علمّ أولادك كما يتعلّم “أذكى شعب في العالم”.. طريقة سنغافورة في تعليم الرياضيات
تشير عدّة أبحاث وإحصائيات إلى أنّ سنغافورة تملك “أذكى شعب في العالم”، ويقصد بذلك أنّ أداء طلّابها في الرياضيات والمواد العلمية عمومًا، بالإضافة إلى مستوى مدارسها وجامعاتها يعدّ الأحسن من بين كلّ البلدان الأخرى، حتى من أمريكا وأوروبا وباقي الدول الصناعية الكبرى.
ليس هذا فحسب، بل إن هذه الدول الكبرى نفسها صارت تتسارع إلى الاستفادة من النموذج السنغافوري في تعليم الرياضيات. إذن ما السرّ وراء تفوّق الطالب السنغافوري في الرياضيات على نظيره في البلدان الأخرى؟ وكيف يمكن الاستفادة من التجربة السنغافورية في عالمنا العربي، أو حتى على طريقة تعليمك لأبنائك في البيت من أجل رفع مستوى تدريس هذه المادّة التي تعدّ محوريّة في عصر العلوم والتكنولوجيا الذي نعيشه؟
مادة الرياضيات هي مصدر رعب للكثير من طلاب المدارس حول العالم، بالإضافة إلى الآباء الذين يطمحون لتوفير ما في استطاعتهم من أجل ضمان تفوّق أبنائهم في جميع المواد الدراسية. لذلك سعت سنغافورة من أجل تصميم برنامج تعليمي استثنائي في هذه المادّة من أجل ضمان تفوّق الطالب السنغافوري فيها، خصوصًا إذا عرفنا أنّ البلد منذ استقلاله لا يملك أي موارد طبيعية ليعتمد عليها، “ما عدا الإنسان” كما يقول رئيسه السابق.
طريقة سنغافورة في تعليم الرياضيات أضحت اليوم علامة دولية مسجّلة، إذ تتسارع لتبني هذه الطريقة كبرى المدارس الخاصة في العالم، بالإضافة إلى وزارات التعليم في عدّة بلدان، من بينها البلدان المتقدّمة.
وقد أعلنت بريطانيا أن نصف المدارس الابتدائية ستشرع في تطبيق الطريقة السنغافورية في تدريس الرياضيات، كما وفّرت الحكومة الميزانية والإمكانات اللازمة للبدء في هذه التجربة. فرنسا من جهتها أيضًا قرّرت الاستفادة من الطريقة السنغافورية، فقد أوصى سيدريك فيلاني، العالم الرياضي الفرنسي المتحصّل على جائزة “فيلدز” في الرياضيات (المُقابلة لجائزة نوبل) بأن تشرع فرنسا في تطبيق هذه الطريقة، وذلك بعد النتائج الكارثيّة التي سجّلتها الحكومة الفرنسية في ما يتعلّق بمستوى الطلبة الفرنسيين في الرياضيات.
طالع أيضا: وزارة التعليم الإسبانية: بإمكان التلاميذ المسلمين طلب تلقي الدروس الدينية الإسلامية في المدارس
الولايات المتحدة الأمريكية نفسُها لم تخجل من الاستفادة من تجربة هذا البلد الآسيوي الصغير، وبدأت الكثير من المدارس باعتماد طريقة سنغافورة في تعليم الرياضيات، كما أنّ الميلياردير، جيف بيزوس، صاحب شركة أمازون العملاقة يعلّم أبناءه باستخدام هذه الطريقة.
إذن فالطريقة السنغافورية في تدريس الرياضيات تنتشر في العالم بسرعة فائقة، وتتسابق الدول من أجل الاستفادة منها ودمجها في أنظمتها التعليمية، فما هي أساسيّات هذه الطريقة؟ وكيف يمكننا تطبيقها في تعليم الأبناء الرياضيّات؟
ما هي طريقة سنغافورة في تعليم الرياضيات؟
طريقة سنغافورة في تعليم الرياضيات طورها مجموعة من الأساتذة في سنغافورة خلال فترة الثمانينات، بأمر من وزارة التربية من أجل صُنع برنامج تعليمي بأعلى جودة ممكنة، وقد سافر هؤلاء الأساتذة إلى عدّة بلدان كاليابان وكندا، وزاروا مدارس هذه البلدان من أجل الاستفادة من تجاربها التعليمية، كما أنّ هذه الطريقة قد استفادت من أبحاث علم النفس الأمريكيّة التي تشير إلى أنّ الإنسان يتعلّم من خلال ثلاث مراحل أساسية:
- 1- استعمال أجسام حقيقيّة.
- 2- صُور لهذه الأجسام.
- 3- رموز.
لذلك تركّز الطريقة على استخدام مكعّبات ملوّنة في عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة.
إذن فطريقة سنغافورة تعتمد على الأمثلة الحيّة التي يراها الطالب في حياته اليومية، كالأجسام والمكعّبات الملوّنة التي تسبق الانتقال إلى العمليّات والمعادلات المجرّدة في اللوح الأبيض، ممّا يساعد الأطفال على تخيّل المشكلة التي يُراد حلها بشكل أسهل من مجرّد الحديث عن مفاهيم مجرّدة.
إذا فتحت الصفحة الأولى من كتاب الرياضيّات في المنهج الدراسيّ الحكومي في سنغافورة، ستجد في المقدّمة أنّ الكتاب يعتمد على منهج الخطوات الثلاث:
1. المفاهيم الملموسة (Concrete): والتي تُستخدم فيها المكعّبات الملوّنة وغيرها من الأشكال التي يجدها التلميذ في حياته اليومية، حتى تكون الفكرة أقرب إليه وأكثر قابلية للتذكّر. على سبيل المثال في درس جمع الأعداد، يأتي المعلّم بمجموعة من الأجسام بعدد الأرقام التي يريد جمعها، ويُري الطالب كيف أنّ الجمع هو مجرّد دمج مجموعة منفصلة من الأشكال.
2. المفاهيم المصوّرة (Pictorial): في هذه الخطوة ننتقل من المفاهيم الملموسة التي يستطيع الطفل التعامل معها بيديه، إلى صُور في الكتاب. وبذلك تصبح المفاهيم أكثر تجريدًا من المفاهيم الملموسة، لكننا ما زلنا نتعامل مع مفاهيم يمكن تمثيلها بصور يستطيع الطفل تخيّلها وفهمها وتذكّرها.
3. المفاهيم المجرّدة (abstract): في الخطوة الأخيرة، ننقل ما تعلّمناه في الخطوتين السابقتين من أجل التعامل مع أي رقم يمكن أن نصادفه، ونطبّقه على أرقام مجرّدة بدل أشكال حقيقيّة أو صور كما في الخطوتين السابقتين.
بالإضافة إلى هذه الخطوات الثلاث، فإنّ أحد المفاهيم المهمّة التي يتمّ تعليمها للأطفال مبكّرًا، حتى قبل تعليم الجمع والطرح هو مفهوم “روابط الأرقام” (Number Bonds)، وهي مجموعة الأرقام المحتملة التي إذا جمعناها حصلنا على الرقم المطلوب. مثلًا يتعلّم الأطفال في الحضانة جميع حالات الجمع التي تعطينا الرقم 7: 7=3+4 وأيضًا 7=5+2 وتساوي أيضًا 7=6+1.
ويتمّ التركيز على مفهوم روابط الأرقام لأسابيع طويلة في سنة الحضانة وفي السنة الأولى من التعليم الابتدائي، قبل التطرق لمفهوم الجمع والطرح؛ لأنّ التركيز على روابط الأرقام يجعل مهمّة الجمع أو الطرح سهلة ومنطقيّة أكثر بالنسبة للطفل، بل إنّ مثل هذه المهارة ستُفيدهم في حلّ المسائل الأكثر تعقيدًا في السنوات التالية، كالضرب والقسمة والعمليات على الكسور وغيرها.
كما يتعلّم الأطفال الحساب حتى الرقم 10، ثم حتى الرقم 20، لكن بعد ذلك يتمّ التعامل بوحدة العشرات، وذلك من خلال طبق بيْض يمثّل الرقم 10، من أجل إعطاء فكرة محدّدة عن فكرة “العشرات” وأنّها عبارة عن 10 آحاد.
تركّز الطريقة السنغافورية أيضًا على إيجاد الطفل للأنماط المتكرّرة (Patterns) والرّبط بين المتشابهات، وذلك من أجل إخراج الرياضيات من صبغتها المجرّدة التي تتجسّد في التعامل مع أرقام، إلى أفكار منطقيّة أكثر، إذ يُعوّد الطفل على تمارين الربط بين الأشكال والألوان المتشابهة، وقد لاحظ الأساتذة أنّ من يملكون مهارة إيجاد الرابط (connection)، واكتشاف الأنماط المتكرّرة، سيُبلون في السنوات الخامسة والسادسة من التعليم الابتدائيّ بلاءً حسنًا.
أيضًا تعتمد الطريقة السنغافورية على مبدأ التواصل والتعبير عن النفس، ليس من طرف الأستاذ نحو التلميذ فقط، بل من التلميذ نحو الأستاذ وحتّى بين التلميذ ونفسه، فمهارة التعبير عن طريقة الحلّ التي سيتّبعها الطفل في حلّ مشكلة رياضيّة مفيدة للغاية، ويكون هذا التعبير من خلال إمّا مخطّط وإما جدول وإما رسم بسيط، وإما بالتعبير شفويًّا، حتى يتدرّب الطفل على نقل أفكاره على الورق، ممّا يجعلها أوضح، فتتّضح صحّتها من عدمها.
وتلقى طريقة سنغافورة في تعليم الرياضيات دعمًا من كبار الأكاديميّين الرياضيين، أبرزهم الحائز على جائزة فيلدز في الرياضيات سنة 2010، سيدريك فيلاني، الذي كلفته وزارة التعليم الفرنسية بدراسة هذه الطريقة، وكتابة خارطة طريق لاعتمادها.
يقول عنها: إنها تبسّط بشكل منهجيّ وتصاعديّ كل المفاهيم الرياضيّة إلى عدّة مراحل: الأولى هي الأجسام الملموسة التي يمكن التحكّم بها ولمسها، والثانية: هي رسوم تبسيطيّة، والخطوة الثالثة هي المفهوم -الذي يمكن تعميمه على جميع الحالات- وفي كل مرّة هنالك تمارين إجباريّة تابعة لكتاب الدروس عن جميع المفاهيم في البرنامج الدراسي. إنها طريقة يمكن أن يجدها البعض عبقريّةً، وقد يُقال عنها أشياء أخرى، كأن يقولون إنّ التقدّم في الدروس من خلال هذه الطريقة يتّسم بالبطء، فالطالب النبيه والمتحمّس قد يجدها مزعجة.
سنغافورة.. يستطيع التعليم أن يفعل الكثير في وطن ضائع!
في التاسع من أغسطس (آب) 1965، استيقظ سكّان سنغافورة على وقع صدمة كارثيّة. لقد صوّت البرلمان الماليزي بالأغلبية المطلقة على إخراجهم من الاتحاد الفيدرالي، وبالتالي التخلّي عن أي مسؤولية في تسيير المنطقة، أو ضمان الحد الأدنى من الخدمات لشعبها، وفجأة وجدت سنغافورة نفسها مستقلّة دون إرادتها، ودون أيّة خُطّة واضحة لإنقاذها من الورطة الاقتصادية والاجتماعية التي تغرق فيها، فلا يوجد مصدر للمياه العذبة يستطيع الشعب السنغافوري شربه، كما أنّ التشرّد والفقر المدقع منتشر بكثافة شديدة في جميع الأنحاء.
لم تجد سنغافورة أي موارد طبيعيّة تلتجئ إليها حتى تخرجها من أزمتها التي تعيشها، فلجأت كما يقول أوّل رئيس وزراء لها “لي كوان يو” إلى موردها الوحيد: الإنسان، إذ استثمرت في قطاع التعليم، وأرسلت نخبة طلّابها إلى أحسن الجامعات العالمية، كما صمّمت نظامًا تعليميًّا يعدّ من بين الأحسن في العالم، أشرف عليه مجموعة من الخبراء الذين زاروا عدّة بلدان، واستفادوا من تجاربهم في تصميم منهجهم الخاص الذي تتسابق عليه حاليًّا كبرى الدول من أجل تطبيقه في مدارسها.
اليوم تعدّ سنغافورة أحسن بلد من ناحية التعليم والتدريب في قطاع الأعمال، كما أنّ لها جامعتين في قائمة أفضل 75 جامعة في العالم، والمدرسة السنغافوريّة تعتبر الأحسن في العالم حسب تصنيف PISA السنويّ الذي يختبر الطلبة في أكثر من 70 دولة في ثلاث مواد رئيسيّة: الرياضيّات، والقراءة، والعلوم.
وقد استفاد الاقتصاد بشدّة من هذه النهضة العلمية، إذ يعدّ من أسرع الاقتصاديات العالمية، ومن أكثرها جاذبيّة لرجال الأعمال، كما أنّ نسبة البطالة نحو 3% فقط. بفضل التعليم، وبعد أن كانت سنغافورة بالأمس القريب فقط تعيش أزمة اقتصاديّة خانقة، صارت تصدّر للعالم 300 مليار دولار من الآلات والإلكترونيات والمواد الكيميائية المصنّعة، بالإضافة إلى تصدير نظامها التعليميّ إلى جميع بقاع العالم.