رواية الحنين إلى كاتالونيا: بين الحرب الإسبانية والحرب السورية
تُعتبر روايةُ الحنين إلى كاتالونيا (1938)، الرواية الثالثة الأشهر للكاتب جورج أورويل، بالإضافة لروايتيه الشهيرتين؛ رواية 1984 التي كتبها عام 1949، ورواية مزرعة الحيوان (1945)، والتي تم بيع نسخهم معًا أكثر من أي كتاب آخر لأي من كتاب القرن الحادي والعشرين.
سافر أورويل إلى إسبانيا أواخر عام 1933، ومن ثمّ انضم إلى الجماعات التي تقاتل ضد الجنرال فرانشيسكو فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، حيث انضم لحزب العمال المستقل، وقد وثّق أحداث عيشه تلك الحرب في رواية الحنين إلى كاتالونيا.
تُعتبر رواية الحنين إلى كاتالونيا إحدى الروايات الممتعة، المتماسكة، المتسلسلة، والتي تشدّ القارئ للنهاية، استعان فيها أورويل بأسلوب الكتابة التقريرية الصحافية التأملية والوصفية معًا، والتي يتقنها للغاية. خلال الرواية ستعيش تلك المرحلة التي عاشها فعلًا، وستتعرف عن قرب على الحرب الإسبانية، وشخصيات الإسبان، والأبعاد الأخرى للحرب التي دارت تلك الأيام. يمكن اعتبار الرواية أنها أقرب إلى تقرير صحفي طويل، يروي فيها الكاتب تفاصيل حياته اليومية في إسبانيا، بالإضافة لتعليقه بين الفينة والأخرى على الأحداث، قبل العودة للسرد مرة أخرى.
يتحدث أورويل عن التحاقه بإحدى الكتائب المقاتلة في برشلونة في ثكنة «لينين»، وكيف أصبح لقبه رفيقًا، ويتابع التحدث بإسهاب عن الحياة اليومية في الجبهة. يأخذك الكاتب خلال قراءة الرواية إلى تفاصيل الحياة أثناء الحرب هناك، ليعرّج على النزاعات بين الميليشيات الثورية نفسها، التدخل الخارجي، دعم الدول الأخرى للأطراف المتنازعة، التغطية الصحفية المنحازة للأطراف، ونشر الأكاذيب من كل طرف للطرف الآخر. خلال قراءة الرواية ستجد تلك الإشارات عن هدوء الجبهات فترةً طويلة بين المتحاربين، عن لعن الفلاحين للمتحاربين لتوقف بيع محاصيلهم، نماء الكراهية والصراع السياسي بين الأطراف المتصارعة، ارتكاب الجرائم من الأطراف التي من المفترض أن لا ترتكبها لأنها تطالب بالعدالة، وقد خرجت في سبيلها.
إنّ ما سيلفت نظرك أنك ستشعر بتشابه تفاصيل تلك الرواية المكتوبة منذ عشرات السنين، مع تفاصيل الحرب السورية الدائرة في هذه الأيام، وسيراودك الشعور خلال قراءتك بعض المقاطع أنّها تصف الحرب السورية وليس الإسبانية. لن أعمد إلى تقديم الإسقاطات المباشرة، ولكن سأعرج سريعًا على بعض المشاهد التي مرّت في الرواية، وسأترك لك إسقاطها على ما يجري في سوريا.
يتحدث الكاتب في بداية الرواية عن مشاهداته في خط الجبهة لانشقاق عدد من عناصر الجيش الفاشي، وفرارهم للميلشيات الثورية. يصف الكاتب هؤلاء الجنود بأنهم لم يكونوا فاشيين البتة، كلّ ما في الأمر أنهم كانوا مجرد جنود بائسين يؤدون خدمتهم العسكرية الإلزامية حين اندلعت الحرب، وكانوا متلهفين للخلاص والهرب، من ثمّ يوضح أيضًا أن ما كان يمنع الكثير منهم من الفرار وجود أقارب لهم في المناطق الفاشية.
لقد كانت الكراهية مزروعة بشدة بين الطرفين، وقد التحق الكاتب لقتل الفاشيين، ولا يخفي أنّ أمنيته كانت قتل أحدهم، ولكنه يقول حين رؤيته ذلك الفاشي الهارب لهم، أنّه لم ير فاشيًا حقيقيًا، وإنما وجد جنديًا يشبههم، يلبس لباسًا عسكريًا مثلهم، ولكنه بلون مختلف، ويتضوّر جوعًا. بالمقابل لم يكن ذلك الجندي رغم فراره وتسليم نفسه مرتاحًا، كان يسترق النظر للمقاتلين أثناء إطعامه خوفًا من إطلاق النار عليه، فهو يعتقد أنهم سفاحون، وقد سمع أنّهم يقتلون الفاشيين دون سبب. في ختام المقطع، يستذكر الكاتب لحظة احتفال الثوار بداية الحرب باستقبال خمسة عشر جنديًا فارًّا (منشقًا) دفعة واحدة، وكيف تم اقتيادهم في شوارع القرية مستعرضين انتصارهم، يتقدمهم أحد رجال الميليشيات الثورية على حصان أبيض.
كانت الميلشيات الثورية تحارب بعشوائية، ولم يكن هناك تنسيق وترتيب بينها، وقد زاد عدد المنضمين إليها بداعي الارتزاق والعيش فقط، وكانوا دومًا في الخطوط الخلفية، يقول الكاتب: «كيف يمكن لتلك الميليشيات أن تنتصر ولا يوجد من يعطي الأوامر بها، أضف إلى ما سبق سوء تسليح الميلشيات المناهضة للجيش الفاشي، فلا أسلحة حديثة، ولا يوجد أية تجهيزات، ولا حتى خرائط على الأقل».
يشير الكاتب لتدخل الدول الأجنبية في الحرب، ووجود مقاتلين أجانب لدعم كل طرف، ومشاهدة جثثهم. في أحد المقاطع، يستغرب الكاتب وجود جثة مراكشي في الجيش الفاشي، ويستغرب تحمّله للبرد، وهو المقاتل القادم من بلاد المغرب التي لا تعرف البرودة. لقد كانت التدخلات الخارجية واضحة، حتى إن هدوء جبهة ما كان بأمر خارجي، وكان الطرفان يقضيان الوقت بطلقات عشوائية عليها، ولو أراد أحد الأطراف اقتحام الجبهة الأخرى لفعل ذلك بعشرة رجال فقط كما يشير الكاتب، إلا أنه لم يفعل ذلك أحد، لسبب أو لآخر.
تشير الرواية أيضًا لدور الصحافة والإعلام، والانحياز لدى أنصار كل فريق، ولعلّ المقطع التالي يلخّص ذلك، وما زال صالحًا حتى وقتنا الحالي: «يتم تصديق أو تكذيب الفظائع التي ترتكب في الحروب على أساس واحد وحيد، وهو التعاطف السياسي، الكل يصدق قصص فظائع العدو، ويكذب قصص فظائع الجانب الذي هو معه، بدون أن يكلف نفسه عناء التفحص أو البرهان، لا تخلو الحرب من فظائع ترتكب هنا أو هناك، ولا يوجد أي حادثة يتفق الطرفان على روايتها معًا«.
أخيرًا، يضيء الكاتب أيضًا على الخلافات بين الأطراف المعارضة نفسها، وكيف بدأ الشيوعيون والماركسيون بالكتابة ضد بعضهم البعض، وما لبث أن انتشر الحقد بينهم، وفضلوا تعطيل الثورة عن المضي قدمًا والاتحاد ضد الجيش الفاشي.
لا يمكن تلخيص الرواية بمقالة بسيطة، ولعلّ الجديد هنا محاولة إسقاط أحداث الرواية ببساطة على الحرب السورية الجارية حاليًا، عندما تقرأ الرواية ستشعر بتشابه كبير للأحداث، وببعض الإسقاطات المدهشة هنا وهناك. لربّما تصل إلى خلاصة: أنّها الحرب، أو الثورة، أو الصراع على السلطة، سمّها ما شئت وكيف شئت، لكن في النهاية كلها تتشابه تفاصيلها على مرّ السنين.