المهاجرون الأندلسيون و آثارهم بالجزائر..
أخبار إسبانيا بالعربي – أدَّت الهجرات الأندلسية المتتابعة نحو مدينة الجزائر إلى ارتفاع عدد السكان من 25 ألف (1518م) إلى 70 ألف (1580) ليرتفع إلى ما بين 100 ألف و120 ألف نسمة عام 1634م حسبما يستنتج من المصادر المعاصرة، بحيث أصبح الأندلسيون يشكلون ربع سكان مدينة الجزائر في بداية القرن الحادي عشر الهجري، مستهل القرن السابع عشر الميلادي، فقد قدر الراهب الأسباني هايدو(Haèdo) عددهم عام 1609م بما لا يقل عن 25000 نسمة وهذا ما اضطر حكام الجزائر إلى تحويل قسم منهم إلى الأرياف المجاورة كما حدث عام 1512م.
كما انجرَّ عن تكاثر الأندلسيين بمدينة الجزائر تخصيص أماكن أخرى لاستقرارهم غير بعيد عن الجزائر، فقد أقامت أسر أندلسية بزعامة سيدي أحمد الكبير في مدينة البليدة(942هـ/1535م) وأنشأت جماعات المدجنين القادمين من قشتالة وثغور بلنسية مدينة القليعة(957هـ/1550م)، وطوروا كما سلف مدينة القل، وساحل الجزائر الشرقي، وجعلوا من مرفأ ثامنتفوست حصنًا وقلعة لحماية الجزائر البيضاء المحروسة، انتقامًا من الإسبان الذين أذاقوهم الأمرين.
لم يمانع حكام الجزائر تشجيع بعض الأندلسيين للعودة إلى وطنهم بهدف الجوسسة أو إثارة إخوانهم المدجنين ضد الحكم الأسباني، وفي هذا الإطار من النشاط السرِّي سارع موريسكيو بلنسية إلى إخبار إخوانهم بالجزائر بالاستعداد الأسباني للقيام بحملة بحرية ضد الجزائر سنة 1601م فأرسلوا لهذا الغرض زورقًا على جناح السرعة وعندما نجحت مساعيهم وفشل الهجوم الإسباني لم يترددوا حسب الوثائق الإسبانية التي أوردت الخبر من إقامة حفلات بهيجة جماعية تعبيرًا عن تضامنهم مع إخوانهم بالجزائر(1).
الدعم العسكري
ساعد الأندلسيون في تدعيم الحكم العثماني بالجزائر، وقدموا يد المساعدة والعون للأخوين عرُّوج وخير الدين بربروسة في صراعهم مع الإسبان حيث كان الأخوان سببًا بعد الله في خلاص كثير من المسلمين من أيدي الكفرة المتمردين ونقلهم إلى أرض الإسلام.
اتخذ حكام الجزائر منذ عهد خير الدين من الأندلسيين جنودًا لحراسة أبراج مدينة الجزائر وألَّفوا منهم فرقًا عسكرية شاركت في توطيد الحكم العثماني في الأقاليم الداخلية للجزائر، فقد شارك 500 أندلسي من أهالي غرناطة وأراغون وبلنسية في الحملة التي شنها خير الدين للقضاء على حميد العيد حليف الإسبان المستبد بمدينة تنس ونواحيها عام 1517م كما كلفت جماعات الأندلسيين بحراسة مدينة المدية بعد أن تمكن خير الدين من تنحية محمد بن العابد وإلحاقها بالسلطة المركزية بالجزائر، كما قضت فرقة من الرماة (500) على حاكم مليانة المدعو حسن أيام حسن بن خير الدين.
تزايد عدد المدجنين الأندلسيين المدافعين عن الجزائر المحروسة وبلغ شهداؤهم أيام حملة الصليبي شارل كانت حوالي 5000 شهيدًا وبلغ عدد الأندلسيين المجندين 6000 فرد من مجموع 15000 رجل المقدرين للجيش والقوة العسكرية الجزائرية(2). ولا يمكن لعاقل إلا الاعتراف لهؤلاء الأندلسيين بالفضل الكبير في تحديث الجيش الإسلامي بالجزائر في العهد العثماني نظرًا لخبرتهم الطويلة في الجهاد وصد حملات القوات العسكرية الإسبانية التي أذاقتهم الأمرين.
النشاط الاقتصادي
اشتغل أندلسيو فحص الجزائر في الأعمال الزراعية والتجارية والحرفية وتفوقوا في ضروب الصناعات التقليدية، وكان أغلبهم بباب الواد وباب عزُّون من صناع أهل الأندلس، وأهم الصناعات التي عرف بها الأندلسيون صناعة النسيج بمختلف أصنافها” أقمشة الكتان والقطن والحرير والمحمل (القطيفة)”،وقد كانت معامل الأقمشة في الربع الأول من القرن السادس عشر تضم ما لا يقل عن 3000 عامل كما لا تقل هذه الصناعة أهمية عن بقية الصناعات والحرف الأخرى التي أتقن صناعتها الأندلسيون وهي التطريز(الشبيكة) والقلانس(الشاشية) وصناعة الحلي وتجهيز السفن وصناعة الأسلحة.
لم يقتصر النشاط الاقتصادي الخاص بالهجرة الأندلسية في المتيجة وفحص الجزائر وبقية مدن وحواضر استقرارهم على الجانب الحرفي فقط، فقد نشطوا العمل الزراعي في الساحل الشرقي والغربي لمدينة الجزائر، حيث استصلحوا الأراضي وأخرجوا الماء ونظموا الرعي بفحص باب الوادي بواسطة مياه المعامل وفحوص باب عزون باستغلال مياه الحامة وواد خنيس ووادي الجر فبنوا الأحواض والصهاريج والسواقي والقنوات والحنايا والنوريات (الناعورات) وحفروا آبار الماء، وأنشأوا العيون، وكانت من أهمها عيون الحامة التي بناها أوسطى موسى، أحد الصناع الأندلسيين عـلى عهد قوصة مصطفى حاكم الجزائر(1610-1613م).
على أن أهم آثار الأندلسيين في مدينة الجزائر والبليدة والقليعة والمدية يتمثل في تلك التقنيات الزراعية المتطورة التي أدخلوها إلى هذه المدن من حيث آلات العمل الفلاحي وطرق التشذيب والتلقيح والغراسة واختيار التربة ونوعية المياه(3)، مما أدَّى إلى تحسين أنواع عديدة من الأشجار المثمرة كالعنب، والبرتقال والزيتون والتفاح والجوز واللوز والمشمش، وإدخال أنواع جديدة من الخضر والفواكه لم يألفها السكان قبلهم مثل:حب الملوك (الكرز) والنارنج والقرنون والكراث والجلبان والملفوف والباذنجان والطماطم والبطاطس والفلفل وأنواع الزهور والقرمز.
شكل الأندلسيون أساس اقتصاد مدينة الجزائر بمثل الأعمال الحرفية والتجارية والزراعية التي جلبوها معهم من موطنهم الأصلي الأندلس بمختلف أقاليمه. وكان الأندلسيون المهجرون نحو الجزائر نواة تطور مدينة البليدة حيث قاموا باستصلاح فحص المتيجة وأقاموا البساتين الغناء وأحواض الماء لسقي البساتين والحقول، فعرف سكان المنطقة سعة الرزق ورخاء المعيشة أثناء القرنين السادس عشر والسابع عشر وهذا ما جعل سيور دي لا كروى (Sieur de lacroix) يؤكد على أن 2000 موريسكي هم سبب في جعل مدينة الجزائر مدينة غنية بمشاغل الحرير والقطيفة وغيرها من الصناعات اليدوية المتطورة الدقيقة(4).
التأثير على البنية الاجتماعية لفحص الجزائر والمتيجة
ظل الأندلسيون شريحة اجتماعية متماسكة، يحتكر أفرادها أغلب المناصب الإدارية والوظائف الاجتماعية المهمة التي لم يشغلها الأتراك بمدينة الجزائر، وقد كانت لهذه الجماعة حظوة ومكانة لدى الحكام وتعامل خاص مع التجار الأوروبيين والمتعاملين اليهود الذين قدموا من الأندلس أو المدن الإيطالية وقد اشتهرت من هذه الطبقة الميسورة عدة أسر توارثت الثروة والنفوذ، واشتغل أفرادها بالتجارة والصناعة مثل ابن رامول، وابن هنِّي وابن النيقرو، وبرحال، وبوناتيرو، وبن تشيكو وبن الكبابطي، وبوضربة، وابن الشاهد، وابن الأمين، وابن عمار، وخوجة، والزهار، والآبلي وشلاسة، والعنجدون وغيرها(5).
ازدهار الحياة الفكرية والفنية بمدينة الجزائر
ساهم الأندلسيون بقسط وافر في التعليم بالمدارس المشهورة منها مدرسة الأندلس، مدرسة القشاش، كما كان لهم نصيب في فنون الأدب والثقافة لم يصل إلى مستوى أسلافهم من علماء بجاية وتونس وفاس ولكنه مكَّن من المحافظة على التقاليد التربوية والتعليمية الأندلسية كما ضمن استمرار التقاليد العلمية والفقهية والأدبية، فأصبح للفتح بن خاقان ولسان الدين بن الخطيب مثالا يحتذى به في فن الترسيل والنثر الفني، كما تؤكده أعمال ابن عمار وابن حمادوش وابن ميمون، كما تولَّى الأندلسيون الوظائف الشرعية كالقضاء والإمامة والخطابة والنظر في الأحباس والأوقاف واشتهر منهم في مجال القضاء: ابن النيقرو وابن الأمين وابن عمار وابن الكبابطي. أما في ميدان الفن فكان اهتمامهم كبيرًا كادوا ينفردون بتنشيط الحياة الفنية، فقد نقلوا إلى فحص الجزائر ومدنه الشهيرة الموشحات والأزجال الأندلسية المعروفة عندنا (بالمالوف) وأدخلوا آلات موسيقية أندلسية، وحافظوا عليها مثل العود والرباب، والكامنجة، والصنوج والطبيلة والطارو والدربوكة، وأحيوا المواليد والإخوانيات وقصائد المديح والغزل والتشبيب ووصف الطبيعة والرثاء، وشعر الحرب، ومن أشهر منظمي الموشحات أبو العباس أحمد بن عمار الأندلسي الجزائري متولي إفتاء المالكية سنة 1180هـ/1766م(6) وصاحب الرحلة الشهيرة “نحلة اللبيب في الرحلة إلى الحبيب”(7) و”لواء النصر”. ومحمد بن الشاهد الأندلسي الجزائري (ت.1207هـ/1793م).وعمر بن سيدي علي الأندلسي، متولي قضاء الحنفية سنة 1163هـ/1750م، وغيرهم من العلماء(8).
وفي الختام نقول إن الهجرة الأندلسية الأولى قبل سقوط غرناطة والهجرة الثانية بعد ثورة البشارات أعطت للجزائر عامة ومدنها الساحلية والداخلية خاصة بُعْدًا أندلسيا واضحًا، وأصبحت الجزائر وطنهم فدافعوا عنه بالغالي والنفيس طوال صراعها لمدة ثلاثة قرون مع إسبانيا النصرانية الكاثوليكية.
واندمج الأندلسيون مع “البلدية” من السكان “الحضر” والكراغلة وطبقة الأتراك، وشكلوا طبقة ميسورة. فتأثرت هذه الطبقة بلباس الأندلسيين ولهجاتهم، كما تأثر “البرانية” من البدو بسلوك هذه الفئة المتحضرة في المعاملة والمظهر الأنيق. فطبع الأندلسيون المدينة بطبائعهم الاجتماعية وأثروا على حرف مدينة الجزائر، كما أشار إلى ذلك أكثر من باحث في هذا العصر الذي كون مجتمعًا متماسكًا لمدة قرون حتى غزاهم الاستعمار، فدمروا العمران الموريسكي، وحطموا المساجد ومعاهد العلم وغيروا الشوارع بدعاوى توسيع المدينة، وهيمنوا على العقار، وأرجعوا سكان المدينة إلى عصر ما قبل تحضر المدينة في القرن السادس عشر والقرون التي جاءت بعده.
المراجع:
(1)- ناصر الدين سعيدوني، صور من الهجرة الأندلسية إلى الجزائر، ص:234.أحمد توفيق المدني، حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وأسبانيا(1492-1792م).الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1977م.
(2)- انظر رسالة فيليب الثاني ملك أسبانيا إلى فورك فو(Fourque Youls) سفير فرنسا بتاريخ 6 جويلية 1566م.ناصر الدين سعيدوني، صور من الهجرة الأندلسية إلى الجزائر،ص:236.
(3)-لمزيد من الإطلاع على مسائل الماء والتقنيات الفلاحية التي برع فيها الأندلسيون منذ عهد قديم انظر: محمد الأمين بلغيث، الحياة الفكرية بالأندلس في عصر المرابطين، المجلد الثاني،ص:529 وما بعدها.
(4)- سعيدوني، صور من الهجرة الأندلسية إلى الجزائر،ص:237.أحمد توفيق المدني، حرب الثلاثمائة سنة، ص:420.
(5)- سعيدوني، صور من الهجرة الأندلسية إلى الجزائر،ص:236.
(6)- أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي، الجزء الأول، بيروت، دار الغرب الإسلامي،1981م.ص:282.
(7)-هذه الأعمال من اهتمامات المؤرخ سعد الله ونشر نصوصها الهامة، كما نشر رسالة الغريب إلى الحبيب تأليف أحمد أبو عصيدة البجائي، بدار الغرب الإسلامي عام 1993م.
(8)- سعيدوني، صور من الهجرة الأندلسية إلى الجزائر، ص:239.
موقع إسبانيا بالعربي