معركة ستالينغراد.. عندما تحطمت مطرقة الألمان على الصخرة الروسية
إسبانيا بالعربي – شهدت مدينة ستالينغراد الروسية أشرس المعارك في الحرب العالمية الثانية، والتي تُعد نقطة تحول لانتصار الاتحاد السوفيتي على الزحف النازي وحلفائه، وأحدثت تحولًا كبيرًا في مجريات الحرب العالمية الثانية. ليس هذا وحسب، حيث تُعد معركة ستالينغراد أحد أطول وأضخم وأكثر المعارك دموية في التاريخ الحربي ككل؛ نتيجة لعدد القتلى الكبير الذي خلفته وفاق المليون ونصف قتيل.
فما هي أبرز وقائع تلك المعركة التي دارت رحاها بين ألمانيا وحلفائها من دول المحور، والاتحاد السوفيتي؟ وما النتائج التي ترتبت عليها؟
ستالينغراد.. جغرافية المدينة وأهميتها
تمتد مدينة ستالينغراد، التي تُعرف الآن باسم فولغوغراد، بمحاذاة الضفة اليمنى لنهر الفولغا، وتُعد منطقة من الأراضي المنبسطة التي تكثر فيها المستنقعات، وامتدادًا للسهل الأوروبي. يبلغ طولها 30 كم، وتمتاز بأهمية صناعية خاصة؛ إذ تعد من أغنى مناطق الاتحاد السوفيتي بالثروات. كانت المدينة بمثابة مركز صناعي في روسيا، تُنتج سلاح المدفعية لقوات البلاد إلى جانب العديد من السلع الهامة الأخرى، أيضًا كان يُعد نهر الفولغا الذي يمر عبر المدينة طريق شحن هام، يربط الجزء الغربي من البلاد بمناطقها الشرقية البعيدة.
وقد رأى الزعيم النازي أدولف هتلر في ستالينغراد هدفًا حيويًا ذا رمزية مزدوجة؛ فمن الناحية الأيديولوجية تحمل المدينة اسم عدوه اللدود ستالين، ومن الناحية الإستراتيجية تُشكل المدينة نقطة التقاء جميع المحاور السككية الهامة في الاتحاد السوفيتي. فضلًا عن ذلك تضم المدينة قاعدة صناعية هامة، وأهم ميناء نهري في البلاد، هذا بالإضافة إلى كونها البوابة الوحيدة تقريبًا لغزو القوقاز، وبحر قزوين، والسيطرة على آبار النفط الحيوية؛ من أجل تأمين احتياجات ألمانيا من البترول والغاز.
عملية بربروسا.. نهاية معاهدة السلام الألمانية-السوفيتية
في منتصف الحرب العالمية الثانية، وبعد أن استولت القوات الألمانية على معظم أراضي ما يُعرف حاليًا بأوكرانيا وبيلاروسيا في ربيع عام 1942، قررت القوات الألمانية شن هجوم على جنوب روسيا، وذلك في صيف العام نفسه.
كانت القوات الروسية تحت قيادة جوزيف ستالين، رئيس الاتحاد السوفيتي آنذاك، قد نجحت بالفعل في صد هجوم ألماني سابق على الجزء الغربي من البلاد، خلال شتاء 1941-1942، غير أن جيش ستالين الأحمر عانى خلال ذلك القتال من خسائر كبيرة في القوى البشرية والأسلحة. وقد توقع ستالين وجنرالاته، بما فيهم زعيم الاتحاد السوفيتي لاحقًا، نيكيتا خروشوف، أن يشن النازيون هجومًا آخر يستهدف العاصمة موسكو.
وبالفعل في 22 يونيو (حزيران) عام 1941 اجتاحت جيوش ألمانيا وحلفائها من دول المحور أراضي الاتحاد السوفيتي ضمن “عملية بربروسا”، التي أنهت معاهدة السلام الألمانية-السوفيتية الموقعة في بداية الحرب العالمية الثانية. فتحت الحملة جبهة الشرق ووسعت نطاق الحرب إلى خارج أوروبا الغربية، ثم في مرحلة ما انصرف اهتمام هتلر إلى الجنوب الشرقي؛ فأمر بتركيز الحملة على السيطرة على حقول القمح في أوكرانيا، وآبار النفط في القوقاز، وبحر قزوين، وفي ضوء ذلك تبدل الهدف الرئيس للحملة إلى مدينة ستالينغراد.
أعلن هتلر أنه لدى تمكن قواته من السيطرة على ستالينغراد، سيجري قتل جميع سكانها من الذكور وترحيل نسائهم. وعلى الجانب الآخر أمر ستالين جميع الروس ممن يملكون القدرة الكافية على حمل السلاح، بالمشاركة في الدفاع عن المدينة التي تحمل اسمه، وسيكون لسقوطها أثرًا دعائيًا جليلًا في صالح الجيش النازي. بدأ الجيش السادس النازي هجومه في أغسطس (آب) عام 1942، ونهض الروس للذود عن مدينتهم، وجرى إعداد المسرح لنشوب معركة دموية قاسية.
مرحلة الدفاع.. “ولا خطوة واحدة إلى الخلف”
أسندت مهمة إخضاع ستالينغراد للجيشين الألمانيين الرابع والسادس، وبنهاية يونيو عام 1942، أرغم زحف القوات الألمانية الجيش الأحمر على التراجع في الجناح الجنوبي من الجبهة، وتمكن النازيون من بسط سيطرتهم على مدينتي خاركوف وفوروشبلوفغراد – لوجانسك حاليًا – في أوكرانيا.
تنبهت القيادة العسكرية الألمانية إلى وجود نهرين في أطراف المدينة هما الفولغا والدون؛ فقررت جعلهما نقطتيْ ارتكاز لحماية أطرافها ونشرت قوات عليهما. وقد تصدت الفرقتان 72 و74 في الجيش الأحمر السوفياتي للقوات الألمانية المتقدمة، وكان ميزان القوة يميل في البداية لصالح الألمان، لكن المواجهة بدأت تأخذ شكل حرب شوارع مع تحصن السوفييت في المجمع الصناعي المطل على الفولغا شرقي المدينة.
أسند هتلر إلى جيوشه مهمة الاستيلاء على منطقة القوقاز، وحقولها النفطية في المقام الأول، ومدينة ستالينغراد، وقطع الممر البري بين نهري الفولغا والدون، من أجل منع القوات السوفيتية من الوصول إلى الفولغا، شريان المواصلات ذي الأهمية الحيوية.
وفي 12 يوليو (تموز)، جرى إنشاء جبهة ستالينغراد تحت قيادة المشير سيميون تيموشينكو، الذي أسند إلى جيوشه مهمة وضع خطوط دفاع حصينة، بطول الشاطئ الأيسر لنهر الدون، لتبدأ عملية الدفاع الاستراتيجية. وفي 27 من الشهر نفسه أصدر القائد العام السوفيتي جوزيف ستالين أمره الشهير بعدم التراجع «ولا خطوة واحدة إلى الخلف»، على أن يخضع أولئك الذين يستسلمون للمحاكمات العسكرية، ويواجهون الإعدام المحتمل.
انسحبت القوات السوفيتية إلى الشاطئ الأيسر من الدون، وحصنت نفسها للدفاع في ضواحي ستالينغراد، في 10 أغسطس، ثم في 23 من الشهر نفسه، شنّ سلاح الجو الألماني على المدينة قصفًا مدمرًا؛ أسفر عن مقتل حوالي 90 ألف شخص معظمهم من المدنيين. وفي اليوم نفسه بلغت القوات الألمانية ضفاف الفولغا، واستطاعت دخول المدينة في 12 سبتمبر (أيلول)؛ لتبدأ المعارك في أحيائها. وتقدمت القوات الألمانية داخل المدينة إلى أن باتت تسيطر على 90% منها، بحلول منتصف نوفمبر (تشرين الثاني).
الهجوم المضاد.. “عملية الطوق”
حيث إن وصول إمدادات قوات الجيش الأحمر لم يكن ممكنًا إلا بمعابر في نهر الفولغا، ركَّز الألمان جهودهم على الحفاظ على أهم المواقع المستخدمة لقصف النهر. ومع أن القوات الألمانية نجحت في الوصول إلى ضفاف النهر في عدة أماكن داخل المدينة، إلا أن المقاومة الروسية استمرت في نضالها؛ الأمر الذي أدى إلى استنزاف القوات الألمانية الضاربة خلال 125 يومًا من المعارك الضارية. ونتيجة لذلك تهيأت الظروف للجيش الأحمر لشن هجوم مضاد، بدأ في نوفمبر.
استطاع السوفييت الإعداد لهجوم مضاد، آخذين في الاعتبار قساوة فصل الشتاء والمصاعب التي سيجلبها للجنود الألمان وآلياتهم العسكرية غير المهيأة للاستخدام في الطقس شديد البرودة. ولم تتمكن المخابرات الألمانية من الحصول على أية معلومات عن ذلك الهجوم؛ مما شكل إخفاقا إستراتيجيًا باهظ الكلفة.
بدأ جنرالات ستالين بإرسال تعزيزات إلى المدينة والمناطق المحيطة بها، واحتدم القتال في شوارع ستالينغراد، حيث استخدم كلا الطرفين القناصة المستعدين على أسطح مباني المدينة. وقام الجنرالان الروسيان جورجي جوكوف وألكسندر فاسيليفسكي بتنظيم قوات روسية، مدعومة بقوات من الحلفاء رومانيا والمجر، في الجبال الموجودة شمال وغرب المدينة. ومن هناك أطلقوا هجومًا مضادًا يُعرف باسم “عملية أورانوس”.
أطلق السوفيت هجومهم المضاد في 22 نوفمبر 1942، وشكل الجيش الخامس بقيادة الجنرال فاسيلي تشويكوف رأس الحربة فيه. وعلى الرغم من تكبدها خسائر كبيرة مرة أخرى، تمكنت القوات الروسية من تشكيل حلقة دفاعية حول المدينة في أواخر نوفمبر 1942، حاصرت نحو 300 ألف من قوات ألمانيا وحلفائها من دول المحور في الجيش السادس. ومع الحصار الروسي الذي حد من وصول الإمدادات تحطمت القوات الألمانية المحاصرة في ستالينغراد ببطء، بعد أن نجح الروس في استغلال فصل الشتاء القاسي الذي حدّ بشكلٍ كبير من القدرة القتالية لألمانيا وحلفائها.
وطوال الفترة من نوفمبر 1942، إلى يناير (كانون الثاني) 1943، بذلت القيادة الألمانية جهودًا مستميتة لكسر الحصار المفروض على الجيش السادس في ستالينغراد، فأقامت القيادة الألمانية جسرًا لإمداد الجيش المحاصر، وحاولت تنظيم إمدادها جوًا، لكن العملية فشلت لعدم وجود عدد من المهابط الآمنة للطائرات، يكفي لإيصال حاجة القوات المحاصرة. كذلك، حاول الجيش الرابع وقوات مستقدَمة من أوكرانيا فك الحصار عن المدينة، لكن فشلت تلك المحاولات من جديد؛ بسبب الإنهاك الشديد والنقص الحاد في الذخيرة الذي كانت تُعانيه القوات المحاصَرة.
وفي 10 يناير 1943، بدأ الجيش الأحمر “عملية الطوق” بتوجيه الضربات على الوحدات الألمانية المحاصرة، وجرى شق مجموعة قوات العدو إلى شطرين تمهيدًا للقضاء عليها. وفي ختام يناير كان قائد الجيش السادس المارشال فريدريش باولوس قد سَلّم نفسه وأعضاء هيئة أركانه.
نهاية معركة ستالينغراد واستسلام الألمان
بعد المعاناة من البرد القارس وانتشار الأوبئة والقتال العنيف استهلك الألمان وحلفاؤهم كل ذخيرتهم وطعامهم، وأجبروا على الاستسلام. أسدل إعلان استسلام المجموعة الشمالية من الجيش السادس الألماني، في الثاني من فبراير (شباط) 1943، الستار على نهاية معركة ستالينغراد، التي فاز فيها الاتحاد السوفيتي بعد اندلاعها بخمسة أشهر وأسبوع وثلاثة أيام. وأسفرت عمليتها الختامية عن أسر أكثر من 91 ألف عسكري ألماني، بينهم ألفا ونصف ضابط و24 جنرالًا.
ويعتقد أن ألمانيا وحلفاءها تكبدوا خسائر تزيد عن 700 ألف جندي بين قتيل ومصاب جراء المعركة، وفقدت روسيا أكثر من مليون جندي من القتلى والجرحى. هذا إلى جانب عديد من السكان المدنيين، الذين عاشوا في المدينة ولم يتمكنوا من الهرب؛ فلقوا حتفهم أيضًا. ويقول بعض الخبراء إنه خلال معركة ستالينغراد، كان متوسط العمر المتوقع للجندي السوفيتي 24 ساعة فقط.
مع ذلك، اعتبرت المعركة نقطة تحول في الحرب في أوروبا؛ إذ إن ألمانيا لم تخسر مجرد معركة هامة في ستالينغراد وحسب، بل أضعفت تلك الهزيمة مواردها بشكل خطير. وكانت تلك المعركة أكبر مواجهة في الحرب العالمية الثانية؛ بسبب عدد القتلى والجرحى الذي قارب المليوني قتيل، وتُذكر بأنها إحدى أكثر المعارك وحشية وأهمية في التاريخ.
أوجعت هزيمة ستالينغراد ألمانيا بشدة واستنزفتها عسكريًا؛ إذ لم يبق على قيد الحياة من أصل 250 ألف جندي، سوى 91 ألفًا عند الاستسلام، جرى نقلهم أسرى إلى الاتحاد السوفيتي، ولم يبق منهم على قيد الحياة عند نهاية الحرب أكثر من 6 آلاف فقط.
علاوة على ذلك، شكَّلت الهزيمة في ستالينغراد بداية النهاية لتقدم ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، خاصة بعد أن هزّ مشهد استسلام الجنرال فون باولوس، و15 من مساعديه، عرش الرايخ الألماني، وأشعل جذوة الأمل في إمكانية هزيمة هتلر. وقد عزز من ذلك أيضًا أن نصر ستالينجراد جاء مؤكدًا لنصرٍ سبقه بأسابيع فقط في معركة العَلَمين بمصر على جبهة شمال أفريقيا، والذي قال بعده رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل عبارته الشهيرة: “قبل العلمين كنا نصارع للبقاء، أما بعدها فأصبحنا ننتصر”.
فضلًا عن ذلك مثلت معركة ستالينغراد بداية تقهقر ألمانيا على الجبهة الشرقية؛ فحرمها ذلك من المواد الأولية التي كانت تمدها بها البلدان المحتلة بشرقي أوروبا. ومهدت هزيمة ستالينغراد، ومعها العلمين لإنزال الحلفاء في صقلية واليونان؛ لتدخل بذلك الحرب العالمية الثانية مرحلة جديدة، بدت فيها هزيمة ألمانيا ودول المحور حتمية وشيكة.
وقد ارتبطت معركة ستالينغراد ارتباطًا وثيقًا بالدفاع الاستراتيجي، والعمليات الهجومية، واستكمال تطويق وتدمير قوات العدو الكبيرة. وكان النصر في ستالينغراد نتيجة الحزم، والشجاعة، والبطولة الجماعية للقوات السوفيتية، والتميز العسكري لـ44 تشكيلة عسكرية سوفيتية. وقد أظهر الانتصار في معركة ستالينغراد مدى قدرات الجيش الأحمر، والفن العسكري السوفيتي.
وفي فبراير من كل عام يجتمع الروس في مدينة ستالينغراد، المعروفة اليوم باسم فولغوغراد، للاحتفال بالذكرى السنوية لاختتام المعركة التي دمرت مدينتهم، وانتصروا فيها على الزحف النازي.
المصدر: إسبانيا بالعربي / ساسة.