المدينة، وعبر التاريخ أضيفت إليها أبنية أخرى من طرز مختلفة، بحيث تعبر معظم القلاع الباقية حتى اليوم عن تاريخ البرتغال العربي – الذي استمر 500 عام – وما تلاه، وهي آثار لم تلتفت إليها البرتغال، ولم تولها العناية؛ فضاع كثير منها بسبب الزلازل، أو بسبب الإهمال، وقبل سنوات فقط تجدد الاهتمام بالتراث العربي والإسلامي، فأُنشئ المركز البرتغالي للدراسات العربية عام 2004، وبدأت بعص الفرق البحثية في التنقيب عن القطع الأثرية التي دُفنت في القلاع التي شيدها المسلمون، ويعرف المثقفون البرتغاليون أن التأثير الأكبر للحكم الإسلامي على البرتغال هو ذلك التأثير غير الملموس في اللغة والثقافة والتاريخ.
إسبانيا بالعربي.