مختصر تاريخ الدولة الصفوية.. أسسها صبي في الخامسة عشرة وحكمت إيران قرنين
خلال القرن الثالث عشر، اجتاحت قبائل المغول معظم المدن والدول الإسلامية، وصولًا إلى الشام، ولم تستطع الدول الإسلامية بما فيها الخلافة العباسية في بغداد أن تقف أمام هذا المد الهادر من الجيوش الجرارة. في تلك الأثناء، لم يكن لدى الشعوب الإسلامية ومن بينها الشعوب الفارسية سوى الالتجاء إلى عالم الزهد والمعنى تتصبر به على ما حولها من القتل والدمار.
في تلك الأثناء بدأت التكايا والزوايا الصوفية بالانتشار في كافة أرجاء بلاد فارس، وامتلأت حلقاتها بالأتباع والمريدين، وصار لشيوخ الصوفية الكثير من النفوذ والحضور في المجتمع الفارسي، وسط هذا كله، وفي مدينة أردبيل (التي تقع شمال غرب إيران الحالية على الحدود مع أذربيجان) سيظهر شيخ صوفي يُدعى صفي الدين الأردبيلي، سيساهم مع أحفاده في تغيير وجه العالم الإسلامي بأكمله لعدة قرون قادمة عبر تأسيس الدولة الصفوية بعد ذلك.
إسماعيل الصفوي.. الصبي الذي أسس إمبراطورية
تمتعت خانقاه (تكية صوفية) الشيخ صفي الدين الأردبيلي بشهرة واسعة، حيث كان يقصده الآلاف من المريدين للإصغاء إلى تعاليم الشيخ وتلقى العلم منه، وصار لطريقته الصوفية الكثير من الأتباع والمؤيدين في عموم البلاد، وبعد وفاة الشيخ صفي الدين تولى ابنه صدر الدين، حتى انتقل منصب الإرشاد إلى الشيخ جنيد الذي ترك أردبيل، وتوجه جنوبًا حيث استطاع أن يجمع حوله المزيد والمزيد من الأتباع والمريدين.
عندئذ خلع الشيخ جنيد العمامة الصوفية، ولبس تيجان الملوك، حيث أخذ يغزو البلاد ويحتل الأراضي، حتى قُتل في إحدى معاركه، فتولى بعده ابنه حيدر الذي حاول الأخذ بثأر أبيه ولكنه قُتل أيضًا، ليأخذ مريدو الطريقة ولديه الذين بقيا على قيد الحياة: إسماعيل وإبراهيم إلى منطقة لاهيجان بعيدًا عن بطش الأعداء، قُتل إبراهيم بعد ذلك، فيما بقى إسماعيل في لاهيجان حتى بلغ الخامسة عشر، وعندها قرر العودة إلى أردبيل، حيث زار قبور أجداده، وحصل على مساعدة القبائل للثأر لدم أبيه، وهو بعد في هذه السن الصغيرة.
بدأ إسماعيل شاه سلسلة معاركه بسبعة آلاف مقاتل، يعلو رأس كل فارس منهم غطاء له 12 ذؤابة ترمز إلى الأئمة الاثني عشر في المذهب الشيعي، وقد فتح بهم شيروان (في محافظة خراسان الإيرانية حاليًا)، آخذًا بثأر أبيه وجده، تتابعت انتصارات جنود إسماعيل على قبيلة آق قوينلو التركمانية حتى سيطر على أذربيجان وقرة باغ، ثم تمكن في عام 1501 ميلاديًّا، من دخول مدينة تبريز عاصمة إيران في ذلك الوقت، وتلقب بـ”أبي المظفر شاه إسماعيل الهادي الولي”، وضُربت النقود باسمه.
كان من أول ما قام به إسماعيل بعدما تبوأ السلطنة أن أصدر أمرًا بإقرار المذهب الشيعي الاثني عشري مذهبًا رسميًّا ووحيدًا لدولته؛ إذ نودي في الأذان عبارة “أشهد أن عليًّا ولي الله”، و”حي على خير العمل”، كما أمر الناس بسب الخلفاء في المجالس والطرقات.
• «أستاذ سيس».. جد الخليفة المأمون الذي ادَّعى النبوة!
ونشير هنا إلى أن التشيع كان قبل ذلك ضاربًا بجذوره في بلاد فارس، حيث لجأ إليها الكثير من العلويين الذين هربوا من الحكم الأموي، كما أوجد الغضب الذي كان يكنه الفارسيون على الأمويين بسبب التهميش وسوء المعاملة أرضًا خصبة لانتشار التشيع في تلك البلاد، سيما أن الروح الباطنية في المذهب الشيعي تتقارب مع المذهب الزرادشتي والأديان الشرقية عمومًا.
ولذلك فإن إسماعيل ربما لم ينشر المذهب الشيعي في البلاد من فراغ، ولكن ما فعله أنه أسبغ عليه طابعًا رسميًّا، وجعل له قوة السلطان وحد السيف، وفرضه بالقوة على عموم البلاد، وقد استطاع الصفويون بادعائهم الانتساب الأسري إلى الرسول من جهة حفيده الإمام موسى الكاظم، أن يوحدوا الجبهة الداخلية في صفهم، لكنهم على الجانب الآخر استثاروا الممالك والدول السنية المجاورة، وفي مقدمتهم الأوزبك والعثمانيين.
صراع الدولة الصفوية مع جيرانها
بالتزامن مع صعود الدولة الصفوية، كان ثمة دولة فتية أخرى تنهض على أنقاض الدول التيمورية المتهالكة في إيران، هي دولة الأوزبك بزعامة شيبك خان الأوزبكي، الذي تمتع بعلاقات صداقة وثيقة مع الدولة العثمانية، وقاد مجموعة من القبائل التركمانية السنية المتبعة للمذهب الحنفي، فسيطر على تركستان ومناطق واسعة من بلاد ما وراء النهر، ثم اندفع إلى خراسان التي كانت تحت سلطة إسماعيل الصفوي، فكان الصدام بين الطرفين حتميًّا.
زحف إسماعيل بجيشه إلى خراسان، وتوجه إلى مدينة مرو عاصمة الدولة الأوزبكية، حيث دارت معارك لأيام طويلة بين الجيشين، قبل أن يتمكن إسماعيل من استدراج القوات الأوزبكية المتحصنة إلى خارج المدينة، ونشبت ملحمة كان النصر فيها للصفويين في النهاية، وقُتل شيبك خان فيها، وقام إسماعيل شاه بإرسال رأسه إلى السلطان العثماني، في رسالة تحدٍّ واضحة.
كان الصراع بين الدولة الصفوية والعثمانيين حتميًّا، فبعد فترة من الهدوء النسبي شهدتها العلاقة بين إسماعيل شاه والسلطان العثماني بايزيد الثاني، صعد سليم الأول إلى سدة الحكم في السلطنة بانقلاب أبيض على أبيه بدعم من الجند الإنكشارية. في تلك الأثناء كان إسماعيل يؤلب القبائل الشيعية والعلوية في شرق الأناضول لكي تثير القلاقل لدى العثمانيين، ومن ثم فقد قرر سليم الأول أن يهادن أعداءه على بقية الجبهات، ليتفرغ لخطر الصفويين.
حشد سليم الأول نحو 70 ألف جندي، والتقى بجيوش إسماعيل في معركة جالديران عام 1514. كان العثمانيون يتفوقون من حيث العدد والعدة، بالإضافة إلى التطور النوعي في التسليح؛ إذ كان لديهم قوة نيرانية ضاربة من ألف مدفع، في الوقت الذي اعتمد فيه الصفويون على سلاح الفرسان، ومن ثم فقد هُزمت جيوش إسماعيل هزيمة ساحقة، للمرة الأولى في حياته.
انسحب إسماعيل بجنوده إلى عمق أراضي فارس، فيما نهب سليم الأول خزائن تبريز ونقلها كلها إلى إسطنبول، ورغم أن إسماعيل حاول لململة أشلاء دولته، والتغلب على تلك الهزيمة المريرة، فإنه لم يشكل بعد ذلك خطرًا يذكر على العثمانيين حتى وفاته بعد عشر سنوات من جالديران، ونقلت عاصمة الصفويين إلى قزوين ثم إلى أصفهان بعيدًا عن خطر العثمانيين.
خلف إسماعيل في الحكم ابنه طهماسب الأول، الذي عمَّر في الحكم أكثر من نصف قرن، خاض فيها ثلاث جولات من الحروب الطاحنة مع السلطان سليمان القانوني بن سليم الأول. كان الصفويون فيها يتبعون سياسة “الانسحاب التكتيكي” واثقين من أن القوات العثمانية لن تغامر بالدخول إلى عمق الأراضي الفارسية، حتى تكثفت الاتصالات الدبلوماسية بين الجانبين، لتتمخض في النهاية عن معاهدة أماسيا عام 1555.
• بربروسا.. القائد العثماني الذي أنقذ مسلمي الأندلس وفرنسا
نصت المعاهدة على تقاسم الطرفين أراضي القوقاز الجنوبية، واعترفت للعثمانيين بالسيادة على العراق وما يليه من ساحل الخليج العربي، وللصفويين بالسيادة على أذربيجان وداغستان، وشمالي غربي إيران، شاملًا العاصمة القديمة تبريز. كما تعهَّد سليمان القانوني بحماية الحجاج الشيعة فيما تعهَّد طهماسب برفع الاضطهاد عن الجماهير السنية في إيران.
انهيار الدولة الصفوية بعد “عباس الكبير”
بعد وفاة طهماسب الأول، اقتتل ولداه حيدر وإسماعيل الثاني على الحكم. كان إسماعيل الثاني قد قضى نصف عمره في السجن بسبب مخالفات أخلاقية، وحين تغلب على أخيه، دبر قتل ستة من إخوته، وحاول إعادة البلاد إلى المذهب السني لكنه تراجع تحت ضغوط العسكر، ولم ينج من القتل في عهده من الأسرة الصفوية سوى الأمير محمد، الذي تولى الحكم بعده، إذ لم تدم فترة حكم إسماعيل الثاني سوى عام واحد فقط.
تلقب السلطان الجديد بـ”محمد خدابنده” أي “عبد الله”، كان خدابنده رجلاً ضعيفًا، عاد العثمانيون في عهده إلى الإغارة على أراضي الدولة الصفوية، وكانت إدارة المملكة في عهده غارقة في الفوضى، وبدا أنها تتجه إلى مصير مضطرب، فقام ابنه عباس الأول وكان لا يزال في الثامنة عشرة من عمره، بتنصيب نفسه ملكًا على البلاد في حياته، فلم يقاوم الأب القرار، وتنحى عن السلطان معترفًا بالحكم لولده.
كانت فترة حكم عباس الأول، الذي لُقب بـ”عباس الكبير”، فترة ذهبية بالنسبة للدولة الصفوية؛ إذ كان عباس أشبه بـ”بطل قومي” أنقذ الإمبراطورية من الفوضى المحققة، فنجح في رد خطر الأوزبك، وقام بإعادة ترتيب الإمبراطورية من الداخل فقضى على خصومه بالسياسة أو بالقمع، كما قام بإصلاحات داخل الجيش وسلحه بأحدث أنواع المدافع والبنادق، وجعله أكثر احترافيًة وتنظيمًا، وأنشأ أول أسطول بحري واستطاع السيطرة على الخليج الفارسي، ونقل العاصمة من قزوين إلى أصفهان، والأهم أنه أكمل بناء بيروقراطية قوية في الدولة قادرة على تحصيل الضرائب بشكل منظم.
اندفع عباس نحو العثمانيين ونجح في أن يستعيد منهم كثيرًا من الأراضي التي كانوا قد انتزعوها منه في بداية حكمه، وأعاد العراق إلى سيطرة الصفويين بعد أن كان العثمانيون قد انتزعوها من أيديهم، وظلت الحرب بين عباس الكبير والعثمانيين طوال فترة حكمه، تخللتها أكثر من محاولة للصلح، لكنها كانت محاولات هشة ما تلبث أن تنهار تحت حوافر الخيل.
لكن عباس الكبير، وإن حافظ على الدولة الصفوية أثناء حياته ودفع بها نحو التقدم، فإن سياسته قد زرعت بذور الضعف والانهيار فيها، فقد شاع في تلك الفترة الفتك بكل من يشك بولائه، ولو كان من أقرب الأقربين، حتى إنه سمل عيون أبنائه الأربعة، ما ساهم في إنهاك الدولة الصفوية وضعف من جاؤوا بعده، حيث خلفه حفيده صفي الأول، ثم عباس الثاني الذي عاشت الدولة في عهده مجدها الأخير؛ فحسن العلاقات مع الأوزبك وضم بعض أراضي الأفغان، وتحسنت في عهده التجارة مع الدول الأوروبية.
بعد ذلك جاء عصر صفي الثاني الذي كان بعيدًا عن السياسة فكان الوزراء هم من يدبرون له أمور دولته، وكانت عوامل رئيسية تفت في عضد الدولة الصفوية في ذلك الوقت على رأسها تحكم رجال الدين الذين أخذوا يحرمون كل سبل التقدم والاختراع، ثم آلت الدولة بعد ذلك إلى الشاه حسين الذي كان ضعيفًا سيئ التدبير، فحدثت في عهده عدة مجاعات، ولم يستطع حفظ دولته من الأفغان السنة الذين حاصروا العاصمة أصفهان، وخلعوه عن الحكم، فقدم لهم التاج بنفسه، ليسدل الستار على عصر الدولة الصفوية التي امتد سلطانها ذات يوم على إيران وخراسان وأفغانستان وأذربيجان والعراق وديار بكر وبلاد الكرج، واستمرت على مسرح التاريخ أكثر من قرنين من الزمان.
• “ميدل إيست آي”: من هو آية الله علي خامنئي في إيران؟ وما سبب أهميته؟
المصدر: مواقع إلكترونية + إسبانيا بالعربي.