جزائري أم مغربي؟ قصة طارق بن زياد التي لن تملَّ من سماعها
يحظى تاريخ الأندلس بمختلف فصوله من الفتح إلى التساقط، فالسقوط النهائي، بمكانةٍ خاصة في وجدان العرب والمسلمين، ويمثل القائد المسلم طارق بن زياد، الذي يُنسَب إليه فتح الأندلس، رمزًا بارزًا على تلك المكانة الوجدانية الهائلة للأندلس، فبعد أكثر من 13 قرنًا ونصف على فتح الأندلس عام 92هـ (711م)، ما يزال لدينا مئات الأعلام في مختلف البلدان العربية، والتي تحمل اسم طارق بن زياد، من مساجد ومدارس وشوارع، إلى جانب مئات الآلاف من العرب المسلمين الذين يحملون اسم طارق تخليدًا له، واعتزازًا بالانتساب إليه.
تاريخ: من الصعود إلى السقوط.. المختصر الشامل لتاريخ الأندلس
وعلى خارطة العالم هناك دويلة جبل طارق الخاضعة للسيادة البريطانية، والتي تحتل الشاطئ الشمالي الإسباني من مضيق الزقاق، الذي يحمل أيضًا اسم مضيق جبل طارق. وفي الساحة الفنية لم نزل نذكر مسلسل (الطارق) إنتاج عام 2004، والذي تناول قصة حياة طارق بن زياد، ولعب الفنان المصري ممدوح عبد العليم فيه دور طارق. ومؤخرًا جرت الإشارة إلى قصة طارق بن زياد، والفخر بها، على لسان أبطال مسلسل قيامة أرطغرل التركي الشهير قبل سنواتٍ.
وقبل عقود، اختتم الشاعر العربي الراحل نزار قباني قصيدته المشهورة في رثاء الأندلس «في مدخل الحمراء» باسم طارق بن زياد، فقال: «عانقْتُ فيها عندما ودَّعتُها ….. رجُلًا يُسمَّى طارق ابن زياد»، وقبل سنواتٍ قليلة غنَّى المطرب الشهير كاظم الساهر هذه القصيدة تحت عنوان (غرناطة).
وفي رمضان من عام 1443هـ/2022م عاد اسم طارق بن زياد إلى الواجهة مرة أخرى مع إذاعة مسلسل (فتح الأندلس) من إنتاج ٍ كويتي، والذي أثار الجدل من جديد حول أصل طارق، وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي على هامش المسلسل اشتباكًا عنيفًا حول كون طارق بن زياد جزائريًا أم مغربيًا، فهل تحمل كتب التاريخ إجابات حاسمة تفضُّ هذا الاشتباك؟
جدلٌ سرمديّ: من هو طارق؟
في كتاب «قادة فتح الأندلس» ينقل المؤرخ العراقي محمود خطاب عن المصادر التاريخية الأقدم أن اسمه طارق، ونسبه هو طارق بن زياد بن عبد الله بن رَفْهُو بن وَرْفَجُّوم بن بنزغاس بن وَلْهاص ابن يَطُّوْفَت بن نَفْزاو، وينتسب إلى قبيلة نفزة البربرية المغاربية، التي كانت تسكن جبال المغرب الحالية، ويذكر خطَّاب أن تلك الرواية هي الأرجح، والأكثر تماشيًا مع سياق الأحداث. في حين ينقل المقري التلمساني في كتابه «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» روايةً ضعيفة عن أن اسمه هو طارق بن عمرو، نقلًا عن ابن بشكوال القرطبي. بينما رجَّح الإدريسي أنه بربري، لكن من قبيلة زناتة.
وهناك روايات تاريخية ضعيفة تذكر أنه أصوله تعود إلى الفرس. وتحديدًا منطقة همذان في إيران الحالية، ولعلَّ من أطلقوا هذا الرأي كانوا من الفرس المتعصبين لعرقهم الذين يريدون نسبة الفضل في فتح الأندلس إلى الفُرس. ويذكر المؤرخ محمود خطَّاب في «قادة فتح الأندلس» رواياتٍ أخرى مبثوثة في كتب التاريخ المغربي عن أصولٍ عربية لطارق بن زياد من حضرموتْ اليمنية، أو من بني ليث من بطون قبيلة قُضاعة اليمنية، ولذا نجده يُسمَّى أحيانًا طارق بن زياد الليثي، وممن يذكرون هذه التسمية العلامة ابن خلدون، لكن لا يتوافر مرجّحاتٍ قوية لكل الأخبار عن أصولٍ غير بربرية لطارق بن زياد، وكان طارق طويلًا أشقر الشعر، وهذا أيضًا قد يرجَّح كفة أصوله البربرية.
«قد اتفق الجميع فيما يظهر على أنَّ مُتولي كِبَر فتح الأندلس، وجلِّه، ومعظمِه طارق بن زياد. وقد اخْتُلِفَ في نسبه؛ فالأكثرون على أنه بربريٌّ من نفزة، وأنه مولىً لموسى بن نصير، من سبى البربر. وقال آخرون إنه فارسي»
*ابن عذارى المراكشي متحدثًا عن نسب طارق بن زياد في كتابه «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب»
ويتعجَّب د.محمد عبد الله عنان في موسوعته الشهيرة «دولة الإسلام في الأندلس» من الغموض الكبير الذي يحيط بالتاريخ المبكر لطارق بن زياد على أهمية شخصيته العظمى في التاريخ الإسلامي، فقد ظهر اسمه فجأة في الأحداث في ثمانينات القرن الأول الهجري، بوصفه مولى بربري الأصل للقائد موسى بن نصير، كان من ذرية سبي البربر الذي وقع في يد المسلمين أثناء فتوحاتهم في المغرب، ثم حصل على حريته، وأثبت كفاءة عسكرية فترقَّى في مراتب القيادة والإدارة تحت إمرة موسى بن نصير.
ثم نجح في قيادة العديد من سرايا الفتح في المغرب، حتى جعله ابن نصير واليًا على مدينة طنجة المغربية، أبعد نقطةً وصل إليها الفتح الإسلامي على الساحل المغاربي آنذاك. ثم كلَّفه موسى عام 92هـ (711م) بقيادة أخطر مهمة في حياته، وهي العبور بالجيش إلى الأندلس، وتدشين افتتاحها عسكريًا.
ولم يكن مستغرَبًا أن يضع موسى بن نصير ثقته في قائد غير عربي مثل طارق، فهو إلى جانب كفايته، قد ترعرع في بيتٍ مسلم، فقد أسلم أبوه وجده قبل عقود على يد القائد المسلم عقبة بن نافع فاتح إفريقيَّة. كما اشتهر طارق بإتقانه للغة العربية، وكان جيد الشعر، والنثر، والخطابة.
وقد أنكر بعض أحفاد طارق بن زياد كونَه مولىً لموسى بن نصير، ولعلَّ هذا كان من باب الأنفة أن يكون جدهم الأعلى مولىً لمولىً، فقد كان موسى بن نصير نفسه من موالي بني أمية (المولى هو العبد، أو ذريته بعد تحريره، وكان يُلحق نسبه بسيده وقبيلة هذا السيد).
طارق بن زياد وفتح الأندلس
يذكر محمد كرد علي في كتابه «غابر الأندلس وحاضرها» أن موسى بن نصير، مولى بني أمية، بحلول عام 78هـ، كان قد أعاد إخضاع كامل أجزاء المغرب (من تونس وما بعدها غربها) إلى سيطرة الدولة الأموية وصولًا في السنوات القليلة التالية إلى مدينة طنجة المغربية على ساحل المضيق، ولم يبقَ خارج نطاق السيطرة سوى مدينة سبتة، والتي تعذَر فتحها عسكريًا لمناعتها، ولدهاء حاكمها الذي كان يتبع إداريًا ملك القوط في الأندلس لذريق، واسمه الوالي يوليان، وكذلك لتوالي الإمدادات إليها عبر البحر من قبل ملك القوط وتيزا (تسميه المصادر العربية غيطشة)، والذي خلفه في المُلك لذريق أو ردريك الذي سينتزع منه المسلمون الأندلس كما سنذكر لاحقًا.
جديرٌ بالذكر أن تلك الأراضي قد تذبذبت السيطرة عليها بعد الفتح الأول في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، لاسيَّما إبان الفتنة الكبرى (36هـ – 40هـ) التي أشعلها تمرد والي الشام آنذاك معاوية بن أبي سفيان ضد الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب، ثم الاضطرابات التي شهدتها فترة الصراع المرير على الخلافة بين الأمويين والزبيريين (65هـ / 73هـ).
يُعد عام 92هـ الموافق 711م هو عام فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد وفق أشهر الروايات التاريخية، لكن في كتابه «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب» يذكر ابن عذارى المراكشي رواية تاريخية أخرى ينقلها عن تاريخ الطبري، تتحدث عن محاولة أولى لفتح الأندلس قبل عقودٍ من هذا التاريخ، في عام 27هـ في عهد الخليفة عثمان، وكان قائد المحاولة هو عبد الله بن نافع بن عبد القيس الفهري، لكن من الظاهر أن هذا لم يكن فتحًا مستدامًا؛ إذ لا يوجد أي دليل على وجود إسلامي مستقر بالأندلس في ذلك الوقت المبكر.
ويبدو أن فكرة عبور المضيق وفتح الأندلس كانت تراود أذهان القادة المسلمين قبل الفتح بعقود، فقد فكرَّ فيها عقبة بن نافع عام 63هـ، وأصبحت الفكرة أقرب ما تكون إلى التنفيذ بعد نجاح عبد الله بن موسى بن نصير في افتتاح جزر البليار في البحر المتوسط إلى الشرق من الأندلس عام 89هـ. في تلك الأثناء تكاثَفَت الاتصالات بين موسى بن نصير، ووالي سبتة يوليان، والذي كان وأنصاره من المعارضين لحكم ملك الأندلس ردريك وتسميه المصادر العربية أيضًا لذريق، والذي انقلب على الملك السابق وتيزا، وقد أضافت الروايات دوافع أخرى ليوليان ومن معه في الاتصال بالمسلمين، ومن أشهرها أن لذريق قد اعتدى على ابنة يوليان أثناء إقامتها في قصر الملك على عادة ذلك الزمان في إرسال أبناء وبنات الأمراء إلى البلاط الملكي.
تاريخ: أيهما استأثر بأخصب أراضي الأندلس: العرب أم البربر؟
يرجح د. محمد عبد الله عنان في «دولة الإسلام في الأندلس» أن يوليان ومؤيديه قد راهنوا رهانًا خاطئًا من وجهة نظر مصالحهم عندما تحالفوا مع المسلمين وحرَّضوهم على العبور إلى الأندلس، فقد ظنًّوا أنهم سيضربون خصمهم الملك بالمسلمين، ثم لا يلبث هؤلاء أن يعودوا إلى المغرب محمَّلين بالغنائم الوافرة، ويتركوا حكم الأندلس ليوليان ومن معه، وهذا ما خالفته الوقائع. ويذكر ابن عذارى المراكشي في «البيان المغرب» أن طارقًا كان الوسيط في الاتصالات بين يوليان وموسى بن نصير، وقد توطَّدت الصداقة الشخصية مع الوقت بين يوليان وطارق، وأعان يوليانُ طارقًا – بخبراته حاكم محلي لسنوات – في السيطرة على المناطق البربرية المحيطة بسبتة.
يشير ابن عذارى المراكشي كذلك إلى أن الجيش الذي قاده طارق بن زياد بنفسه إلى الأندلس، قد سبقه في العام السابق 91هـ جيشٌ آخر صغير بقيادة طريف بن مالك، يبلغ قوامه 500 مقاتل، أغار على جنوبيّ الأندلس، فيما يشبه غزوةً استطلاعية لاستكشاف العدو، وقد خلَّدت تلك الغارة اسم طريف، حيث تحمل اسمه إلى اليوم جزيرة طريف الواقعة في مياه المضيق، في أقصى جنوبي إسبانيا.
دعم يوليان حملة طارق بن زياد لافتتاح الأندلس بالسفن، وكان أغلبها من السفن التجارية من أجل التموية، وكانت القوة التي يقودُها طارق تبلغ 7 آلاف مقاتل، غالبيتهم العظمى من البربر، وجاءهم دعمٌ لاحق من موسى بن نصير بحوالي 5 آلاف، ليكون المجموع 12 ألفًا. أما قصة حرق طارق للسفن، ليجعل البحر من وراء جنوده، والعدو من أمامهم، فيستميتونَ في القتال، فلا يوجد عليها أدلة تاريخية قوية، رغم شهرتها الفائقة، وكانت المرة الأولى التي ذُكرت فيها في كتب التاريخ بعد الفتح بأكثر من ثلاثة قرون في كتاب (نزهة المشتاق) للإدريسي.
وصل طارق بن زياد إلى إقليم الجزيرة الخضراء جنوبيّ الأندلس، حيث ينتصب الجبل الذي حمل اسمه، في شهر رجب عام 92هـ / مايو (آيار) 711م، فبادر بشنّ الغارات، وأحكم سيطرته على كامل هذا الإقليم، ثم اتجه شمالَا وغربًأ إلى أعماق الأندلس، لتبلغ أخبار هذا الحادث الجلل ملك القوط لذريق بينما كان يقود عشرات الآلاف من جنوده لقمعٍ تمردٍ في إقليم الباسك الشمالي، فعاد أدراجه سريعا إلى الجنوب، لمواجهة جيش طارق قبل أن يتوغّل شمالًا ويستفحل أمره. وقد حظي جيش طارق بن زياد بدعمٍ خاص من يهود الأندلس الذين كانوا يعانون من اضطهاد القوط المسيحيين لهم، وقد أعان طارق على الجهة الأخرى من المضيق أنصار يوليان، وأنصار الملك المخلوع وتيزا.
ويذكر ابن بشكوال في تاريخه أن طارقًا أثناء ركوبه البحر، قد رأى في منامه النبي محمد، وحوله الصحابة يشجعونه على غزو الأندلس، فلما استيقظ، قصَّ تلك البشارة على جنوده فارتفعت روحهم المعنوية إلى عنان السماء، وتيقَّن طارق من تحقيقه للنصر. وينقل أيضًأ أن عرافةً في الجزيرة الخضراء جنوبي الأندلس لمَّا رأت طارقًا، أخبرته أنها تظنًّه القائد المقصود بنبوءةٍ قديمة عن أميرٍ ضخم الهامة يفتح تلك الأرض. وبالطبع لا سبيل للوصول إلى يقينٍ حتمي عن مدى مصداقية مثل تلك الروايات والنبوءات التي تتكرر أشباهها في المواقف الفاصلة في التاريخ.
كانت أبرز المعارك الفاصلة في حرب الأندلس هي معركة وادي نهر لكَّة، قرب بلدة شذونة، في أقصى جنوب الأندلس، والتي اندلعت في يوم 28 رمضان عام 92هـ / 22 يوليو (تموز) 711م. كان قوام جيش طارق هو 12 ألف مقاتل، بينما تفاوتت تقديرات جيش ردريك الذي استطاع حشد معظم أمراء القوط إلى جانبه ضد العدو المشترك، بين 40 ألفًا و100 ألف مقاتل.
وقد استمرَّت المعركة لثمانية أيام، اقتصرت الأيام الثلاثة الأولى على مناوشاتٍ بسيطة، بينما اشتدَّ القتال منذ اليوم الرابع، وبدأت الكفة تميل إلى صالح جيش المسلمين خلال اليوميْن الأخيرين، بعد أن بدأ بعض الأمراء ينهزمون من حول ردريك بتحريضٍ من أنصار يوليان والملك السابق وتيزا.
نال جيش القوط هزيمة ساحقة، أما الملك ردريك فقد اختفى أثره بعد المعركة، وتباينت الروايات في ترجيح مصيره، فذهب البعض إلى إنه قتل في المعركة وطُمست جثته، ورجَّح آخرون أنه فرَّ من الساحة، ثم قُتل أثناء فراره. لم يُضِع طارق الوقتَ الثمين بعد الانتصار في المعركة، واستغلَّ حالة الصدمة التي يعاني منها القوط، فاندفع شمالًا، وهزم تجمعًا جديدًا للقوط قرب استُجَّة.
ثم توجَّه إلى عاصمة الأندلس طليطلة في الوسط، فاستولى عليها بعد مقاومةٍ ضعيفة من المدافعين، بينما أرسل أحد مساعديه مغيث الرومي لافتتاح قرطبة، في جنوبي وسط الأندلس، ثم استولى المسلمين على معظم قواعد الجنوب والشرق الأندلسي مثل مالقة ومُرسية، ثم توغَّل طارق إلى أقصى الشمال مطاردًا لفلول القوط وصولًا إلى ساحل خليج بسكاي، كل هذا في أقل من عام، ثم جاءته الأوامر من موسى بن نصير بالرجوع إلى طليطلة، ووقف العمليات العسكرية الهجومية.
يرى محمد علي الكردي في «غابر الأندلس وحاضرها» أن موسى بن نصير قد تملَّكته الغيرة من الفتوحات الهائلة السريعة التي حقَّقها مولاه طارق بن زياد، ولذا عبر بنفسه في العام التالي 93هـ/712م على رأس جيشٍ أكبر، قوامه 18 ألف مقاتل، نصفهم تقريبًا من العرب، والنصف من البربر، ويضم الكثير من وجهاء الفريقيْن، حيث أراد أن يكون له نصيبه المباشر من مجد الفتح. يُدافع بعض المؤرخين عن دوافع موسى في نقمته من طارق، بأن أسبابها لم تكن شخصية، ولكن موسى رأى أن طارقًا قد اندفع بالجيش بتهور بعيدًا عن خطوط إمداده، وأنه خالف أوامره الأصلية بالتوقف بعد احتلال جنوبي الأندلس.
اتجه موسى بن نصير في غزوته إلى اتجاه الشمال الغربيّ، ليستكمل افتتاح المناطق التي لم يصلها طارق بن زياد، فاستولى على شذونة وقرمونة، ثم إشبيلية التي حاصرها لشهر، ثم ماردة التي طال حصارها لاستماتة حاميتها في الدفاع، حتى سقطت في رمضان عام 94هـ/713م بعد أكثر من عام من وصول موسى إلى الأندلس. وقد أظهر المسلمون مع سكان الأندلس قدرًا كبيرًا من التسامح، وكذلك الاعتدال في الضرائب، بالمقارنة بحكومة ردريك التي فرضت الضرائب الباهظة على الشعب لتمويل حروبه الداخلية وتبعات انقلابه على السابق.
ثم انطلق موسى إلى طليلطة حيث طارق بن زياد، فوبَّخه موسى بشدة، وأهانه، وعزله عن منصبه، وزجَّ به في السجن لمدةٍ قصيرة بتهمة العصيان، ثم ما لبث أن عفا عنه، وأعاده إلى منصبه، ثم قادا الجيش معا لاستكمال افتتاح الجزء الشمالي من الأندلس لاسيَّما سرقسطة وبرشلونة، ثم توجَّه طارق إلى إقليم جلَّيقية الجبلي في أقصى الشمال الغربي، فافتتح معظم أجزائه، بينما عبر موسى بشطر الجيش الآخر جبال البرانس، واندفع إلى جنوبي فرنسا، حيث استولى على بعض المناطق هناك ومن أبرزها أربونة.
في عام 95هـ/714م جاءت الأوامر من بلاط دمشق إلى موسى وطارق بالقدوم إلى الشام لمقابلة الخليفة، ومعهما نصيب خزانة الخلافة من غنائم الفتح الوافرة، ويرجّح د. محمد عبد الله عنان في كتابه «دولة الإسلام في الأندلس» أن السبب الرئيس لهذا الاستدعاء هو خوف الخليفة الأموي من استغلال موسى لبُعد الأندلس، وثرواتها الوافرة، والاستقلال بها عن حكم الخلافة.
ترك موسى بن نصير ولاية الأندلس لابنه عبد العزيز، ثم عاد ومعه طارق إلى الشام في قافلة عظيمة مكتظة بالغنائم والسبايا، وأقيمت الاحتفالات في طريقه بتونس ومصر، لكن في الشام حدث ما لم يكن في الحسبان.
نهاية الفاتح الغريبة!
«فتح جزيرة الأندلس ودوّخها، وإليه نُسب جبل طارق الذي يعرفه العامة بجبل الفتح، في الجزيرة الخضراء، ورحل مع سيّده بعد فتح الأندلس إلى الشام وانقطع خبره!» *ابن بشكوال القرطبي متحدثًا عن طارق بن زياد، مشيرًا إلى مصيره الصادم بعد سنواتٍ من الفتح
كان المنطقي أن يُقابَل فاتحا الأندلس طارق وموسى بما يليق بهذا الفتح العظيم من حفاوةٍ وتكريم، لاسيَّما وقد عادا إلى الشام عام 96هـ في قافلة هائلة تضم من غنائم الفتح وكنوز الأندلس ما لا يُعد ولا يُحصى. لكن نقل لنا التاريخ نقيض هذا؛ فقد نكب الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك موسى بن نصير، واتهمه بالاختلاس من الغنائم، وألقى به في سجن دمشق، وفرض عليه غرامة مالية هائلة، ثم ما لبث أن أخرجه من السجن بعد وساطاتٍ عديدة، وبعد أن جمع موسى جانبًا كبيرًا من الغرامة، ثم استرضاه سليمان بتثبيت ابنه عبد العزيز في ولاية الأندلس، وابنه عبد الله في ولاية إفريقية، أما موسى فما لبث أن مات في طريق الحج عام 97هـ/ 716م.
وكان الرأي الأرجح في تفسير تلك العقوبة غير المتوقعة هو نقمة سليمان على موسى لأنه خالف أمره عندما كان في مصر قافلًا بالغنائم، حيث كان الخليفة السابق الوليد بن عبد الملك في فراش مرضه الشديد، فأرسل سليمان لموسى أن يتباطأ بالقافلة، ريثما تأخذ الأقدار مجراها، ويمضي الوليد إلى ربه، ويخلفه سليمان، فيكون مُفتَتَح عهده تلك الغنائم الهائلة، لكن لم يلتفتْ موسى لرسالة سليمان، ووصل دمشق بينما كان الوليد لم يزل على قيد الحياة، وأعطاه أخماس الغنائم، فاستشاط سليمان غضبًا.
«فإن فاتح الأندلس لم يلق الجزاء الحق، بل غُمِط حقه وفضله أشنع غمط، وأبدت الخلافة بهذا الجحود والنكران أنها لم تقدر البطولة في هذا الموطن قدرها، ولم تقدر عظمة الفتح الباهر الذي غنمته على يد رجلها وقائدها» *د.محمد عبد الله عنان، في كتابه «دولة الإسلام في الأندلس»
وقد بالغت بعض الروايات في تفاصيل نقمة سليمان على موسى بن نصير، فذكرت أنه أمر بتركه في الشمس أيامًا حتى كان يُغشى عليه وهو في السبعين من عمره، وأنه اشتدَّ عليه في دفع الغرامة حتى كان يستجدي من الناس بضعة دراهم، ولكن يعارض مثل تلك الروايات تثبيت سليمان لابنيْ موسى على ولايتيْ الأندلس وإفريقيَّة، فلا يمكن أن يترك تلك المناطق الكبيرة تحت حكمهما بينما يواصل التنكيل بوالدهما.
أما طارق بن زياد، فقد كان مصيره أعجب، فقد اختفى ذكره فجأة من كتب التاريخ بعد وصوله إلى دمشق، فلم يذكر بكبير خيرٍ أو شر، وكأن صفحته قد انتُزِعت من كتاب التاريخ، فلم يُسجل التاريخ تكريمًا لافتًا له، وكذلك لم ينقلْ لنا أن سليمان قد ضمَّه إلى تهمة الاختلاس التي ألقاها على قائده موسى بن نصير.
يذكر د. محمد عبد الله عنان في «دولة الإسلام في الأندلس» أن الخليفة الأموي سليمان لم يكن ناقمًا بشدة على طارق نقمته على ابن نصير، وأنه كاد يتخذ قرارًا بجعله واليًا على الأندلس، لولا أن خوَّفه مغيث الرومي – الذي شارك الرجليْن في الفتح، وكان من موالي بني أمية – من قوة شخصية طارق، وهيبته الكبيرة بين قبائل البربر، وفي الأندلس، فخشيَ سليمان أن يطمع طارق بن زياد في الاستقلال بالأندلس.
تاريخ «معركة الأرك».. آخر انتصارات المسلمين الكبرى في الأندلس
وتأكيدًا على المعنى السابق يذكر المؤرخ العراقي محمود خطاب في كتاب «قادة فتح الأندلس» في معرض تفسيره لوضع الخلافة الأموية لطارق في الظل، بعيدًا عن الأضواء، وساحات الحرب والسياسة، رغم إنجازاته العظيمة في فتوحات الأندلس، والمغرب من قبلها:
أصبحت لطارق شعبية طاغية في الأندلس وبين البربر بخاصة، وفي إفريقية وسائر بلاد المسلمين بعامة؛ لفتوحاته العظيمة، وانتصاراته الباهرة، ولشجاعته الفذّة، وإقدامه النادر. والشعبية الطاغية، إذا تحلّى بها قائد من القادة، فإن ذلك لا يُريح المسئول الأعلى، ويجعله يخشى ذلك القائد، ويظن به الظنون.
ويرى خطاب أن سوء ظن الخلافة هذا بفاتحيْ الأندلس قد دقَّ أول مسمار في نعش الفتح الإسلامي لها، فقد ترك الرجلان خلفهما عند عودتهما المفاجئة إلى الشام جيوبًا من المقاومة في الأندلس تابعة للقوط الحانقين على ذهاب ملكهم؛ ما لبثت تلك الجيوب أن توسَّعت تدريجيًا خلال عقودٍ طويلة، وتحوَّلت إلى الممالك الشمالية المسيحية التي بدأت حرب الاسترداد ضد الفتح الإسلامي، والتي استمرَّت زهاء سبعة قرون.
وهكذا ابتلعت طارق بن زياد في سنوات حياته الأخيرة دوامة النسيان بعد أن كان قبلَ سنواتٍ قليلة ملء السمع والبصر في ساحات الجهاد بالمغرب والأندلس، فلا يُعرف اين قضى تلك السنوات، وهل عاد خلسةً إلى الأندلس أم لا، ولا يُعرف حتى موضع قبره، لكن ما نعرفه جيدًا هو مكانه الراسخ في كتاب التاريخ، وفي وجدان الأمة الإسلامية.
إسبانيا بالعربي.