أطاع لساني في مديحك إحساني
وقد لهجت نفسي بفتح تلمسان
فأطلعتها تفتر عن شنب المنى
وتسفر عن وجه من السعد حياني
كما ابتسم النوار عن أدمع الحيا
وجف بخد الورد عارض نيسان
كما صفقت ريح الشمال شمولها
فبان ارتياح السكر في غصن البان
تهنيك بالفتح لذي معجزاته
خوارق لم تذخر سواك لإنسان
هكذا تغزل الشاعر الأندلسي، «لسان الدين ابن الخطيب» بفتح مدينة تلمسان.
في طريقهم نحو بسط سيطرتهم على الشمال الأفريقي، يذكر الرحالة الألماني مالتسان في كتابه «ثلاث سنوات في شمال غربي أفريقيا»، أنّ الرومان نزلوا بمنطقةٍ ذات حدائقٍ خضراء وبساتين كثيرة، لينشئوا بها ملحقًا عسكريًا في إطار مشروع خط الدفاع الروماني المعرف بخطّ الليمس، لتتحوّل تلك الملحقة العسكرية في ظلّ السلطة العسكرية الرومانية إلى مدينة سُميت بمدينة «بوماريا» نسبةً إلى حدائقها وبساتينها الجميلة، ستتحوّل هذه المدينة في ما بعد إلى عاصمةٍ للجزائر، وإحدى أزهى الحواضر في التاريخ الإسلامي، قبل أن تقلّ أهميتها لدى الحكام العثمانيين للجزائر.
في الأسطر التالية من هذا التقرير نعود بالتاريخ إلى زمن غرناطة أفريقيا، مدينة تلمسان الجزائرية، حيث استمرت عاصمة الدولة الزيانية لأكثر من ثلاثة قرون.
أكادير أو بوماريا أو تلمسان.. تعددت الأسماء و«الأهمية» واحدة
اختلف المؤرخون في تحديد الفترة الأولى التي أهلت فيها تلمسان بالسكان، فهناك من ذهب بالقول أنّ إنسان ما قبل التاريخ يكون قد عمّر المنطقة خصوصًا بعد العثور على بقايا آثارٍ لما قبل التاريخ، وهناك من قال أنّ النبي سليمان نزل بها شهرًا، ومن الروايات التاريخية المتواترة أنّ الخضر (الرجل الصالح الشهير في حكاية النبي موسى) أقام فيها جداره الشهير.
قلل ابن خلدون من صحة الرواية تلك، والثابت في التاريخ أنّ أوّل المسميات التي أطلقت على مدينة تلمسان الحالية هو اسم أكادير، الذي يعود لأصل فينيقي قبل أن يدخل إلى اللهجة الأمازيغية، كما أسّس الفينيقيون مدينةً شمال تلمسان سموها بمدينة رشقون، قبل أن تسقط الجزائر أو نوميديا (التسمية الأولى للجزائر) تحت وطأة الاحتلال الروماني، حيث بنى الرومان سنة 222م مستعمرةً عسكرية بتلمسان.
وتحولت تلك المستعمرة إلى مدينة تحمل اسم بوماريا، وهي المدينة التي كانت تحتلّ أهميةً كبيرة لدى الرومان من خلال موقعها الاستراتيجي، إضافةً إلى كون بوماريا ملتقى طرقٍ تجاريةٍ مهمة بين مدينة قرطاجنة (مدينة في جنوب إسبانيا) وطبنة (مدينة بريكة التي تقع حاليًا في الشرق الجزائري)، حيث بنوا بها قناةً لحملِ الماء العذب يطلق عليها ساكنة تلمسان اليوم ساقية النصارى، وكان ابن خميس قد خلّدها في إحدى قصائده، بالقول: لساقية الروم عندي مزية … وإن رغمت تلك الرواسي الرواشح.
وبعد الفتح الإسلامي يذكر المؤرخ محمد طمار في كتابه «تلمسان من الفتح الإسلامي إلى قيام الدولة الزيانية» تعدّدت مسميات المدينة، فأطلق البربر على جزئها الجنوبي اسم تاقرارت، والذي يعني في اللهجة الأمازيغية معسكر، وهي المفردة التي أطلقها المرابطون بقيادة يوسف بن تاشفين الذي أعاد بناء المدينة من جديد في القرن الخامس الهجري، لتكون معسكرًا لجيشه.
ومع استقلال الدولة الزيانية عن دولة الموحدين في العقد الثالث من القرن الثالث عشر، اتخذت المدينة اسمها الحالي تلمسان، والذي يعود حسب المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون إلى أصل أمازيغي من مقطعين، الأوّل تلم ومعناه تجمع، والثاني سان ومعناه الاثنان، أي تجمع الاثنان وهما البر والبحر، بينما ذهب بعض المؤرخين أنّ تلمسان هي جمع لمفرد تلمست، والتي تعني حسب اللهجة الأمازيغية المكان الذي يستقرّ به الماء.
«قرطبة أفريقيا».. محط الأقطاب الصوفية و«استثمار» الموحدين
قاعدة المغرب الأوسط، لها أسواقٌ ومسجدٌ جامعٌ وأشجارٌ وأنهارٌ عليها الطواحين، وهو نهر سطفسيف، وهي دار مملكة زناتة، ومتوسطة قبائل البربر، ومقصدٌ لتجار الآفاق.
هكذا وصف أبو عبيد البكري مدينة تلمسان التي زارها وأرّخ لها في كتابه «المسالك والممالك»، فقد كان لتلمسان مقوماتٌ ضخمة جعلت منها حاضرةً المغرب الأوسط، فلم تمر دولة من الدويلات التي تأسست بالمغرب الأوسط دون أن يكون لمدينة تلمسان دورٌ في ازدهار هذه الدولة أو تلك.
فقد ذكر اليعقوبي أحوال مدينة تلمسان في القرن الخامس للهجرة في كتابه البلدان، قائلًا: «ثمّ إلى المدينة العظمى المشهورة في المغرب، التي يقال لها تلمسان، وعليها سور من الحجارة وبها خلق عظيم وقصورٌ ومنازل مشيدة»، ووصفها المقري في كتابه نفح الطيب، بأنها: «جمعت بين الصحراء والريف، ووضعت في مكان شريف، كأنه ملك على رأسه تاج، وماؤها برود صديد، حجبتها أيدي القدرة عن الجنوب، خزانة للزرع».
ويذكر المقري أنّ شهرة المدينة بدأت في البزوغ مع قيام دولة المرابطين، حيث نزل بها يوسف بن تاشفين وأعاد ترميمها، ودعمها بسرايا «القصر القديم» وحمام «الصباغين» وأحياء جديدة وأسوار وأبواب على شاكلة باب «القرمادين» الذي لا زالت معالمه باقية إلى اليوم، حتى صار المؤرخون يطلقون عليها لقب العاصمة الثانية للمرابطين بعد مراكش.
وأمام التوجه الصوفي الذي تبناه المرابطون، تحولت مدينة تلمسان إلى قطبٍ جامعٍ لعلماء الصوفية ومنارةً علمية تحطّ بها رحال العلماء للقيام بالمناظرات العلمية، وتعلقت بها قلوب الشيوخ فيذكر عبد الحليم محمود أنّ شيخ المتصوفة أبي مدين الغوث لما شارف تلة العبَّاد بتلمسان في طريقه إلى المغرب أتاه ملك الموت فقال: «هذه تربة العبَّاد ما أحلى بها الرقاد»، كما أنّ الشاعر ابن الأبار أبو عبد الله محمد بن أبي بكر القضاعي خلدها في البيت الشعري التالي: «دعتك تلمسان فلبيتَ صوتها … مجيرا وناب الجوْر يوسعها عضا».
وما إن أسقط عبد المؤمن بن علي (ذو الأصول التلمسانية) دولة المرابطين، وأقام دعوة شيخه محمد بن تومرت، تحت لواء الدولة الموحدية حتى بدأت المدينة تفقد بعضًا من بريقها العلمي، بعد الفتن التي عصفت بالمنطقة، وذلك بعد أن دمّر الأمير الموحدي عبد المؤمن أسوارها سنة 1145م.
لكنها سرعان ما أفاقت من هذه الصدمة، وبدأت تعرف نوعًا من الازدهار في العهد الموحدي، ويذكر ابن خلدون في كتابه بغية الرواد في ذكر الملوك من بني الواد، أنّ مدينة تلمسان عرفت فصلًا جديدًا في علاقتها مع الدولة الموحدية بعد أن دخل بنو عبد الواد في طاعة الموحدين، وهناك استثمر الموحدون في المدينة بسخاء، فشيّدوا القلاع وبنوا المنازل الكبيرة والقصور، مما أسهم في تطور مدينة تلمسان.
وحين بدأت دولة الموحدين في عصر الضعف والانهيار، بين سنة 1229 و 1235م، يذكر أبو يحيى ابن خلدون في كتابه «بغية الرواد» أنّ المدينة عرفت أحداث عنفٍ وفوضى قادها شيوخ مدينة تلمسان، وخلالها حاول والي المنطقة أبو سعيد عثمان القضاء على وجود بني عبد الواد والتخلص منهم وإلقاء القبض على مشايخهم، بعد أن اتسعت رقعة حكمهم في المنطقة، وأمام حالة التخبط والصراع التي شهدتها المدينة استغل بنو عبد الواد بقيادة يغمراسن بن زيان أول حكام الزيانيين الوضع سنة 1235 م مؤسسًا دولة الزيانيين بتلمسان، ومستقلًا عن دولة الموحدين التي سقطت فيما بعد.
معلومات حول قبيلة بني صُميل المضرية الأندلسية في تلمسان بالجزائر
تلمسان الزاهرة.. عاصمة الدولة الزيانية لأكثر من 3 قرون
بعد أن بسط الزيانيون سيطرتهم على تلمسان -يضيف أبو يحيى ابن خلدون- أعلنوها عاصمةً للدولة، وبدأوا في الاهتمام بتطويرها فنشطت الزراعة والتجارة والصناعة بالمدينة، إلى جانب الزراعة، واعتنى الزيانيون بالصناعة وأشهرها على الإطلاق، صناعة السفن التجارية والحربية التي كانت الحكومة توليها عناية خاصة وتنفق عليها من مالها الخاص، وكذلك صناعة الأدوية التي تدل على مدى تقدم الكيمياء والطب وغيرها من الصناعات الأخرى، كما شهدت المدينة خلال تاريخها في الفترة الزيانية، حركة عمرانية ومعمارية وفنية واسعة، بما احتوته من تقنيات وأساليب في الفنون التطبيقية على المباني المعمارية، وخاصة الدينية من خلال الموروث الفني سواء المشرقي أو الأندلسي.
هذا؛ وقد شهدت حاضرة تلمسان حسب أبو عبيد البكري انعقاد المجالس العلمية، في شكل ندوات علمية رفيعة المستوى تعقد بالقصر الملكي، يحضرها فطاحل الفقهاء وخيرة العلماء، فكان الأمراء يغدقون العلماء بالهبات والعطاءات، خاصة الذين لمسوا فيهم النبوغ الفكري والنضج العلمي، وقد ذكر كذلك العلامة الشريف التلمساني، في «مفتاح الوصول»، أهم المناظرات التي جرت في مدينة تلمسان أثناء العهد الزياني، فيذكر مناظرة بين أبي زيد بن الإمام وناصر المشدالي والتي كان موضوعها الفقيه عبد الرحمن بن القاسم المصري، الذي نقل عنه ابن سحنون المدونة المنسوبة إليه خطأ، وهي من إملاء أستاذه عبد الرحمن، وقد تناظر الفقيهان في عبدالرحمن بن القاسم، هل هو مقلد أو مجتهد؟ وخلُص عمران إلى أنه مجتهدٌ اجتهادًا مطلقًا، بدليل مخالفته للإمام مالك في عدة مسائل.
وأمام هذا الازدهار الذي شهدته حاضرة تلمسان خصوصًا في الجانب العلمي ارتقت تلمسان إلى مصاف المعاقل والحواضر العلمية، إذ أضحت معقل إشعاع يضم في جانبيه أكبر المدارس العلمية بالناحية منها التاشفينية واليعقوبية والخلدونية التي جذبت إليها العلماء والأدباء وطلاب العلم من كل حدب وصوب، كما ساعد لجوء الموريسكيين من الأندلس، بعد بداية حروب الاسترداد التي شرع فيها الإسبان بالأندلس، في ازدهار الحياة العلمية والحضارية بعد أن توجه قسمٌ هائلٌ من الموريسكيين إلى تلمسان باعتبارها إحدى حواضر العلم في ذلك الوقت.
تلمسان بين مقصلة المرينيين وسندان الحفصيين
غير أن هذه الشهرة في العلم والمعرفة والتطور الحضاري كلفت عاصمة الزيانيين العديد من المتاعب وفي مقدمتها الحصارات المتوالية التي ضربت عليها، فوقعت المدينة بين حجري رحى، أي بين الدولة الحفصية في تونس والدولة المرينية في المغرب، اللتين حاولتا في الكثير من الأزمنة تحويل حدودها إلى مادة مطاطية تضيق وتتسع.
وأمام هذا الوضع ومع نشوب عدة حروبٍ بين الدولتين كانت مدينة تلمسان أكثر المتضررين، خصوصًا من الحصار الذي فرضه السلطان يوسف بن يعقوب المريني على مدينة تلمسان طيلة ثمان سنوات، وهو الحصار الذي وصفه ابن خلدون بأنه: «أجبر سكان تلمسان على أكل القطط والكلاب وأجساد الموتى»، ويصف الحسن الوزان في كتابه «وصف أفريقيا» تلك الفترة بالقول: «وقد استقرّ الملك في بني زيان 300 سنة غير أنهم اُضطهدوا من قبل ملوك فاس، الذين احتلوا مدينة تلمسان أكثر من 10 مرات، وكان مصير ملوك بني زيان إمّا الأسر أو القتل أو الفرار».
وإزاء العداءِ المفرط بين الدولتين الزيانية والمرينية أضحت مدينة تلمسان قِبلةً ومقرًا للهاربين من طاعة السلطان المريني، وعانت مدينة تلمسان أيضًا من الدولة الحفصية إلى أن زال خطرها بعد أن هزم الزيانيون الحفصيين سنة 1328م.
العثمانيون يخافون تلمسان.. ويُفضلون الجزائر عاصمةً لهم
مع الضعف الذي شهدته الدولة الزيانية، والتحرشات الإسبانية التي استطاعت احتلال معظم السواحل الجزائرية، بما فيها مدينة الجزائر، يذكر ناصر الدين سعدوني في كتابه ورقات جزائرية؛ أنّ أعيان مدينة الجزائر أرسلوا رسالةً للأخوين عروج وخير الدين بربروس يطلبون منهم العون لطرد الإسبان، فقبل الأخوين طلب أهالي الجزائر وتمكنوا من تحرير سواحل مدينة الجزائر، وبطلبٍ من خير الدين بربروس توجه أهالي مدينة الجزائر مجددًا برسالةٍ ثانية كانت هذه المرة إلى السلطان العثماني سليم الأوّل يطلبون فيه قبول انضمام الجزائر إلى لواء الدولة العثمانية، بتعيين بربروس حاكمًا، لتصبح مدينة الجزائر عاصمةً للحكم العثماني.
إذ كان يرى حكام الجزائر العثمانيون أنّ تلمسان مشكلةٌ معقدة، ويذكر خير الدين في هذا الصدد في مذكراته أن: «عروج كان يدرك أن هذه المدينة هي مصدر جميع الفتن.. كان سلطان تلمسان يومئذ ملكا بائسا خاضعا لكفار إسبانيا.. وكان الأهالي يعانون من ظلم الإسبان وسلطانهم معا.. ومنذ فترة طويلة جاء التلمسانيون إلى الجزائر، متوسلين إلى أخي عروج أن ينتصر لهم من ظلامهم».
وهناك توجّه عروج لتحرير سواحل تلمسان حيث قطعت يده وقتل في معركة ضد الإسبان بمدينة تلمسان واستمرت محاولة العثمانيين في ضمّ تلمسان، إلى أن سقطت الدولة الزيانية سنة 1554م، ودخلت مدينة تلمسان تحت الحكم العثماني، وبقيت مدينة تابعةً للجزائر وتغزل بها الأمير عبد القادر الجزائري في إحدى قصائده بالقول:
إلى الصون مدّت تلمسان يداها … ولبّت فهذا حسن صوت نداها
وقد رفعت عنها الإزار فلج به … وبرد فؤاداً من زلال نداها
وذا روض خدّيها تفتق نَوره … فلا ترضَ من زاهي الرياض عداها
ويا طالما عانت نقاب جمالها … عداةٌ وهم بين الأنام عداها
وكم رائمٍ رام الجمال الذي ترى … فأرداه منها لحظها ومناها
وحاول لثمَ الخال من ورد خدها … فضنّت بما يبغي وشطّ مداها
وكم خاطبٍ لم يدع كفئاً لها ولم … يشم طرفاً من وشي ذيلِ رداها
وآخر لم يعقد عليها بعصمةٍ … وما مسّها مسّاً أبان رضاها
إلى أن يختم القصيدة بالبيتين:
فبادرت حزما وانتصاراً بهمّتي .. وأمهرتها حبًا فكان دواها
فكنت لها بعلا وكانت حليلتي … وعرسي وملكي ناشرًا للواها
المصادر:
- كتاب مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول
- ورقات جزائرية… دراسات وأبحاث في تاريخ الجزائر في العهد العثماني
- مذكرات خير الدين بربروس
- وصف أفريقيا
- الحضارة العربية الأسلامية في المغرب (العصر المريني)
- المسالك والممالك
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
- كتاب البلدان
- كتاب بغية الرواد في ذكر الملوك من بني الواد
- ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر – ج 7