“شنت ياقب” المدينة التي لم يقتحمها إلا قائد مسلم واحد!
إسبانيا بالعربي – كانت مدينة شنت ياقب في إقليم جيليقية شمال غرب الأندلس، ونظرا لوعورة تضاريس جيليقية فقد ظلت باستمرار مركزا قويا لمقاومة المسلمين في الأندلس بتحريضٍ من الكنيسة التي جعلت من شنت ياقب أو “سانت ياقب” صاحب القبر المزعوم هناك أيقونةً لاستعادة الأندلس من “المسلمين”.
وشنت ياقب أو “القديس يعقوب” أو “سانت ياقب” كما يزعم النصارى هو أحد الحواريين الإثني عشر وأقربهم من المسيح عليه السلام، وقالوا أنه كان أسقفا ببيت المقدس وجاء إلى هذا المكان داعيا ولما مات بالشام حمل أتباعه جثته ودفنوها بهذه الكنيسة التي كانت أعظم مشاهد النصارى بالأندلس حيث يحجون إليها من كل أنحاء أوروبا.
الهجوم على جيليقية 387هـ -997م
عزم الحاجب المنصور أن يقتحم “شنت يعقوب” عاصمة “جيليقية”، آخر معقل للنصارى في شمال غرب الأندلس وكانت منطقة وعرة وتعد من أخطر المناطق الأندلسية، لم يصل المسلمون إليها إلا أيام الفتح من عهد موسى بن نصير وطارق بن زياد، ثم خرجت من أيدي المسلمين، فقرر المنصور أن يعيدها إلى حكم المسلمين، إذ أيقن أنه من المحال تحقيق الاستقرار أو ضمان الهدوء في الأندلس مع بقاء “جيليقية” صامدة قوية، لذلك قرر أن يقتحم هذه المنطقة الصعبة، فوجود عشرات الأنهر مابين عاصمته قرطبة وبين شانت ياقب، تجعل العبور بالغ الصعوبة، بالإضافة إلى سلاسل الجبال الوعرة.
حملة برية بحرية:
رأى المنصور بن أبي عامر أنه لا يمكن أن يصل إلى هذه البقعة إلا بالكتمان، كتمان استعداداته وطريق مسيرة ليأخذهم بغتة، وكيف ذلك؟ إذ لا بد أن تصل الأخبار إلى أهل “جيليقية” للأسباب التي ذكرت.
أمر المنصور بإعداد جيش البر من مدينة “سالم” ثم ينطلق منها، وأن يعدّ الجيش البحري (الأسطول) من مدينة “قصر أبي دانس” وسيحمل الأسطول العدة والطعام، ومع الأسطول قوات الهندسة.
وقد أخذ الاستعداد لهذه الغزوة وقتاً طويلاً، لأن الخطة التي رسمها المنصور قد نفذت بدرجة مذهلة في إطار حملة (برية بحرية) معاً.
أمر المنصور أن تبدأ الحملة في الرابع والعشرين من جمادى الثاني عام 387 هـ وقاد بنفسه هو القوات البرية حتى وصل إلى نهر “دويرة” وأمر أن تدخل السفن في النهر وجانب المحيط الأطلسي، واصطفت السفن سفينة جنب أخرى حتى تشكل جسراً يمكن العبور عليه، ويتزود الجند مم فيها من الطعام.
ابتكر الحاجب طريقة اهتدى إليها تفكيره ونفذتها قوة عزيمته، جيش بري يعبر جسوراً تشكلها السفن على عدة أنهر.
سلاح الهندسة:
فتح في طريقه مدينة “بورتو” موضع التقاء القوات البرية والبحرية، ثم جازها، وكان سلاح الهندسة يوسع للجند الممرات الضيقة، ويردمون العوائق البسيطة، وعبروا الجبال إلى أن وصل الجيش إلى حصن بلاي ففتحه، ولم يكن المسلمون قد فتحوه من قبل، وأتم طريقه، يعبر السهول والجبال حتى وصل إلى حصن “شنت ياقب” في الثاني من شهر شعبان أي بعد مسيرة استغرقت أربعين يوماً تقريباً.
شنت ياقب المدينة الخالية:
لم يكن سكان تلك المدينة يعتقدون أن المسلمين سيصلون إلى مدينتهم، لكنهم لما رأوا طلائعهم ووصلتهم أنباء تقدمهم أسقط في أيديهم، ففروا إلى الجبال وأخلوها بسرعة توازي سرعة تحرك الجيش الإسلامي، دخل المسلمون المدينة وليس فيها من أحد، بغير قتال يذكر، فجمعت الغنائم الكثيرة التي تركها أهل المدينة.
تسامح وحزم:
قرر المنصور أن يمر على القبر المقدس لدى النصارى هناك، فلما وصل إليه لم يجد أحداً سوى شيخ طاعن في السن عاكف عليه، فسأله الحاجب: ماذا تفعل هنا؟ فأجاب الشيخ الهرم: إني أؤنس صاحب القبر. فتعجب منه المنصور ومن وفائه لهذا القبر الذي لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة، وصدق الله تعالى القائل عن من يعمل ويتعب وينصب وهو في الآخرة، {عَامِلَة ٌنَّاصِبَةٌ } الغاشية:3، فأعطى ابن أبي عامر أوامره بتدمير كل مصنع حربي، وإحراق السفن، وهدّ الأماكن الحصينة، دون أن يمس القبر أو الكنائس، ثم أمر بالرحيل والعودة وقد وصلت أخبار فتوحاته إلى روما والقسطنطينية.
قال الشاعر عن الحاجب المنصور (وقد كتبت فيما بعد على قبره):
آثاره تنبيك عن أخباره حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله أبداً ولا يحمي الثغور سواه
وقد صدق فيما قال فيما يتعلق بمهمته وحرصه على الأمة ومجدها عندما نقارنه بالحكام الذين جاؤوا بعده.
خاض المنصور خمسين معركة، ولم تهزم له راية قط، وقد وطئت قدماه ما لم تطأه قدم معركة بلا يأس ولا قنوط ولا استسلام ولا راحة، فأي همة وأي طموح هذا.
بعد وفاة الحاجب المنصور أعاد النصارى إعمار كنيسة القديس يعقوب المهدّمة وبنوا كنيسةً كبيرةً استغرق تشييدها أكثر من 130 عاما لكي يعيدوا رمزية هذا المكان الذي اتخذوا من أسطورة صاحبه القديس يعقوب أيقونةً لبعث الروح الصليبية عند النصارى لطرد المسلمين من الأندلس.
إسبانيا بالعربي.