حين هاجر آلاف الإسبان إلى الجزائر وباقي دول شمال إفريقيا
في الأيام الأخيرة من الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، لجأ آلاف الجمهوريين الإسبان إلى شمال إفريقيا. تاريخ هؤلاء، الذين اعتقلوا ثم فُرضت عليهم الأشغال القسرية في ظل نظام فاشي، بقدر ما هو مأساوي فهو غير معروف. قصة تتقاطع فيها الحرب الأهلية الإسبانية والحرب العالمية الثانية والاستعمار. في مارس 1939، وقبل أكثر من شهر وقعت كاتالونيا في أيدي قوات فرانكو. فرّ ما يقارب نصف مليون لاجئ جمهوري إسباني في اتجاه الشمال، في حركة ما تزال إلى اليوم تعد أكبر هجرة على الإطلاق تمت مشاهدتها على الحدود الفرنسية. لكن لم يكن هذا الانسحاب الفصل الأخير من الحرب الإسبانية. ففي جنوب شرق شبه الجزيرة الإيبيرية، كانت آخر معاقل الجمهوريين تتهاوى الواحدة تلو الأخرى. وقد انتهت الأعمال القتالية في “قُمع” أليكانتي، حيث اضطر رجال الميليشيات والمدنيون الجمهوريون -الذين كانوا غير قادرين على الفرار عبر فالنسيا ولا عبر جنوب إسبانيا الذي سبق أن وقع في أيدي قوات فرانكو- إلى أخذ طريق البحر. وهكذا أبحر على عجل عدة آلاف من الأشخاص من أليكانتي في اتجاه أقرب ميناء، وهو ميناء وهران الجزائري.
رسا الأسطول الجمهوري القادم من قرطاجنة بمورثيا في الجزائر العاصمة، قبل أن يتم تحويله وعلى متنه 4000 شخص إلى بنزرت، شمال تونس. وصل في المجموع ما بين 10 آلاف و12 ألف إسباني –وقد يكون عددهم أكثر وفقا لبعض الروايات- إلى سواحل شمال إفريقيا في غضون أيام قليلة.
باخرة “ليبرتاد” (الحرية) التابعة للأسطول الجمهوري تدخل ميناء بنزرت في 1939.
الحجز تحت الجمهورية الثالثة
حفنة من الجمهوريين تم استقبالهم من طرف أقارب لهم بوهران حيث توجد جالية إسبانية مهمة. لكن حكومة الجمهورية الثالثة التي تدير شمال إفريقيا بدأت فور يوم 10 مارس 1939 في وضع عوائق لوصولهم.
فمنذ عام سبق، أصبحت المراسيم القانونية لإدوارد دلادييه (رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك) تؤطر وصول اللاجئين، وصار يدور الحديث عن الفرز بين “الجزء السليم والمجتهد من السكان الأجانب وغير المرغوب فيهم”، وعن الإقامة الجبرية ومراكز الاعتقال… وهو نمط ستتم إعادة إنتاجه في الجزائر الخاضعة للاستعمار الفرنسي والمغرب وتونس.
فبينما كان رئيس بلدية وهران يحتفل بأبهة كبيرة بانتصار فرانكو، تم الإبقاء قسرا على جزء من الجمهوريين في القوارب التي تم تحويلها إلى سجون بحرية. تم وضع أولئك الذين تمكنوا من النزول في ڨْيَاطَنْ (خيم)، خاصة على الرصيف البعيد لرافين بلانك (رأس العين). تقول إليان أورتيغا برنابيو، التي كان جدها على متن إحدى هذه السفن، “الرنوين”:
كانوا معزولين تماما، وتُركوا بعيدا عن السكان المحليين. على الرغم من ذلك، جاء بعض الوهرانيين لمساعدتهم وجلبوا الطعام الذي كانوا يرفعونه إلى متن السفن باستخدام الحبال. بالمقابل كان هناك جزء آخر من السكان يرفضون استقبال هؤلاء الإسبان إذ كان يقلقهم عددهم الكبير. وقد ساهم كثيرا عمدة المدينة الأب لامبرت الذي كان صديقًا لفرانكو في خلق مناخ من الخوف بين هؤلاء السكان.
طال الوضع في ميناء وهران ومكث آلاف الجمهوريين هناك لأكثر من شهر، في ظروف غير صحية ونقص تام من الغذاء.
الأشغال الشاقة
في تونس، تم إبعاد البحارة والمدنيين من الأسطول الجمهوري عن السكان. وقد تم نقلهم بسرعة بالقطار إلى وسط البلاد وإلى معسكرات الاعتقال، ولا سيما معسكر مهري الجباس. في الجزائر أيضا تم وضع اللاجئين في مخيمات بمجرد نزولهم من السفن. تشرح إليان أورتيغا برنابيو: “كان هناك مدنيون وعمال ونقابيون محبوسون وراء الأسلاك الشائكة وتحت تهديد الحراب المستمر”.
تم تطبيق نفس التشريعات السارية في فرنسا في العديد من المخيمات التي تقع معظمها في الأراضي الجزائرية. يوضح بيتر غايدا، المؤرخ الألماني ومؤلف العديد من الكتب حول معسكرات الأشغال الشاقة وعن الجمهوريين:
“كان ينظر إلى المنفيين على أنهم يشكلون خطرا على الدفاع الوطني وسيفرض عليهم تقديم خدمات مقابل الحصول على اللجوء. تم وضع جزء منهم في معسكرات الاعتقال، وجزء آخر تحت خدمة شركات العمال الأجانب (CTE)، وهي خدمات ذات طابع قانوني حيث كانت فرنسا في حالة حرب وكان الفرنسيون هم أيضا يخضعون لأمر التسخير”.
في الجزائر، تم إرسال النساء والأطفال وكذلك المعوقين إلى معسكرات مختلفة، مثل كارنو (العبادية- عين الدفلى) أو موليير (برج بونعامة)، وهي من المعسكرات المعروفة. أما المقاتلون، فقد تم إرسالهم إلى بوغار وقصر البخاري، حيث تم تجنيدهم لسد احتياجات القوة المحتلة لليد العاملة. وقد تم تشغيلهم أساسا في ترميم الطرق في منطقة قسنطينة، وفي استغلال مناجم الفحم والمنغنيز في الجنوب الوهراني.
الطريق العابر للصحراء، ذلك الحلم الاستعماري القديم
قرر قادة الجمهورية الفرنسية الثالثة ربط مناجم القنادسة في الجنوب الجزائري بالسكك الحديدية المغربية. التحق 2000 جمهوري إسباني وأعضاء من الألوية الدولية بالشركة العامة العابرة للصحراء للعمل على صيانة المسالك في الصحراء.
نشر بيتر غايدا في كتابه “معسكرات العمل تحت نظام فيشي” (سينشر الكتاب في يونيو 2021) شهادة أحدهم الذي كان محتجزا في معسكر ببشار في الجزائر:
تم إرسالنا على بعد أربع كيلومترات من الواحة لإزالة الرمال من كثيب رملي ضخم متحجر يزيد طوله عن ألفي متر. كانت الحرارة خانقة، أكثر من 40 درجة في الظل، وكان الماء نادرا وساخنا. في هذا المكان بدأت حالات الزحار ونوبات الملاريا والقيء والصداع الشديد.
بعد هدنة 22 يونيو 1940 مع ألمانيا النازية، أحيت حكومة فيشي التي كانت في السلطة حلما استعماريا قديما: بناء خط سكة حديد استراتيجي، عابر للصحراء الكبرى، والمعروف أيضًا باسم المتوسط -النيجر. وتتمثل الفكرة في ربط مستعمرات شمال إفريقيا بمستعمرات غرب إفريقيا:
يتعلق الأمر في الواقع بربط عاصمتي الإمبراطوريتين الاستعماريتين الفرنسيتين، الجزائر وداكار. لذلك باشرت حكومة فيشي ببناء خط سكة حديد بطول 3000 كيلومتر وسط الصحراء. كانت الأهداف متعددة، فبالإضافة إلى الهيبة الاستعمارية، يتعلق الأمر أيضًا بنقل القوات العسكرية والعتاد والفحم المستخرج من المغرب. كما كان هناك أيضًا مشروع في غرب إفريقيا يتمثل في ري النيجر وإنشاء زراعة ضخمة للقطن، مما يضمن استقلال فرنسا عن البريطانيين. من أجل ذلك، فهم بحاجة إلى خط سكة حديد تربط مدينة الجزائر.
تنقسم الورشة الضخمة إلى ثلاثة مراحل: بناء محور وهران-غاو الذي يقطع النيجر، وآخر من غاو إلى باماكو، وأخيرا ربط الخط بدكار.
فظاعة المعسكرات
كانت اليد العاملة متوفرة بسهولة ومتمثلة في مجموعات العمال الأجانب (GTE) التي خلفت شركات العمال الأجانب (CTE) التي كانت تتوفر على إطار تشريعي قمعي، وهو مزيج خبيث بين الاستعمار والفاشية. أقيمت عدة معسكرات وتم توزيعها بين المغرب وتونس والجزائر. لكن لم يكن الجمهوريون الإسبان وحدهم الذين تم الزج بهم في الورشات المختلفة. يشرح بيتر غايدا قائلا: “سيتم ترحيل على متن السفن الأناركيين (لا سلطويين) والشيوعيين الفرنسيين وأعضاء من الألوية الدولية، وأشخاص ذوي بروفيلات متنوعة للغاية من معسكرات فرنسية، مثل معسكر فيرنيه. نُقل جميعهم نحو معسكرات شمال إفريقيا. بالنسبة لفيشي، فهم مجرد”أفواه غير مجدية وأذرع مفقودة“.
بالإضافة إلى ذلك، تم استبعاد عدة آلاف من اليهود من الجيش الفرنسي، ووضعهم في مجموعات عمال بني إسرائيل (GTI). يعلق غايدا: “كان في المخيمات أيضا سكان من شمال إفريقيا، وخاصة قادة الحركات الوطنية في تونس والجزائر. كانت المجموعة السكانية إذا جد مختلطة، حتى أننا نجد آثارًا ليهود ألمان ويوغسلافيين”.
في منطقة وهران، تم حجز المعتقلين السياسيين الذين اعتبروا خطرين في معسكرات الجلفة، جنين بورزق وحجرات المقيل. تتابع إليان أورتيغا برنابيو قائلة:
كانت هناك ست معسكرات مكرسة للقمع. “معسكرات الموت”، كما كان يسميها الجمهوريون المعتقلون. كل القرائن التي استطعنا جمعها في البرواقية تظهر أنه ما لا يقل عن 750 شخصًا ماتوا هناك من الجوع أو البرد أو سوء المعاملة بين عامي 1940 و1942. لقد تعرض المقيمون في المعسكرات للعقوبات والتعسف والتعذيب. غلق معسكر المريجة [الموجود في الجزائر] بعد أن أطلق الجمهوريون إضرابًا عن الطعام احتجاجًا على أعمال التعذيب. في الواقع، أعادت فيشي فتحه إلى الشمال قليلاً، بمنطقة عين العراك.”
أما ورشة بناء السكة العابرة للصحراء فقد تعثرت وسيتم بالكاد الانتهاء من 62 كيلومترا منها.
في تونس، تبدو الظروف في المعسكرات بالكاد أفضل مما هي عليه في الجزائر أو المغرب. كان نصف الأشخاص الذين وصلوا في عام 1939 -وقد كان عددهم حوالي 4000- قد عادوا فعليا إلى إسبانيا بعد وعد بالعفو من قبل فرانكو. تروي فيكتوريا فرنانديز، ابنة جمهوري إسباني منفي في تونس:
وفقا لأبحاثي، تم إعدام 25 شخصا على الأقل عند وصولهم إلى إسبانيا، وعاش الباقون في ظروف صعبة للغاية. أما الألفان الذين بقوا في تونس، فقد تم إرسال عدد كبير منهم إلى المعسكرات في منطقة القصرين، حيث يعتنون بمحاصيل الخضر وأشجار الفاكهة أو يعملون في شركات مختلفة.
تم الإبلاغ عن كثير من المعلومات بخصوص سوء المعاملة، خاصة في منطقة قابس. تتابع فيكتوريا فيرنانديز: “فضلا على ذلك، تم إرسال 300 بحار جمهوري إلى الصحراء في جنوب البلاد. لقد كانوا مسيّسين ومقاومين، وهذا ما جعلهم غير مرغوب فيهم أكثر من الآخرين”. بالموازاة، تم تجنيد حوالي 5000 رجل تونسي يهودي للأشغال الشاقة في معسكرات مختلفة بالقرب من خطوط الجبهة.
تحرير فرنسا ومساعدة جبهة التحرير الوطني
أدى إنزال الحلفاء في شمال إفريقيا في نوفمبر/تشرين الثاني 1942 -والمعروف باسم عملية “تورش” (Torch)- إلى خلط الأوراق. فقد حصل تذبذب في الإدارة الفرنسية حيث كان الجنرالان هنري جيرو وشارل ديغول يتنافسان على التحكم في الجزائر والمغرب. في تونس، دخل الجيش الألماني (الفيرماخت)، وسيبقى هناك ستة أشهر. تشرح فيكتوريا فيرنانديز: “خلال هذه الفترة من الاحتلال الألماني، فر جزء من الجمهوريين الإسبان نحو الجزائر، وحاول الآخرون إخفاء هويتهم. كل من ألقي عليهم القبض تم إرسالهم إلى مجموعات العمال الأجانب GTE بمنطقة القصرين”.
اتخذ جمهوريون آخرون الطريق المعاكس انطلاقا من الجزائر والمغرب. يشرح بيتر غايدا:
عُرض عليهم التوقيع على عقد عمل أو العودة أو حمل السلاح. قرر الكثيرون الانخراط في القوات المرتبطة بفرنسا الحرة وهاجموا القوات الألمانية في تونس. بعد رحيل الفيرماخت من البلاد، نزل بعضهم إلى صقلية ونجد آثارهم إلى جانب قوات فرنسا الحرة في بروفانس. فبعد أن كانوا لاجئين من الحرب الإسبانية وتم احتجازهم من طرف الجمهورية الثالثة وفرض الأشغال الشاقة عليهم تحت حكم فيشي، صاروا يقاتلون من أجل تحرير فرنسا. إنه مصيرهم وهم فيه ضحايا وأبطال، ولم يتم تسليط الضوء عليه كثيرا.
في عام 1943، غادر جزء من الجمهوريين الإسبان إلى الدار البيضاء قبل الابحار إلى المكسيك أو أمريكا الجنوبية. تستطرد إليان أورتيجا برنابيو: “بقي آخرون مثل عائلتي. في الواقع كانوا يظنون بأنه سيتم في آخر المطاف طرد فرانكو. كانوا ينامون والحقيبة تحت السرير.”
تزامنت ولادتها بوهران عام 1954 مع بداية حرب التحرير الوطني بالجزائر:
لستُ من الأقدام السوداء (مصطلح يُطلق على الأوروبيين الذين وُلدوا بالجزائر أثناء الاستعمار)، أولا لأنه مصطلح استعماري، ولكن أيضا لأنني لست فرنسية. أنا إسبانية من وهران. كان الجمهوريون يحملون قيما ديمقراطية وبالتالي كانوا معارضين بشدة للاستعمار. كانوا يرون أن استغلال شعب من طرف شعب آخر أمرا مروعا. بعد وقت طويل أدركت أن والدي كان يدفع مساهمته لجبهة التحرير الوطني. كان هو مثل الآخرين يشاهد فقر السكان الأصليين والاستغلال والتعذيب. لقد انخرطوا تلقائيا في معركتهم.
انتهى الأمر بالإسبان الذين بقوا في تونس إلى المغادرة، ويعود ذلك أساسا لأسباب اقتصادية. غادرت الموجة الأخيرة البلاد عند وفاة فرانكو وبعد أن اعترفت إسبانيا بخدمتهم في البحرية. بقيت شواهد قبور وقليل جدا من النصوص عن مرور الجمهوريين الإسبان في المنطقة المغاربية، وكثير من مناطق الظلال التي يجب توضيحها.
يواصل كل من بيتر غايدا وإليان أورتيغا برنابيو وفيكتوريا فيرنانديز وآخرون بدون كلل جمع أجزاء هذه القصة. وهي طريقة لمنح ضحايا هذه المعسكرات اعترافا مازال بعد مرور ثمانين عاما ليس في الموعد.
المصدر: بيينسا تشيلي.