متفرقات

كيف تنجح في وظيفة لا تتفق مع طموحاتك؟

تفشي وباء كورونا أدى إلى فقد الكثيرين لعملهم، كما شغل آخرون وظائف مؤقتة أو عملوا لساعات أقل بأجر يقل عن أجرهم الأصلي، فكيف يمكن للمرء في هذه الحالة تحقيق النجاح في وظيفة لم يكن يرغب في شغلها من الأصل؟.

كان من المفترض أن يكون 2020 هو عام النجاح والتألق على الصعيد المهني بالنسبة لإسحاق فريمان، هذا الشاب المقيم في مدينة أديلايد الأسترالية، الذي لا يتجاوز عمره 22 عاما. فبعدما حصل فريمان على درجته الجامعية، قضى 2019 في الأسفار والترحال، وكذلك في العمل بدوام جزئي، وذلك قبل أن يبدأ البحث عن وظيفة مستقرة، كان يرغب في أن تكون ذات طبيعة إبداعية، كي يتسنى له الاستفادة من مهاراته في الكتابة والتصوير الفوتوغرافي.

لكن عندما اجتاح فيروس كورونا العالم، وجد الشاب نفسه وقد عاد للسوبر ماركت المحلي، الذي عَمِلَ فيه من قبل كطالب، وكان يحسب أنه لن يعود للعمل فيه أبدا. ويصف فريمان شعوره لدى اتخاذه هذه الخطوة بالقول: “لقد كان ذلك – آنذاك – قرارا صعبا بعض الشيء. لكنني أدركت أنه ربما سيكون القرار الوحيد الذي سيمنحني القدرة النسبية على تنظيم وقتي، إذا ما دخلنا في نظام إغلاق عام بشكل ما، وهو ما فعلناه في نهاية المطاف”.

لم يكن فريمان، هو الوحيد الذي مر بتجربة من هذا القبيل، فجون غافين برانستيتر، المحاضر في مجال العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا بلوس أنغليس، كان يخطط لإنجاز الكثير في 2020 بدوره. لكن مقابلات التوظيف الواعدة على المستوى المهني، والتي كانت مجدولة لبرانستيتر خلال العام الجاري، تلاشت جراء تأثر قطاع التعليم العالي بتبعات كوفيد – 19.

كما أن وظيفة هذا الرجل البالغ من العمر 39 عاما، تأثرت بدورها، ما يجعله الآن يكافح للإبقاء على العقد المؤقت، الذي يعمل بموجبه في الوقت الحاضر

ويصف برانستيتر وضعه حاليا بالقول: “أنا في هذه المرحلة أعمل بعقد مؤقت. وفي كل عام، يتعين عليّ إعادة التقدم لشغل وظيفتي، حتى وإن كنت أحمل المؤهل الدراسي نفسه، الذي يحمله زملائي ممن يعملون بعقود دائمة”.

وهكذا ففي الوقت الذي تكافح فيه اقتصاديات مختلف دول العالم، لمواجهة تبعات الوباء؛ ويُتحمل سوق العمل نصيبه من هذه الانعكاسات السلبية كذلك، ينصب جانب كبير من الاهتمام، على التزايد الحالي في عدد العاطلين عن العمل، دون التركيز بقدر كاف، على ما يُعرف بـ”البطالة الجزئية”، التي تعني أن يعمل الناس في وظائف لا تلبي احتياجاتهم ولا تُشبع متطلباتهم، لأسباب مختلفة.

لماذا نحب أن نمر بتحديات

يتمثل أول تحد يمكن أن يواجهنا في هذا الشأن، في الاتفاق على تعريف لمفهوم “البطالة الجزئية”. فبالنسبة للبعض ربما يعني هذا المصطلح، كما يقول البروفيسور ليام ديلاني، رئيس قسم علم النفس والعلوم السلوكية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، أن يعمل المرء لساعات أقل مما يرغب، بينما يمكن أن يعني لآخرين شغل وظيفة لا تتلاءم مع مؤهلاتهم. بجانب ذلك، ثمة فريق ثالث، يرى أن معنى هذا المفهوم يتمثل في أن يعمل المرء أكثر مما يريد دون أن يتقاضى أجرا يكفيه للوفاء بالتزاماته المالية.

وقد شارك ديلاني مؤخرا في إعداد ورقة بحثية تتناول “البطالة الجزئية” والشعور بالكرب والحزن. واستندت الورقة البحثية إلى دراسة أوضاع عينة من العمال الذين يعانون من هذه المشكلة في المملكة المتحدة. واعتمد القائمون بها التعريف الذي تتبناه منظمة العمل الدولية لـ “البطالة الجزئية” والذي يفيد بأنها تشمل “من يعملون ساعات أقل من المعدل المتفق عليه على المستوى الوطني، في وقت يكونون فيه راغبين في العمل لساعات أطول، ومتاحين لذلك أيضا”.

وأظهرت الدراسة، التي أُجريت قبل أن يجتاح العالم وباء كورونا، أن المعاناة من “بطالة جزئية” قد تُخلّف “تبعات نفسية سلبية” لأسباب متعددة.

أول هذه الأسباب، أن هذا النوع من البطالة غالبا ما يترافق مع انخفاض في الدخل. ويشير ديلاني في هذا الصدد إلى وجود ما يسميه “مستوى ما من الشعور بالهم والحزن” تسببه الضغوط المالية. ويضيف الرجل والباحثون الآخرون الذين شاركوا في إعداد الدراسة، أن اضطرار البعض للعمل لساعات أقل مما يريدون، يقلل من تواصلهم مع أماكن عملهم، وهو ما قد يقلص بالتبعية الفوائد النفسية والاجتماعية

التي تعود عليهم من وراء ذلك. ومن أمثلة هذه الفوائد؛ كما يقول الباحثون، تواصل المرء اجتماعيا مع الآخرين، ونيله الدعم الاجتماعي منهم، فضلا عن إحساسه بأنه مفيد لمن حوله وأنهم يحتاجون إليه أيضا، وذلك بجانب اتصافه بالنشاط، وقدرته على الشعور بالوقت والزمن على نحو منظم.

وتتطرق الدراسة كذلك إلى شعور بعض الأشخاص بالدونية، عند احتكاكهم بمن يعتقدون أنهم ينعمون بظروف عمل أفضل، سواء لأنهم يعملون لساعات أطول، أو لكونهم يشغلون وظائف تلائم مهاراتهم وتطلعاتهم بشكل أكبر.

ويعود ذلك، حسبما تقول غلاديس أتو، أخصائية علم النفس السريري في ولاية كاليفورنيا ويجعلها عملها تلتقي مع بعض المديرين التنفيذيين، إلى أن “البطالة الجزئية” تؤثر غالبا على إحساس المرء بهويته، سواء اعتمدنا في ذلك تعريف منظمة العمل الدولية لها، أو لجأنا إلى تعريفات أخرى أوسع نطاقا.

وفي إطار الدراسات التي أجرتها أتو مؤخرا، التقت عددا من أصحاب الشركات الذين تقدموا بطلبات لشغل وظائف أخرى، بهدف سداد الفواتير المستحقة عليهم. كما قابلت أيضا أشخاصا يعملون في مهن مختلفة، بات عليهم الآن مواجهة واقع صعب مفروض عليهم، يتمثل في اضطرارهم للعمل ساعات أقل بأجور أدنى من تلك التي كانوا يتقاضونها في المعتاد. ويمكن القول هنا، إن هوية المرء ترتبط في أغلب الأوقات بمهنته، وهو ما يعني أن إحساسه بقيمته الذاتية، سيهتز حال كان هناك تهديد له بفقدان وظيفته، أو إذا طرأ تغيير على طبيعتها.

وتقول أتو في هذا الشأن: “قد يشرع الناس في هذه الحالة، في ملاحظة تزايد شعورهم بالقلق، فضلا عن وجود إحساس مستمر لديهم بالجزع والخوف، الذي يمكن أن يتحول تالياً إلى اكتئاب”.

وتقول دون نوريس، الأستاذ المشارك لعلم الاجتماع في جامعة لاكروس بولاية ويسكَنسِن الأمريكية، إن وجود تهديدات للهوية، أمر يُوُرِثُ الإحساس بالكآبة، بما يتجاوز في تأثيره مجرد ارتباطه بالمعاناة من ضائقة اقتصادية. وتشير إلى أن المقابلات التي أجرتها مع أشخاص عاطلين عن العمل أو يعانون من “بطالة جزئية”، في سياق إعدادها لكتابها “فقدان الوظائف، الهوية، والصحة النفسية”، كشفت عن أن المشكلات النفسية واجهت حتى الأشخاص الأثرياء من الأصل، أو من يتمتعون بمصادر دخل أخرى بخلاف أجورهم من وظائفهم الأصلية، أو لديهم استثمارات تدر عليهم أموالا.

وتقول أنجيلا هوارد، الأخصائية في علم النفس التنظيمي بمدينة شيكاغو الأمريكية: “من الناحية النفسية؛ يروق لنا – كبشر – الارتباط بغاية أعلى وأسمى. وتشكل المسيرة المهنية جانبا كبيرا من هذا الأمر، وعندما يعرقلها شيء ما، يشعر المرء بأنه لم يعد له أي إسهام في المجتمع”. وتضيف بالقول إن الناس يتصورون غالبا أن الشعور بالإرهاق، يرتبط بالانهماك في العمل بشكل كبير، ولكن “إذا لم تواجه أي تحدٍ في مجال العمل، وإن لم تتفاعل (مع عملك)، سيقود ذلك إلى استنزاف الطاقة منك”.

“للوظيفة قيمة في حد ذاتها”

من بين التحديات الأخرى، تحديد عدد العمال، الذين أدى تفشي وباء كورونا إلى معاناتهم من “البطالة الجزئية” بأشكالها المختلفة. لكن لدينا هنا بيانات تتناول هذه الحالة، بحسب التعريف الذي وضعته لها منظمة العمل الدولية. وتشير هذه البيانات إلى أن عدد من يعملون حاليا بدوام جزئي بشكل إجباري لا اختياري، سواء ممن قُلِصَت ساعات عملهم أو عجزوا عن العثور على عمل بدوام كامل، زاد في الولايات المتحدة، بواقع 4.1 ملايين شخص في يوليو/تموز عما كان عليه في فبراير/شباط.

أما في المملكة المتحدة، فقد بلغ عدد من عانوا من “البطالة الجزئية”، في الفترة ما بين إبريل/نيسان ويونيو/حزيران، نحو 2.84 مليونا بزيادة تُقدر بـ 217 ألف عامل، مقارنة بمستواه بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار.

ويتوقع الخبراء أن تؤدي الطبيعة غير المسبوقة للوباء الحالي، إلى أن تزيد مدة المعاناة من “البطالة الجزئية”، عما حدث خلال أي فترات كساد سابقة. ويرجح ديلاني أن يتأثر العاملون في قطاعات مثل السياحة والضيافة بشكل كبير خلال السنوات القليلة المقبلة، في ضوء أن تراجع حجم الطلب على الخدمات التي يقدمونها، سيؤدي إلى أن يعملوا لعدد ساعات أقل إجباريا، ولأن يقل أيضا عدد فرص العمل المتاحة في هذين القطاعين.

وتقول دون نوريس إن عدم اتخاذ سياسات من شأنها، محاولة تعديل هذه الأوضاع “سيفضي إلى إمكانية استمرار حالة `البطالة الجزئية` السائدة الآن، عند مستويات مرتفعة للغاية”.

أما تريسي براور، خبيرة علم اجتماع بيئة العمل في ولاية ميشيغان الأمريكية، فتقول إن الكثير من الشركات تنخرط حاليا في “إعادة ضبط أنشطتها، والبدء من جديد”. ويعني ذلك أن المهارات التي ربما تكون قد ساعدتك بشدة في الوظائف السابقة التي عملت بها، قد لا تكون هي ذاتها التي ستحتاجها الآن، لكي تحصل على فرصة عمل، تنقذك من حالة “البطالة الجزئية” التي تعاني منها.

وإذا عدنا إلى برانستيتر وفريمان، سنجد أنهما يحاولان في الوقت الحاضر، تطوير مهاراتهما المهنية، خلال فترة “البطالة الجزئية” هذه. فبرانستيتر مثلا ملتزم بإجراء مشروعات بحثية، بشأن “السياسة المقارنة”، والانخراط في عملية توجيه الطلاب، رغم أن هذه الأنشطة ليست من ضمن مهامه كمحاضر يعمل بعقد مؤقت.

أما فريمان، فيُعنى باكتساب أي مهارات يشعر بأنها تنقصه. ولذا ينهمك في تعلم كيفية العمل على برامج تحرير جديدة للصور. كما أنه يلزم نفسه، بأن يقوم بشيء ما مبتكر يوميا “فقط لكي تبقى عضلة الذاكرة هذه نشطة”، فضلا عن مواصلته الكتابة بالقطعة.

ويؤكد الرجلان أنهما تجاوزا مسألة الشعور بالاستياء، من كونهما الآن في عداد من يعانون من “البطالة الجزئية”، وذلك عبر إقرارهما بأنهما محظوظان رغم كل شيء، بأن يجدا عملا من الأساس، في مثل هذه الظروف.

ويقول برانستيتر في هذا الصدد: “رغم أن وظيفتي غير مستقرة، فإن وضعي جيد جدا، مقارنة بالكثير من الناس الآن”. ويشير الرجل هنا إلى أقرانه الذين اضطروا إلى قبول تدريس صف دراسي واحد في هذه الجامعة أو تلك، بالمشاركة مع أساتذة آخرين، وذلك للإبقاء على حلمهم في مواصلة مشوارهم الأكاديمي.

ويرى فريمان أن عودته إلى عمله الأول في السوبر ماركت، جعلته يدرك أن “الوظيفة مهمة بغض النظر عن طبيعتها، وأن المرء سيكون محظوظا، إذا تسنى له أن يعمل في الوظيفة التي يريد، من أجل كسب العيش”. وقد أدى وصول فريمان إلى هذه القناعة، إلى تحفيزه للبحث عن طرق من شأنها تعزيز وضعه الوظيفي، كما أدى إلى تحسين أخلاقيات العمل التي يلتزم بها، كما يقول هو نفسه.

“علامات امتياز للجميع”

على أي حال، إذا كان هناك من جانب إيجابي للوباء، فهو حقيقة أن الكثيرين باتوا في مركب واحد حاليا، ما يجعل من الأيسر على من يعاني من “البطالة الجزئية”، أن يشرح وضعه للقائمين على أي عملية توظيف محتملة قد يتقدم لها. وتعلق نوريس على هذا الأمر قائلة: “سيميل الناس في هذه الحالة، إلى أن يتفهموا الوضع بشكل أفضل قليلا”.

لكنها تؤكد في الوقت نفسه، أن المرء بحاجة لإظهار مواكبته لكل ما هو جديد في مجاله المهني، لكي يحتفظ بفرص كبيرة في سوق العمل. وقد يعني ذلك أن يبقى على إطلاع على أخر الأنباء في هذا المجال، وأن يتلقى تدريبا إضافيا على مهارات مهنته، أو أن يمارس دورا ذا سمات مشابهة للوظيفة التي يرغب في الاشتغال بها. فعلى سبيل المثال، قال واحد ممن التقتهم نوريس خلال جهودها لتأليف كتابها، إنه قرر إعداد الحسابات متطوعا للكنيسة التي ينتمي إليها، وذلك بعدما فقد وظيفته كنائب لرئيس أحد المصارف.

كما تؤكد هذه الباحثة أهمية أن نُبقي في هذه الحالة على التواصل مع شبكة معارفنا المهنية وأقراننا كذلك. وتشير إلى أنه بالرغم من أن الركون للعزلة العاطفية، يكون أيسر علينا، خاصة في وقت أصبح فيه التباعد الاجتماعي هو القاعدة، فإن علينا في حالتنا هذه، التصرف على نحو مغاير تماما. وتوضح بالقول إن إخفاء المرء لحقيقة كونه يعاني من “البطالة الجزئية”، يؤدي إلى أن “يفقد فرصة الحصول على الدعم المعنوي. فتلك الصلات الضعيفة (التي تربطه بمن حوله) هي ما يساعده على إيجاد فرص العمل”.

وتتفق أتو وبراور على أن أفضل ما يمكن أن يقوم به من يعانون من “البطالة الجزئية” للبقاء متفائلين، هو أن يدركوا أن هذه الحالة ليست إلا تجربة مؤقتة بوجه عام.

وتشير أتو إلى أن ذلك يجعل من الأسهل عليهم، رؤية النصف المملوء من الكوب في وضعهم الراهن. وتنصحهم أتو بأن يطرحوا على أنفسهم الأسئلة التالية: “ما الذي يمكن أن نتعلمه من هذا الموقف؟ ما الذي يمكنني أن أقوم به، مع العلم أن هذا الوضع مؤقت؟”. وتوضح بالقول: “إذا سلمنا بأن هذا الوضع سيستمر إلى الأبد؛ فإن ذلك لن يؤدي سوى إلى أن تتدهور حالتنا”.

في النهاية، تقول براور إن على كل من يعانون من موقف مثل هذا، تذكر أنهم ليسوا وحدهم. وتشير إلى أن تقييم ما قام به الناس خلال العام الحالي على الصعيد المهني، سيجعلنا نمنحهم جميعا “علامة التميز” بسبب أزمة الوباء التي عمت العالم في 2020. وتخلص للقول إن ما حدث في هذا العام هو شيء “سنذّكر به أنفسنا، لأننا نعلم أنه مجرد جملة اعتراضية استثنائية، في مسيرتنا المهنية”.

المصدر: بي بي سي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *