فيليب الرابع.. ملك فرنسا الذي هزم البابوية ونكَّل بـ”فرسان الهيكل”
بحلول عام 1300، كانت فرنسا أقوى دول أوروبا كلها، بفضل الاستقرار السياسي وغنائم الحروب الصليبية، أثناء حكم الملك فيليب الرابع، الملقب بـ”الجميل”، في الوقت الذي كانت تعاني فيه إنجلترا من عجز ملوكها، وكانت ألمانيا مُفككة الأوصال نتيجة الحروب الناشبة بين الأباطرة والباباوات.
وفي عهد فيليب الرابع شهدت فرنسا صراعًا بين سلطتين، هما: السلطة الروحية، ممثلةً في البابا “بونيفاس الثامن”، والسلطة الملكية، متمثلة في الملك الفرنسي، لإثبات أي السلطتين أجدر بالولاء والطاعة، فإلام انتهى ذلك الصراع؟ ولماذا تعد فترة حكم فيليب الرابع مرحلة مفصلية في التاريخ الأوروبي والفرنسي خاصة؟
في السطور التالية، سنمر على أبرز المحطات في حياة فيليب الرابع، الملك الفرنسي الذي قضى على أهم وأقوى الهيئات العسكرية الرهبانية في أوروبا، وطردَ اليهود من فرنسا، ونتطرق إلى صراعاته مع البابوية، ودعمه للمغول ضد المسلمين، وكيف يتذكره شعبه الآن؟
الوصول إلى عرش فرنسا بـ”السم” ودهاء الأم
في إحدى قلاع العصور الوسطى جنوبَ شرق باريس، ولد فيليب الرابع في أبريل (نيسان) 1268، وهو الثاني بين إخوته الأربعة، وكان والده الملك فيليب الثالث الابن البكر للملك “لويس التاسع”، الذي توفي في خضم الحملة الصليبية الثامنة، بينما كان فيلب يبلغ عامين من العمر، وكذلك توفيت “ماري” والدته في بداية عام 1271، بعد سقوطها من على ظهر حصان خلال مشاركتها مع زوجها في الحملة الصليبية الثامنة، وهي حامل بطفلها الخامس.
وحين توفى “لويس”، الابن الأكبر للملك فيليب الثالث عام 1276، أصبح فيليب الرابع بذلك وليًّا للعهد وهو في عمر ثمانية أعوام، ويُشتبه في أن لويس مات مسمومًا، وأن زوجة أبيه قد حرضت على قتله، بعد أن أنجبت “فيليب” (ابنها البكر) في الشهر نفسه الذي توفي فيه “لويس”.
وبعد وفاة والده، تولى فيليب الرابع العرش وهو في عمر 17 عامًا في وقت كانت فيه أوضاع البلاد متردية؛ بسبب ما لحق بها من ضعف وفقدان الهيبة إبان حكم والده. وكان يُلقب بـ”الجميل” لوسامته، وكان جريئًا وذا طموحات عالية؛ إذ كان يأمل أن يُخضع كل طبقات المجتمع الفرنسي لسيطرته المباشرة: الأشراف، ورجال الدين، وأهل المدن، والرقيق، وأراد أن يُقيم نهضة فرنسا على أساس التجارة والصناعات الحرفية، لا الزراعة، وأن يمد حدود دولته إلى المحيط الأطلسي، وجبال البرانس (في إسبانيا اليوم)، والبحر المتوسط، وجبال الألب، ونهر الراين (في ألمانيا اليوم).
قروض وضرائب وحروب
يصف بعض المؤرخين فيليب الرابع بأنه من أدهى رجال الدولة في العصور الوسطى وشهدت فرنسا في عهده تقدمًا ملحوظًا في بعض النواحي الاقتصادية والتشريعية والتعليمية والأدبية والفنية، واختلف فيليب في اختيار أعوانه ومستشاريه عمن سبقه من ملوك فرنسا، فلم يخترهم من كبار رجال الدين والنبلاء الذين خدموا البلاط الملكي، بل اختارهم من طبقة المحامين والأكاديميين، الذين أقبلوا عليه وعقولهم مفعمة بالأفكار الجديدة والتوسعية.
ونتيجة لطموحات فيليب، اندلعت الحرب بين فرنسا وإنجلترا عام 1294، وكانت الحروب قد تغيَّرت طبيعتها، وأصبحت أكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية، وأكثر كلفةً بالطبع، فعلى سبيل المثال أسس فيلب جيشًا عسكريًّا موحدًا بعد أن كان لكل إقطاعي جنده الخاص، ومن هنا نشأت حاجة فيليب لتمويل الحروب، فتوسع في فرض الضرائب، وخفَّض قيمة العملة النقدية، وألزم كل مدينة بدفع ضريبة محددة، وكانت منظومة الضرائب هذه من بصمات عهد فيليب.
وبمساعدة مستشاريه القانونيين والأكاديميين، استطاعَ فيليب الرابع تلبية حاجته الماسة والدائمة للمال لتغطية نفقات حروبه، وتحقيق طموحه في مد نفوذه السياسي خارج بلاده، واستخدم فيليب كل الأساليب المتاحة لإثبات أن سلطته الملكية هي الأجدر بالطاعة والولاء في الداخل الفرنسي، وفي عهده ازدهر نظام الحكم الاستبدادي والمتحرر من سلطة الكهنوت، بالتزامن مع نشوء الملكية الوطنية، التي يتحكم فيها الملك في قيادة جميع جوانب الدولة، بما في ذلك الحكومة والدين.
وكان لعصره وجهٌ آخر، فقد اتسم حكمه بالظلم، ومقته الشعب لكثرة جمع الضرائب وانهماكه في طموحاته الشخصية على حساب الصالح العام، واستخدام شتى السبل للقضاء على خصومه، بعد أن استعان بجهود “محاكم التفتيش” لانتزاع الاعترافات من معارضيه تحت التعذيب، وكان من حقّ تلك المحاكم اعتقال أي شخص يُشتبه فيه دون أي اتهام رسمي؛ إذ كانت التهم مجهزة بالفعل من فساد، وهرطقة وانحراف، وغيرها.
فيليب الرابع يأسر البابا ويُعيِّن آخر
في العصور الوسطى، كانت روما مقر البابوية، وحاول الباباوات في ذلك العصر فرضَ وصايتهم على ملوك أوروبا، ولكن بعضهم رفضوها، وحاولوا قلبَ الطاولة على الباباوات بتقييد سلطات الكنيسة، وكان أبرز هؤلاء الملوك المتمردين فيليب الرابع الذي رغبَ، بالإضافة إلى طموحاته التوسعية بالخارج، في تحقيق الملكية المطلقة، وكبح جماح رجال الدين والنبلاء أيضًا.
ومع أن فيليب الرابع وريث مجتمع لطالما آمن بقدسية السلطة الروحية للبابا، ودافع عنها وانخرط في الحملات الصليبية بمباركة وتحريض منها، فإنه ثار ضد السلطة الدينية طمعًا في تحقيق الملكية المطلقة، ودخلَ في صراع محتدم مع البابوية في روما، متمثلةً في البابا بونيفاس الثامن.
بدأ الصراع في 1296، عندما فرض فيليب ضرائب إضافية على رجال الدين دون الحصول على إذن من البابا، الذي سمحَ بجمع الضرائب من رجال الدين في حالات الطوارئ وللأغراض العسكرية وخاصة الحروب الصليبية، ولكن فيليب سعى لفرض مزيد من الضرائب لتمويل حروبه ضد إنجلترا، الأمر الذي أشعل الصراع بين الملك والبابا.
فأصدر البابا مجموعة من المراسيم تؤكد سلطته على جميع ملوك أوروبا، واستدعى الأساقفة الفرنسيين لعقد مجمع كنسي في روما، لإيجاد وسائل لإصلاح كل من ملك ومملكة فرنسا، وأرسل مرسومًا إلى فيليب الرابع لتقديم بعض النصائح له، بصفته صاحب سلطة عليا على الملك، جاء فيه: “اسمع يا بني إلى وصايا أبيك.. ولتأخذ جماع قلبك بتقاليد السيد، الذي يحتل على الأرض مكان الرب”، وأخبره أن تحديه للكنيسة يعد تجاوزًا على الرب وشريعته، وأشار إلى عدم جواز تقليل قيمة العملة، وتسلُّط مستشاريه القانونيين على رعاياه، ونصحه بالابتعاد عن رفاق السوء الذين أبعدوه عن الكنيسة.
فيليب الرابع الذي عُرف بطباعه العنيدة، قابل هذا التحدي بمنع رجال الدين الفرنسيين من الذهاب إلى روما، وشنَّ مستشاروه حملة من المضايقات ضد المصرفيين الإيطاليين (اللومبارد)، وطردوهم من باريس للضغط على الاقتصاد الإيطالي، ومنعوا تصدير الذهب والفضة وأي أموال خارج فرنسا، ليحرموا البابوية من موارد مالية مهمة، وأعلنوا أنه سيجري اعتبار رجال الدين أعداءً للدولة إذا لم يدفعوا الضرائب لتمويل الحرب مع إنجلترا.
وبالغ فيليب ومستشاروه في العداء لرجال الدين، فوضعوا قائمة طويلة من الاتهامات أذيعت علنًا ضد البابا، وهو ما رد عليه البابا بإعداد مرسوم يعلن فيه حرمان الملك فيليب الرابع كنسيًّا وخلعه من العرش، فقرر فيليب التصعيد ضد البابا وأرسل مستشاره، “دي نورجاريه”، على رأس فرقة عسكرية، في مهمة سرية إلى الفاتيكان للقبض على البابا، والعودة به إلى فرنسا لمحاكمته.
وبالفعل نجحت الفرقة في اقتحام قصر البابا، وأسروه على مدار ثلاثة أيام، قبل أن يأتي فرسان روما لتخليصه، ولكن الحادثة تركت أثرًا كارثيًّا في نفسية البابا المسن؛ إذ تدهورت صحته عقب أسره وتوفي بعد شهر من الواقعة، ولاحقًا، تحايل فيليب وضغط لتنصيب بابا جديد فرنسيِّ الأصل، “كلمنت الخامس”، ونُقل مقر البابوية إلى فرنسا بدلًا من روما.
وبذلك “انتصر فيليب على البابوية انتصارًا لم يظفر به من قبل على الكنيسة رجلٌ من غير أهلها” كما يقول ويل ديورانت في كتابه «قصة الحضارة» ليصبح الملك في فرنسا حاكمًا على رجال الدين، بعد قرون طويلة من النفوذ الديني للبابوية في روما على ملوك وأمراء أوروبا.
التنكيل بفرسان الهيكل
لم تكن السلطة البابوية هي الوحيدة التي قوضها فيليب الرابع، بل عمل أيضًا على تحطيم “فرسان الهيكل”، أهم وأقوى الهيئات العسكرية الرهبانية في أوروبا حين ذاك، وكان لها دور محوريٌّ خلال الحروب الصليبية، ولكن بعد سقوط عكا عام 1291 بيد المسلمين، فقدت هذه الهيئة أهميتها العسكرية، واهتم أعضاؤها بالنشاطات المالية والمصرفية، وراكمت كنيستهم ثروة طائلة.
وكان الملك فيليب ذا صلة وثيقة بهم حتى عام 1305، وحافظت الهيئة على ولائها للملك وأقرضته المال بالفائدة، مقابل أن يضمن لهم حقوقها، وألا يحتجز القضاء الملكي ممتلكاتها، ولكن الحال تغيَّرت بعد أن رفضت الهيئة طلب الملك عام 1305 للانضمام إليها والتنازل عن العرش لابنه، لكن الهيئة أدركت أن طلب الملك فيليب لم يكن من باب التواضع والزهد في المُلك، وإنما لحاجته لقوة أكبر؛ إذ في حال انضمامه للهيئة سيصبح رئيسًا لها، ومن ثمَّ سيتمكّن من أخذ ثروات كبيرة من الفرسان، فضلًا عن هيمنته على أراضٍ واسعة في جميع أنحاء أوروبا.
وبعد أن رفض فرسان الهيكل طلبه، قرر الملك إطاحتهم والتنكيل بهم، فأخذ يضغط على البابا كليمنت الخامس لاتخاذ إجراءات حاسمة ضد الهئية، وتقرر عرض أعضائها أمام محاكم تفتيش خاصة، ووجهت إليهم عدة اتهامات منها الهرطقة، وإنكار المسيح، والشذوذ، واعتُقل كثير منهم، وأمرَ البابا ملوك أوروبا الآخرين بالقبض على أعضاء فرسان الهيكل في بلادهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم.
وتباينت نتائج محاكم التفتيش التي أقيمت لهيئة فرسان الهيكل بين فرنسا وإيطاليا عن بقية أوروبا؛ إذ لم يثبت أي اتهام على أعضائها في قبرص، وألمانيا، وقشتالة، وأراجون، والبرتغال، وفي إنجلترا اعترف ثلاثة من أعضاء الهيئة فقط بالتهم الموجهة إليهم، ورغم ذلك تقرَّر إلغاء كنيسة فرسان الهيكل رسميًّا في عام 1312،ليضعَ فيليب أول مسمار في نعش النظم الرهبانية العسكرية.
طرد اليهود ووعد بانتزاع بيت المقدس من المسلمين
في عام 1298، وافق فيليب الرابع على أن يخضع جميع رعاياه لسلطة المحققين ومحاكم التفتيش، وبذلك سقطت الحماية التي كان يوفرها لليهود، بعد أن كان قد أمر منذ عام 1290 بعدم مثول اليهود أمام أي محكمة، إلا المحاكم الملكية، مقابل مقاسمتهم أرباحهم مع الملك.
استطاع يهود فرنسا جمع ثروات كبيرة باشتغالهم بالأعمال المالية، وإقراض الفرسان والأمراء، والهيئات الكنسية لإتمام منشآتها الضخمة، واستغل فيليب الكره الجماعي لليهود؛ إذ كان الكثيرون يدينون لهم بالمال، فطردهم من بلاده عام 1306، وصادر أملاكهم لتغطية التكاليف الضخمة لحروبه، ولكن ذلك أضرَّ بالتجارة الفرنسية.
وبالنسبة إلى المسلمين، فقد كان لفيليب اتصالات وثيقة مع قوى المغول في الشرق الأوسط، الذين حاولوا التحالف مع القوى المسيحية لمحاربة المماليك المسلمين، واستقبل فيليب الرابع السفير الذي بعثه المغول إليه عام 1287 محملًا بالهدايا، واستجاب لطلبه قائلًا:
“إذا كان المغول سيقاتلون ضد العرب بالفعل من أجل الاستيلاء على القدس، مع أنهم ليسوا مسيحيين، فمن المناسب لنا أن نقاتل معهم، وإذا شاء ربنا سنخرج معهم بكامل قوتنا” * فيليب الرابع
ووعده فيليب بأن يقود بنفسه حملة عسكرية وينتزع بيت المقدس من المماليك، وأرسل سفيرًا ليتولى عقد التحالف مع المغول، ولكن رحلة سفيره لم تحقق الهدف المنشود منها، ولم تُشَن حملة صليبية ضد المماليك، لانشغال الأوروبيين في مشكلاتهم الداخلية.
وفي عام 1305، حاولَ المغول عقد تحالف جديد مع الأوروبيين، وأرسلوا هذه المرة رسائل إلى إدوارد الأول ملك إنجلترا، والبابا في روما، وفيليب الرابع أيضًا، يدعونهم لإقامة تحالف عسكري ضد المسلمين، وخُطِّط مجددًا لشن حملة صليبية، ولكنها تأخرت ولم تكتمل، حتى طُرحت فكرة حملة صليبية أخرى في مجلس فيينا عام 1312، وتعهد فيليب الرابع بالمشاركة فيها، ولكنه توفي عام 1314 قبل تجهيز الحملة.
هكذا يتذكر الفرنسيون فيليب الرابع
في سلسلة “قصة الحضارة” يخبرنا ويل ديورانت بأن الشعب الفرنسي كان معجبًا بشجاعة فيليب الرابع وصلابة رأيه، وأيده في صراعه مع البابا بونيفاس الثامن، ولكن اضطر الفرنسيون لدفع كلفة سياسات فيليب الرابع وإرثه.
فانتصاراته كادت أن تحطم كيان فرنسا، وتخفيضه لقيمة العملة كان سببًا في اضطراب الاقتصاد الفرنسي، ورفعت من أجور الأراضي الزراعية، وأفقرت الشعب، وأضرَّت الضرائب الفادحة بالصناعة، وكان نفي اليهود واللومبارد الإيطاليين سببًا في شلّ حركة التجارة، وخراب الأسواق، وتعطيل المواسم التجارية، ويقول ديورانت نصًّا عن ذلك “الرخاء الذي ازداد في عهد القديس لويس (جد فيليب الرابع) قد نقص واضمحل في عهد فيليب، الذي أتقن جميع ما في القانون والسياسة من ألاعيب”.
ولكن الواقع ليس بالسوء الذي يصوِّره ديورانت؛ إذ تروي مصادر أخرى أن فترة حكم فيليب الرابع كانت مرحلة مهمة في التاريخ الأوربي عامة والفرنسي خاصة، لأنها فَصَلت بين هيمنة البابوية في روما على ملوك وأمراء أوروبا، وبين نشوء الملكية المطلقة التي تعتمد على نظرية “الحق الإلهي في الحكم”، أي إن الملوك لهم سلطة مطلقة مستمدة من الله مباشرة ودون وسيط.
وبعد وفاة فيليب الرابع في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1314 في رحلة صيد، بهجومٍ من خنزير بري، خلفه على العرش ثلاثة من أبنائه بالتتابع، كان أولهم ابنه لويس العاشر، ولكن المنية وافتهم الثلاثة خلال 14 عامًا، ولم ينجب أحد منهم ذكورًا يرثون العرش، وتركَ ابنه شارل الرابع المتوفى إناثًا فقط، حُرمنَ من التاج، وأدى الصراع على العرش بعد وفاة آخر أبنائه الذكور إلى اندلاع “حرب المائة عام”.
إسبانيا بالعربي.