من عبق التاريخسلايدر

عمر بن حفصون…قصَّة متمرد من «المولَّدين» كاد أن يفتك بالدولة الأموية في الأندلس

شرع الباحث فيرجيليو مارتينيث إنا موردو من جامعة مالقة، في بداية عام 2020، هو ومجموعة من الباحثين، بالتنقيب عن بعض الآثار الأندلسية في مدينة بيشارة، تلك المدينة التي تقبع على بعد 30 كم من مدينة مالقة. وفي أثناء عملية التنقيب وقفوا جميعًا مندهشين أمام تلك الأطلال المغبرة بالتراب التي تعود إلى بلدة صغيرة يرجح أنها كانت مأهولة بالسكان ما بين القرن الثامن والتاسع الميلادي.

بعد السير عدة أقدام من تلك الأطلال عثر الفريق على كنيسة مبنية على الطراز القوطي، مما أثار فضول فيرجيليو، فقد عثر قبل عدة أعوام تحديدًا عام 2001 على كنيسة للمستعربين – الأندلسيين الذين احتفظوا بدياناتهم المسيحية لكن تعلَّموا العربية وركنوا إلى عادات وتقاليد وأحكام العرب الفاتحين- في البلدة نفسها، ومع تحليل حيثيات الاكتشاف استنتج أن هذه الأطلال وتلك الكنائس ما هي إلا امتداد لانطلاقة «ثورة المولدين» تحت قيادة عمر بن حفصون.

هذا التقرير سيأخذك لتتجول بين بلدان الأندلس، وعلى مدار حكم أربع خلفاء أمويين ونحو أربعة عقود، ستتعرف إلى المتمرد عمر بن حفصون ومن أين انطلقت ثورته وأسبابها؟ ومن هم المولَّدون؟ وهل كانت الدولة الأموية على وشك الانهيار حقًّا؟ ومن أنقذها؟

ابن حفصون.. حين أشعلت «نبوءة تاهارت» جذوة الثورة في نفسه

إبان دخول المسلمين شبه الجزيرة الأيبيرية، شهدت الأندلس تنوعًا عرقيًّا وثقافيًّا، إذ أغرت عدالة الإسلام سكان الأندلس الأصليين لاعتناقه واتباع تعاليمه، ووفرت تلك الظلال الآمنة بيئة خصبة للبربر للمصاهرة بين رجال المسلمين الفاتحين ونساء الإسبان الأندلسيين، فأصبح نسلهم «المولَّدون» كما أطلق عليهم المؤرخون. وأصبح هذا الجيل من المولدين فيما بعد يمثل الغالبية العظمى من سكان شبه الجزيرة الأيبيرية. استنادًا إلى ما ذكره الدكتور عبد المجيد نعنعي في كتاب «الدولة الأموية في الأندلس»، بالإضافة إلى جيل آخر من «المستعربين»، الذين احتفظوا بدينهم لكن ارتكنوا لتقاليد وتعاليم العرب ولغتهم.

ومع أن «المولدين» جمعوا ما بين القومية القوطية وأصالة العروبة، فإنه يمكن القول بأنهم «رقصوا على السلم»، فلم  يحظوا باحترام الإسبان الذين عابوا عليهم ارتداده عن دين آبائه ومصاهرة العرب، ولم يحظوا بوجاهة العرب الاجتماعية الذين عاملوهم بدونية. لذا اتجه هذا الجيل لاحتراف المهن البسيطة وامتهان الزراعة، إلا أن بعضهم حنق على السلطة الحاكمة واستئثارها بثروات البلاد فسعوا للتمرد والاستقلال عنها.

عندما اعتلى  الأمير محمد بن عبد الرحمن عرش الملك عام 852م، كانت أسرة بني قسي الأندلسية – وهي أسرة قوطية اعتنقت الإسلام – قد بسطت نفوذها على بلاد الثغر الأول، وأسست حكومتها المستقلة عن سلطان الدولة الأموية. 

إلا أننا سنعود إلى ما قبل هذا الاستقلال بعامين، سننتظر ميلاد المتمرد بطل تقريرينا في بلدة كور رية. وها نحن نستقر أمام بيت سيد يدعى حفص بن جعفر، تضج جدرانه فرحًا، وتتناقل البشارة بين أهل البيت والجيران، ها قد ولُد الرضيع بصحة وعافية، وأسماه أبوه عمر.

كان حفص رجلًا مسالمًا ذا أصول قوطية، أسلم ونأى بنفسه عن الانخراط في أعمال الشغب أو الالتحاق بالعصابات المختفية في جبال تلك المنطقة، ثم بدأ بجمع ثروة طائلة بفضل عمله الجاد في الزراعة، واستطاع أن يصبح أحد أصحاب الوجاهة والشرف في بلدته.

تذكر رواية ابن القوطية في «تاريخ افتتاح الأندلس» أنه عندما اشتد ساعد الفتى عمر، وبلغ مبلغ الشباب، اتسمت شخصيته بالدهاء والحنكة، إلا أن غضبه وشراسته كانا يغلبان حنكته، فقتل أحد جيرانه دون مبرر، ثم فر إلى بلدة تاهارت بشمال أفريقيا ( تيارت في الجزائر حاليًا)، وهناك لجأ إلى خياط من أهل رية وعمل معه، حتى رآه شيخ من ببشتر، وأثنى عليه وتنبأ له بالملك العظيم الذي سيحظى به يومًا، وأنه سيُخضع رقاب بني أمية.

تأثر ابن حفصون بحديث الشيخ، فتبع حدسه وسار إلى جبل ببشتر، واستقطب حوله مجموعة من العصابات وقطاع الطرق، كان يستعين بهم في الإغارة على الحصون المجاورة وسلب مؤنهم، ويمنيهم بالغنائم والكنوز، ثم اتخذ من هذا الجبل، الذي امتاز بوفرة موارده وصعوبة الوصول إليه؛ معقلًا ممتازًا ليشعل الجذوة الأولى للتمرد على بني أمية والعمل على تحقيق نبوءة الشيخ. 

ابن حفصون والسعي نحو تحقيق النبوءة

مع تردى أوضاع الأندلس في نهاية عهد الحاكم محمد بن عبد الرحمن، وحنق الرعية على السياسة الضريبية للدولة، وسيطرة العرب على السلطة المركزية، ونجاح ثورة بني قسي وغيرها من الثورات؛ انطلقت الشرارة الأولى لابن حفصون عام 850م، إذ استغل هذه الفرصة الذهبية في حشد الأنصار من حوله، وإثارة القومية القوطية للمولدين، والتلاعب بعواطف المسلمين والبربر الساخطين على تردي أوضاعهم، فأعلن انقلابه على السلطة الأموية، وبث الفوضى في جنوب الأندلس، وتمكن من هزيمة عامل الكورة عامر بن عامر.

شعر محمد بن عبد الرحمن بخطورة الثورة التي أشعلها ابن حفصون، وازدياد نفوذه؛ مما دفعه في عام 883م إلى إرسال جيش يرأسه الحاجب هاشم بن عبد العزيز لمحاربة عدوانه، فاستطاع التغلب على ابن حفصون وأسره، ثم إرساله إلى العاصمة قرطبة تحت حمايته، فصفح عنه الأمير، وعينه قائدًا لجيوشه، إلا أنه لم يتأقلم مع الطبيعة القرطبية الناعمة، وفر مجددًا نحو حصن ببشتر بعد عام من هزيمته، واستطاع انتزاعه من قائده التجوبي رغم تحصينه.

يذكر الدكتور نعنعي في كتابه، أنه «فور فرض سيطرته على الحصن تمكن ابن حفصون مجددًا من جمع أنصاره، والتوغل في مناطق الحدود المجاورة للمالك الإسبانية، كما تحالف مع غيره من الثوار، فانضم إلى جيشه، ابن حمدون من بني رفاعة، مما قلقل أمن البلاد». في عام 885م، في ساحة فسيحة خارج منطقة الحامة، على أحد الجوانب، رفرفت أعلام ابن حفصون بمحاذاة أعلام ابن حمدون، وعلى الجانب الآخر كانت ترفرف أعلام الخلافة الأموية تحت قيادة المنذر بن محمد. 

التقي الجمعان، وتناثر الغبار، وصهلت الخيول. ها هو المنذر ينقض على ابن حمدون فيرديه قتيلًا، ويصيب ابن حفصون بجراح ثخينة، يتراجع ابن حفصون وجيشه بهدوء للاحتماء بالمدينة. وبقي المنذر يحاصر أسوار المدينة، حتى أتاه الرسول بوفاة أبيه، فانسحب بجيشه إلى قرطبة لاستلام مقاليد الحكم. 

ابن حفصون.. من قاطع طريق إلى ثائر متمرد

طال ما عنَّف عليكم السلطان، وانتزع أموالكم، وحمَّلكم فوق طاقتكم، وأذلتكم العرب واستعبدتكم. وإنما أريد أن أقوم بثأركم، وأُخرجكم من عبوديتكم».

هكذا استهل ابن حفصون رسائله إلى زعماء الحصون المجاورة لجبال ببشتر، طمعًا في استمالة إخوانه من المولدين والمستعربين بعد هزيمته أمام المنذر، وهو ما نجح فيه بالفعل، فقد نال ولاءهم ونصرتهم، وبهذه الخطوة كثر أتباعه وامتد نفوذه من إلبيرة إلى جيان. بل تمكن من الاتصال بالدولة العباسية في المشرق نكاية في الخلافة الأموية، وراسل بعض ملوك الممالك الإسبانية.

ويبدو أن التفاف الأنصار من حوله، واحتكاكه بكافة الأعراق، أبدل طيشه حكمة وحنكة، وبطشه شجاعة وعدلًا، فتخلى عن سياسة قطاع الطرق، وأجزل العطايا من الأموال والغنائم لأفراد عصابته، أملًا في كف أذاهم عن الرعية، وصغر خده لأحبائه وأخوانه، وحفظ حرماتهم، مما بث الأمن والاستقرار في البقاع الخاضعة لحكمه.

وقد وصف ابن عذارى تلك الحقبة من حكمه بأن المرأة كانت تخرج من بيتها محملة بالمتاع والمال منتقلة من بلدة إلى أخرى، دون أن يعترض طريقها أحد من خلق الله. وهذا ما جعل صورة عمر بن حفصون تتبدل من قاطع الطريق إلى زعيم جميع الثوار سواء كانوا مستعربين أو مولدين أو من البربر. ورغم انشغال المنذر بتوطين قواعد الملك في قرطبة فإنه لم يغفل عن هذا الخطر المحدق الذي فاحت رائحته للعاصمة.

أطلال حصن عمر بن حفصون "ببتشر" – مصدر الصورة ويكي ميديا
أطلال حصن ابن حفصون “ببتشر” – مصدر الصورة ويكي ميديا

في ربيع عام 888م، خارج حصن ببشتر، حاصر الأمير المنذر الحصن حصارًا منيعًا من جميع الجهات. في داخل الحصن يشعر ابن حفصون بهزيمته بعد نفاد المؤن واستنزاف الروح المعنوية لحاميته، لذا رضخ وطلب الصفح مقابل المؤن والأغذية، إلا إنه احتال على الخليفة وسرق المؤن لحماية قومه من الجوع والتعب، فاستمر المنذر في حصاره حتى وافته المنية في 29 يونيو (حزيران) من العام نفسه. 

استغل ابن حفصون دهاءه للمرة الثانية، فبادر بطلب الصفح والعفو من الأمير عبد الله بن محمد بعد توليه الحكم عقب أخيه المنذر، الذي كاد ينهي ثورته تمامًا لولا مشيئة القدر، وأرسل بعثة يرأسها ابنه حفص بن عمر إلى قرطبة طلبًا للعفو والسماح. 

فاحتفى بها الأمير، ووافق على الصفح مقابل أن يحتفظ ابن حفصون بالحصون الخاضعة لحكمه. ويبدو أن أصل المرء يغلبه، فعاد ابن حفصون إلى غيه وتمرده، بعد أن التقط أنفاسه خلال الأشهر القليلة ورمم الخسائر الفادحة التي تكبدها. ثم نقل قاعدته إلى «حصن بلاي» المهيأ لاستقباله بعد إمداده بالعتاد والعدة. انتهز ابن حفصون هذا الموقع المميز من عاصمة قرطبة، والذي يبعد عنها مسافة 50 كيلومترًا فقط، في نهب القرى المحيطة بالعاصمة وإرهاب أفرادها، استعدادًا لضربته القاضية بالتقدم نحو العاصمة قرطبة والهيمنة عليها. لكن الأمير أفسد مخططاته.

في عام 891م، أمام حصن بلاي، وقف الأمير عبد الله على رأس 14 ألف مقاتل، وابن حفصون على رأس 30 ألف مقاتل، يلتقي الجيشان، تتعالي قعقعة السيوف، وتتخضب الساحة بالدماء، يتقهقر ابن حفصون  مع رفاقه إلى حصنه مجددًا، يجمع المسلمون جيش الأمير أشلاء الجثث، ويصفون آلاف الأسرى الذين أُمر بقتلهم، حتى أدلى الليل بستاره، وسنحت الفرصة المناسبة لابن حفصون للهرب إلى حصن ببشتر.

بعد ثلاثة أعوام من هزيمته في حصن بلاي، قاد المطرف بن عبد الله جيشًا، نحو حصن ببشتر، لحصار ابن حفصون، وظل الطرفان يتقاتلان خلال أربع سنوات، يفوز ابن حفصون مرة ويخسر مرة، وظل هذا الحال حتى عام 899م. 

الناصر السد المنيع لحماية الأندلس الإسلامية

يحكى الدكتور محمد عبد الله في كتابه «دولة الإسلام في الأندلس» أنه عندما تبددت السبل أمام ابن حفصون بعد هجمات الأمير عبد الله وولده المطرف، استجار بالملك ألفونسو الثالث ملك أستورياس في عام 899م، لذا ارتد عن الإسلام واعتنق النصرانية وغير اسمه من عمر بن حفصون إلى صموئيل، إلا أن هذه الخطوة السياسية لم تكن الخطوة المطلوبة لاستعادة سيطرته على رقعة الشطرنج، بل كانت أسوأ قرار أقدم عليه ابن حفصون؛ إذ انفض من حوله جميع أنصاره وأخلص مساعديه، وكأن الستار قد كُشف عن النوايا الحقيقية لتمرده، الذي انصب أولًا وأخيرًا على مصالحه الشخصية لا لتحقيق العدالة واستعادة أمجاد القوط وتراثهم، كما كان يقول لأنصاره.

آثار كنيسة شيّدها عمر بن حفصون بمدينة ببشتر
آثار كنيسة شيّدها عمر بن حفصون بمدينة ببشتر

في عام 912م، جلس عبد الرحمن الناصر على عرش قرطبة، تتعالى من حوله أصوات التهليل والتكبير، احتفاء بهذا الشاب اليافع، يتقدم الجميع واحدًا تلو الآخر ليبايعه على الإمارة بطيب نفس، دون خلاف أو إراقة الدماء، فمن غيره أكفأ باستعادة أمجاد الأمويين، وحمل هذه الأمانة الثقيلة. 

ارتأى الناصر أن يكون أول القرارات الحكيمة التي ستضمن له استقرارًا داخليًّا، هو القضاء على ثورة ابن حفصون، وإنهاء نفوذه الذي كان يمتد من كور رية إلى مشارف قرطبة، لذا قرر أن يخالف سابقيه من الخلفاء، ولم يذهب مباشرة إلى معقله والقضاء عليه، بل سعى لسد الشرايين الفرعية التي تمده بالعون، وشن الهجمات المتلاحقة التي تمنعه من التقاط أنفاسه واسترداد عافيته.

في نهاية شتاء عام 913م، تحرك الناصر في أولى غزواته لقتال ابن حفصون وشيعته، فبدأ بحصار سعيد بن هذيل في حصن المنتلون، حتى استسلم له، ثم اتجه إلى الحصون التي يحكمها ابن حفصون، فاستولى عليها حصنًا حصنًا، وأطفأ نيران الثورة وأخضع رؤوس العصيان، كما أرسل جيوشه إلى مالقة لمنع اتصاله ببلدان شمال أفريقيا، حتى انتهى من السيطرة على 70 حصنًا من أمهات حصون الثورة.

في مايو (أيار) عام 914م، شن الناصر غزوته الثانية على ابن حفصون بعد استعادة نفوذه في كور رية والمناطق الخضراء، ثم ألحق به هزيمة ساحقة قرب قلعة طرش، ففقد حلفاءه الإسبان، إلا أنه تمكن من الفرار إلى مناطق غرب الأندلس. 

وفي العام نفسه حل بالأندلس موسم القحط والجفاف الذي أنهك اقتصادها، ومع الضربات الموجعة المتتالية التي تلقاها ابن حفصون، بالإضافة إلى هرمه وتقدم عمره، حضه الأسقف جعفر بن مقسم وزعيم البرابرة آنذاك، عبد الله بن أصبغ على طلب الصفح من الناصر والجنوح إلى السلم، فخنع لهم وأرسل إلى الأمير رسالة طالبًا منه العفو عام 915م، فقبلها الناصر ووافق على إعطائه الأمان، بالإضافة إلى 162 حصنًا تحت سلطته، ردًّا لجميل صنعه ابن حفصون لوالده محمد عندما لجأ إليه خوفًا من بطش الأمير عبد الله بن محمد. 

على خلاف المتوقع، رضخ ابن حفصون هذه المرة إلى عقد الصلح والتزم به حتى وافته المنية في عام 917م، وهنا أغلقت صفحة أخطر ثائر واجه الدولة الأموية في الأندلس، والذي كاد أن يفتك بها لولا حزم الناصر وذكائه، وانكسرت شوكة المولدين والمستعربين من بعده. واختلف المؤرخون في كيفية سرد قصته، فاختار المستشرق رينهارت دوزي أن يسرد قصة «الثائر المغوار» الذي ثار على العصبية القبلية وانتصف لأبناء قومه، واختار ابن حيان قص حكاية إمام الخوارج والباطل الذي فرق جماعات المسلمين، وفي كلتا الحالتين كان الشخص واحدًا.

إسبانيا بالعربي.

أخبار جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *