السمح بن مالك.. لماذا هاجم أمير الأندلس جنوب فرنسا؟
عندما تولى عمر بن العزيز الخلافة، سنة 99هـ، وشرع في تطبيق سياسته الإصلاحية العادلة، اختار السمح بن مالك الخولاني، واليا على الأندلس، لما اختبره منه من أمانةٍ وديانةٍ، ولتحققه من توافر صفات الأهلية والقدرة والكفاية فيه، للنهوض بالمسؤوليات الملقاة على عاتقة، وكان السمح هو رابع ولاة الأندلس، التي كانت جزءا من ولاية أفريقية في عهد الوليد وسليمان بن عبد الملك.
وقد قرر عمر بن عبد العزيز، أن تكون الأندلس ولاية مستقلة عن ولاية أفريقية، ومرتبطة بالخلافة مباشرة، وأمر السمح بتخميس ما تبقى من أرض الأندلس، التي فتحت عنوة، كما أمره أن يكتب إليه بصفة الأندلس وأنهارها وبحرها وهيئة مجازها، وأوصاه أن يحمل الناس على طريق الحق، ولا يعدل بهم عن منهج الرفق.
فوصل السمح بن مالك إلى قرطبة في رمضان سنة 100هـ، وهو ممتلئٌ حماسة وعزما، وفعل ما أمره به الخليفة عمر بن عبد العزيز، وبنى القنطرة على نهر قرطبة (الوادي الكبير)، ورمم الأجزاء المتخربة من سور قرطبة الغربي. وكان السمح من خيرة الولاة الذين تولوا أمر الأندلس، وكان فوق كفايته الإدارية، ذا حماس للجهاد في سبيل الله، وفي عهده تجددت الفتوحات، فيما وراء جبال البرت، الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا، بصورة منظمة وجدية، بعد أن كانت قد توقفت حوالي سبع سنوات، بعد رحيل القائدين الفاتحين، موسى بن نصير، وطارق بن زياد، إلى الشام، في ذي الحجة سنة 95هـ.
في ربيع 721م/ 102هـ، خرج السمح بن مالك على رأس حملة عسكرية، واخترق جبال البرينية من الممر الساحلي التقليدي، على البحر المتوسط، في جهة برشلونة، في شمال شرقي الأندلس، وافتتح مقاطعة سبتمانيا، في جنوب شرقي فرنسا، بمدنها السبع الكبرى، وفي مقدمتها، نربونة، تلك المدينة المهمة، ذات الموقع الاستراتيجي، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، فقام السمح بتحصينها وشحنها بالمؤمن والرجال، وأقام عليها حاكما من قبله، وجعلها ثغرا للأندلس، وراء جبال البرت، وقاعدة عسكرية إسلامية لمواصلة الفتوحات، في هذه البلاد، التي عرفت في المصادر العربية باسم “الأرض الكبيرة”، أو غالة أو بلاد الفرنجة (فرنسا).
وكانت مملكة الفرنجة، التي أسسها كلوفيس، في القرن الخامس، آنذاك قد فقدت سلطتها المركزية، وغدت منقسمة على نفسها، ففي الجنوب دوقية أكيتانيا (أقطانية)، وتشمل كل فرنسا الحالية، جنوب نهر اللوار، وعاصمتها بردو في الغرب عند مصب نهر الجارون، وفي الجنوب الشرقي، مقاطعة بروفانس، وتشمل المنطقة الواقعة بين نهر الرون، وسلسلة جبال الألب البحرية، التي تفصل بين أيطاليا وفرنسا وسويسرا، وعاصمتها أبنيون، وإلى الغرب من نهر الرون، مقاطعة برغندية، وعاصمتها ليون، وفي الشمال، أي شمال نهر اللوار، الجزء الأساسي من المملكة الميروفنجية، وكانت تمتد شرقا حتى تشمل المانيا الحالية، وكان يحكمها المتأخرون من ملوكها، الذين كانوا، حينذاك، ملوكا ضعافا، مغلوبين على أمرهم، أما السلطة الحقيقية، فكانت في يد محافظ القصر، أو رئيس البلاط.
عند عبور السمح بن مالك، إلى أراضي غالة، كان رئيس البلاط، هو الرجل القوي المعروف باسم شارل، والذي سيكون له شأن عظيم في تاريخ النصرانية، في غرب أوروبا، وكانت إرادته هي الغالبة في شؤون الدولة. أما فرنسا كاصطلاح جغرافي، أو كوحدة سياسية، فلم تكن قد وجدت بعد، وكذلك لم تكن، قد تكونت بعد اللغة الفرنسية، وقتذاك.
والمهم أن السمح بن مالك بعد أن انتهى من أمر نربونة، واستكمل فتح مقاطعة سبتمانيا، زحف على رأس جيشه نحو الشمال الغربي، لغزو دوقية أقطانية، فعبر نهر الجارون، واستمر في التقدم حتى وقفت طلائعه بأبواب طولوشة (تولوز)، والتي كانت مفتاح الدخول إلى دوقية أقطانية، وشرع المسلمون في محاصرتها، ومحاولة اقتحام أسوارها الحصينة.
بيد أن نشاط السمح بن مالك هذا، في دوقية أقطانية، أثار روع سيدها الدوق أودو، هذا الأخير، الذي كان أقوى أمراء الفرنج في جنوبي فرنسا، واستطاع أودو، أن يجمع في تلك الأثناء، جيشا ضخما، قبل أن يقرر التحرك نحو تولوز، لرد المسلمين.
ولما علم السمح بن مالك بزحف أودو نحوه، ارتد عن مهاجمة تولوز، وشرع في تعبية جيشه لملاقاته، رغم تفوق جيش الدوق أودو في العدد، على جيش المسلمين، وما لبث الجمعان أن التقيا في ضواحي مدينة طولوشة، ونشبت بين الطرفين معركة هائلة، تلاحمت فيها الرماح والسيوف، وأتسم القتال فيها بالشدة والعنف، وأبدى المقاتلون المسلمون، رغم قلتهم، شجاعة خارقة، وصبروا صبرا فريدا، وكان السمح في الصف الأول، وكان يقاتل قتال الأبطال، ويتنقل من مكان إلى مكان، لحث هؤلاء الجنود على الثبات، ولاستنهاض هممهم، واستثارة جذوة حماسهم، لأقصى درجةٍ، وكان سيفه، في أثناء ذلك، يقطر من دم الأعداء، لكنه لم يلبث أن سقط شهيدا، بعد أن تكاثرت عليه، وعلى المسلمين، جموع الفرنجة.
وعلى أثر مقتل هذا البطل تصدى للقيادة العامة، صديقه، الرجل البارز في الجيش، عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، فبذل الهمة في جمع شتات جيشه وفلوله، وقاد عملية انسحابه ببراعةٍ، إلى نربونة، القاعدة الإسلامية المنيعة في سبتمانيا، ومنها إلى الأندلس. وبالرغم من أن معركة تولوز قد انتهت بتلك الهزيمة القاسية والأليمة للمسلمين، إلا أنها لم تؤدِّ إلى كسر شوكتهم، بل إنها زادت من إصرارهم على متابعة حركة الفتح في تلك النواحي، كما أن المسلمين لم يفقدوا الفتوحات التي حققها السمح بن مالك في سبتمانيا، ففتوحاته في سبتمانيا ظلت باقية لا سيما نربونة، عاصمة المقاطعة، التي صارت ثغرا للأندلس وراء جبال البرت، وحصنا حصينا للمسلمين هناك.
كانت حملة السمح بن مالك هذه على جنوب فرنسا، بالغة الأهمية بالنسبة للمسلمين، فقد أطلعتهم على أحوال هذه البلاد، ومهدت لما بعدها من حملات. وكان السمح بن مالك، هو أول قائد مسلم، من ولاة الأندلس، يسقط شهيدا في هذه البلاد، ويضرّج دمه الزكي الطاهر، ثرى هذه الأرض، وعلى خطاه سار بقية القادة الفاتحين الاستشهاديين في فرنسة: عنبسة بن سحيم الكلبي، وعبد الرحمن الغافقي، وعقبة بن الحجاج السلولي.
أما بالنسبة لجانب الفرنجة، فهناك مؤرخون غربيون، وعلى رأسهم المؤرخ التولوزي سيدني فواردو يعتبرون هذه المعركة، أهم من معركة “تور– بواتية” وهي تسميتهم لمعركة “بلاط الشهداء”، سنة 114هـ/732م، في التصدي لما اسماه “الزحف الإسلامي”، إذا يرى هذا المؤرخ، أنه لو كان المسلمون انتصروا على الدوق أودو في هذه المعركة، لتيسر عليهم اجتياح فرنسا كلها، لأن شارل مارتل، رئيس البلاط، الذي كانت بيده مقاليد أمور المملكة الفرنجية، آنذاك، لم يكن قد تخلص بعد من متاعبه الداخلية، وبالتالي، فهو لم يكن مستعدا بعد، لمواجهة المسلمين، على الصورة، التي صار عليها، بعد ذلك، باثني عشر عاما، أي قبيل مواجهته الحاسمة للمسلمين، في معركة “تور – بواتية”.
في حين هناك، مؤرخون غربيون آخرون، مثل بول ك. دافيس يشيرون إلى أن انتصار ما سماها “المسيحية”، في تولوز، كان هاما، في المنظور التاريخي، على المدى البعيد، كونه أعطى شارل ما رتل، الوقت الذي يحتاجه لتعزيز قبضته على السلطة، وتوطيد سلطانه، وبناء الجيش الخبير، الذي وقف به في مكان جيد في تور، بعد ذلك بإحدى عشرة سنة.
إسبانيا بالعربي.