«هاكونا ماتاتا».. كيف أصبحت «السواحلية» اللغة الأكثر انتشارًا في أفريقيا؟
عند الحديث عن اللغات في القارة الأفريقية، ربما يتجه تفكيرنا سريعًا إلى اللغة الفرنسية، وكيف أنها اللغة الأكثر انتشارًا بسبب الاستعمار الفرنسي للقارة والنفوذ المستمر على عدة دول منها حتى اليوم. حسنًا، هذا ليس صحيحًا، فهناك لغات أخرى أكثر انتشارًا بينها العربية والإنجليزية.
لكن ما نريد التركيز عليه هنا هو اللغة ذات الأصل الأفريقي الأكثر انتشارًا وليست اللغات القادمة من مناطق أخرى؛ فالعربية منشؤها الجزيرة العربية، والإنجليزية منشؤها بريطانيا، والفرنسية منشؤها فرنسا، لكن اللغة السواحلية، هي اللغة الأصلية الأكثر انتشارًا في القارة السمراء، فما قصتها؟
نظرة على تنوع اللغات في أفريقيا
قبل التطرق للغة السواحلية، ربما علينا أن نلقي نظرة سريعة على حجم التنوع اللغوي في أفريقيا، باعتبارها ثاني أكبر قارة، من حيث عدد السكان والمساحة، إذ تعد أفريقيا واحدة من أكثر الأماكن تنوعًا في العالم، وتضم 54 دولة، هي متنوعة بشكل لا يصدق.
يقدر اللغويون أن ما يقرب من 2000 لغة أصلية يتم التحدث بها في أفريقيا، إلى جانب المزيد من اللغات العالمية مثل الإنجليزية والفرنسية. وبسبب هذا التنوع، يتقن العديد من الأفارقة لغتين على الأقل، إن لم يكن ثلاث لغات، فعلى سبيل المثال، يوجد في جنوب أفريقيا وحدها 11 لغة رسمية.
من الصعب حساب اللغات الأكثر استخدامًا في القارة بدقة، نظرًا لتفاوت مستويات الطلاقة بين اللغات الثانية والثالثة، فقد تحتوي بعض اللغات على عدد قليل من المتحدثين الأصليين، ولكن يوجد عدد كبير من المتحدثين بشكل عام.
بالنسبة للغة العربية، عدد الناطقين بها (باعتبارها لغة أصلية) 150 مليون شخص في أفريقيا، أما الإنجليزية، عدد المتحدثين بها في أفريقيا باعتبارها لغة أصلية يبلغ 6.5 مليون فقط، بينما يتحدث بها إجمالًا 130 مليون ناطق، ويتحدث بالفرنسية إجمالًا في أفريقيا 115 مليون شخص، وهي اللغة الأولى في بعض الدول مثل ساحل العاج والغابون.
السواحلية.. لغة توحد الأفارقة
أما السواحلية، فيتحدث بها في أفريقيا إجمالًا أكثر من 15 مليون باعتبارها لغة أصلية، بينما يتحدث بها إجمالًا 100 مليون أفريقي. بينما تشير مصادر أخرى إلى أن إجمالي الناطقين بالسواحلية في أفريقيا يتجاوز 200 مليون شخص، وهي لغة مشتركة توحد الكثيرين في دول شرق ووسط أفريقيا، حيث يتحدث بها بوصفها لغة أصلية سكان أكثر من 10 دول أفريقية، بما في ذلك كينيا وموزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وقد كانت اللغة السواحلية مجرد لهجة يتحدث بها سكان جزيرة غامضة من شعب البانتو الأفريقي، ثم تطورت هذه اللغة لتصبح أكثر لغات أفريقيا الأصلية المعترف بها دوليًا، حاليًا، تمتد المنطقة الناطقة بها في أفريقيا عبر ثلث القارة بالكامل من الجنوب إلى الشمال، وتتركز في قلب أفريقيا.
جدير بالذكر أن شعوب البانتو يمثلون حاليًا 85 مليون شخص يتحدثون بأكثر من 500 لغة مميزة من مجموعة لغات البانتو، ويحتلون تقريبًا المساحة بين أفريقيا الوسطى وجنوب أفريقيا. تصنيف هذه الشعوب يعود بالدرجة الأولى إلى اللغة، لأن الأنماط الثقافية لمتحدثي البانتو متنوعة للغاية. ومن المتفق عليه عمومًا أن ما يقرب من ثلث القارة التي تحتلها اليوم الشعوب الناطقة بالبانتو كانت حتى ما يقرب من ألفي عام، تحت سيطرة مجموعات أخرى.
على مدى ألفي عام من نمو وتطور اللغة السواحلية، ساهم في هذا الانتشار عدة عوامل تتعلق بالهجرات الداخلية في أفريقيا، بالإضافة إلى التجار من آسيا، والفاتحين العرب، والغزاة والمستوطنين الأوروبيين، والهنود، والحكام الاستعماريين، وفترة ما بعد الاستعمار المختلفة، كل هؤلاء استخدموا السواحيلية لأغراضهم الخاصة، وأخذوها أينما ذهبوا.
من أين أتت هذه اللغة؟
كما ذكرنا سابقًا، نشأت اللغة السواحلية بوصفها لهجة ضمن لهجات لغة البانتو، الذين سكنوا ساحل شرق أفريقيا، والكثير من مفرداتها متشابهة مع لغات شعوب بوكومو وتايتا وميجيكيندا، وكلها شعوب ضمن البانتو في كينيا وغيرها، وبدرجة أقل مع لغات البانتو الأخرى في شرق أفريقيا.
على الرغم من اختلاف الآراء حول التفاصيل، فقد زعم تاريخياً أن حوالي 20% من المفردات اللغة مشتقة من الكلمات المستعارة من لغات أخرى، الغالبية العظمى منها من اللغة العربية نتيجة استخدام السكان المسلمين للقرآن، بالإضافة لمساهمات من الفارسية والهندوستانية والبرتغالية والماليزية. هذا الأمر يظهر لنا ما سنذكره تاليًا من أن السواحلية الحالية تطورت نتيجة تلاقي الكثير من الشعوب في منطقة الساحل الشرقي لأفريقيا.
استخدمت كلمة «سواحلية» من قبل الزائرين العرب الأوائل للساحل الشرقي في إشارة لمصطلح «الساحل». وفي النهاية، استخدم اللفظ بشكل عام لوصف هذه اللهجة الخاصة من لهجات البانتو الأفريقية.
الساحل الشرقي لأفريقيا.. حيث تلاقت الأمم
هناك اقتراح آخر يقول أنخت لغة قديمة في أصلها، فأقدم وثيقة معروفة تروي الوضع الماضي على ساحل شرق أفريقيا كتبت في القرن الثاني الميلادي (باللغة اليونانية من قبل مؤلف مجهول في الإسكندرية تسمى Periplus of Erythrean Sea) تقول إن التجار الذين يزورون ساحل شرق أفريقيا في ذلك الوقت من جنوب شبه الجزيرة العربية، اعتادوا التحدث مع السكان الأصليين بلغتهم المحلية وتزاوجوا معهم.
تقع الأراضي التاريخية للغة السواحلية على ساحل شرق أفريقيا على المحيط الهندي، وتضم هذه المنطقة سلسلة من المدن الساحلية بطول 2500 كيلومتر من مقديشو الصومالية شمالًا إلى سوفالا الموزمبيقية وكذلك الجزر البحرية البعيدة مثل جزر القمر وسيشيل جنوبًا.
تعد هذه المنطقة الساحلية مفترق طرق دولي للتجارة والحركة البشرية منذ القدم، فالناس من جميع المناطق مثل إندونيسيا وبلاد فارس والبحيرات الأفريقية الكبرى والولايات المتحدة وأوروبا واجهوا بعضهم البعض في تلك المنطقة، واختلط الصيادون والرعاة والمزارعون بالتجار وسكان المدن، فالتقى الأفارقة المرتبطون بهوياتهم وأجدادهم بالمسلمين والهندوس والبرتغاليين الكاثوليك والإنجليكانيين البريطانيين، واختلط العبيد والحمالين والعمال بالجنود والحكام والدبلوماسيين معًا منذ العصور القديمة. لذلك، كان يمكن لأي شخص من القادمين إلى الساحل الشرقي الأفريقي أن يختار هذه اللغة كلغة حوار، وقد فعل الكثيرون ذلك.
السواحلية.. وتحرير أفريقيا
خلال العقود التي سبقت استقلال كينيا وأوغندا وتنزانيا في أوائل ستينيات القرن العشرين، عملت اللغة السواحلية وسيلة دولية للتعاون السياسي بين تلك الدول في وجه الاستعمار، فلقد مكنت هذه اللغة الأفريقية الأكثر انتشارًا المقاتلين الباحثين عن التحرر من الاستعمار في جميع أنحاء تلك المناطق من توصيل ومشاركة تطلعاتهم المشتركة، على الرغم من اختلاف لغاتهم الأصلية على نطاق واسع.
هذا الأمر أصبح لافتًا إلى درجة أن الكلمة السواحلية «أوهورو» والتي تعني الحرية، والتي نشأت عن هذا النضال من أجل الاستقلال، أصبحت جزءًا من المعجم العالمي للتمكين السياسي، وكان صعود اللغة السواحلية، بالنسبة لبعض الأفارقة، علامة على الاستقلال الثقافي والشخصي الحقيقي عن الأوروبيين المستعمرين ولغاتهم في السيطرة والقيادة، وهذا الأمر يتضح حتى يومنا هذا، فبشكل فريد من بين الدول الأفريقية المستقلة، تستخدم حكومة تنزانيا اللغة السواحلية في جميع الأعمال الرسمية حتى في التعليم الأساسي.
بدأت أعلى المناصب السياسية في شرق أفريقيا في استخدام اللغة السواحلية، والترويج لها بعد الاستقلال بفترة وجيزة؛ فروج الرئيس التنزاني يوليوس نيريري، وجومو كينياتا رئيس كينيا، للغة السواحلية باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من المصالح السياسية والاقتصادية في المنطقة، وجزءًا من الأمن والتحرير.
قام الرئيس التنزاني جوليوس نيريري السابق شخصيًا بترجمة اثنتين من مسرحيات ويليام شكسبير إلى اللغة السواحلية لإثبات قدرة هذه اللغة على تحمل الوزن التعبيري للأعمال الأدبية العظيمة.
السواحلية الآن
اليوم، اللغة السواحلية هي اللغة الأفريقية الأكثر شهرة خارج القارة؛ إذ أصبح الوجود العالمي للغة السواحلية في البث الإذاعي وعلى الإنترنت لا مثيل له بين لغات أفريقيا جنوب الصحراء. تبث اللغة السواحلية بانتظام في بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وكينيا وليبيريا ونيجيريا ورواندا وجنوب أفريقيا والسودان وسوازيلاند وتنزانيا.
على الساحة الدولية، لا يمكن سماع أي لغة أفريقية أخرى غير السواحلية من محطات الأخبار العالمية في كثير من الأحيان أو على نطاق واسع. ظهرت الكلمات السواحلية منذ عام 1931 في مئات الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، مثل Star Trek وOut of Africa وThe Lion King وLara Croft: Tomb Raider.
فعلى سبيل المثال في فيلم “The Lion King”، ظهرت كلمات عديدة من السواحلية، أكثرها شيوعًا هي أسماء الشخصيات، بما في ذلك سيمبا (أسد)، رفيقي (صديق)، وبومبا (كن مذهولًا)، وتضمنت العبارات السواحلية في الفيلم أيضًا «أسانتي سانا» (شكرًا جزيلاً لك)، وبالطبع العبارة الشهيرة، التي تشير إلى فلسفة عدم وجود مشكلة: «هاكونا ماتاتا».
في النهاية، يمكن القول أنه ومع افتقار اللغة السواحلية إلى عدد المتحدثين الأصليين، والثروة، والقوة السياسية المرتبطة باللغات العالمية مثل الماندرين أو الإنجليزية أو الإسبانية، إلا أنها اللغة الوحيدة التي تضم أكثر من 200 مليون متحدث بها، والغريب أن المتحدثين بها كلغة ثانية يفوق بكثير عدد المتحدثين بها كلغة أم (15 مليون فقط).
إسبانيا بالعربي.