إشبيلية.. قصة مملكة أندلسية قوية بناها «بنو عباد» ثم ضيعوها

بعد أكثر من 45 عامًا على الفتح، بدأ التأسيس الفعلي للدولة الإسلامية في الأندلس عام 138 هجريًا، عندما وصل إليها عبد الرحمن الداخل فارًّا من المشرق بعد سقوط الدولة الأموية. من أجل تثبيت سلطته أميرًا للأندلس، التي أنهكتها الفتن وحروب السلطة والنفوذ قبل قدومه.

خاض الداخل غمار 30 عامًا من الصراع والتدبير، تمكن خلالها من تأسيس دولة إسلامية موحدة في وسط وجنوب شبه جزيرة أيبيريا، وأجزاء من شمالها. على مدار قرنين ونصف، كان الأعم الغالب سيطرة الحكومة الأموية المركزية القوية في العاصمة قرطبة على زمام الأمور في الأندلس التي كانت ترفل في الثراء والعمران، وأحيانا كان يترامى نفوذها إلى الجانب الآخر من مضيق جبل طارق، ليشمل أجزاءً من المغرب.

الأندلس إلى حكم ملوك الطوائف

أعيذها نظراتٍ منكَ صائبة … أن تحسبَ الشحمَ فيمن شحمُه ورَمُ

المتنبي

في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، يطفو على سطح الحدث الأندلسي شخصية بارزة الطموح هو المنصور محمد بن أبي عامر، مؤسسًا دولته الخاصة، ومستبدًا بكافة صلاحيات الحكم في الأندلس، بينما وُضع الخليفة الأموي الطفل هشام المؤيد بالله في الظل. يشتهر المنصور بغزواته الساحقة للممالك المسيحية الشمالية مرة أو مرتين كل عام. يرحل المنصور عام 392 هجريًا ويخلفه ابنه عبد الملك، ويسير على نهجه حتى وفاته المفاجئة عام 399 هجريًا.

فجأة، ستسقط الدولة العامرية القوية عام 399 هجريًا بعد ثلاثة أشهر لا أكثر من حكم عبد الرحمن شنجول بن المنصور بعد أخيه عبد الملك، وذلك لسوء تدبيره، وجنون أطماعه، وستزيل الجموع الثائرة التي التفَّت حول مغامر أموي تلقّب بمحمد المهدي، مدينة الزاهرة، العاصمة الملكية للدولة العامرية من الوجود.

دخلت الأندلس في فتنة لم تنقطع لأكثر من 23 عامًا، أدخلتها في حلقات مفرغة من الصراعات المحمومة على الحكم والنفوذ والثروة بين مختلف أعراق وأحزاب وزعامات الأندلس خاصة الأمويين والعرب والبربر والصقالبة. أدت تلك الفتنة إلى ضرب سلطة الدولة المركزية في مقتل، فانقسمت الدولة الأندلسية القوية إلى عدد لا يكاد يُحصى من الدويلات والمدن وحتى الحصون والقرى التي تقاسمتها الزعامات المحلية، أما حكومات قرطبة الضعيفة في تلك الفترة فلم تتعدَ سلطتها حدود ضواحي قرطبة.

شهد شهر ذي القعدة من عام 422 هجريًا حدثًا فاصلًا، إذ نادى المنادون في شوارع قرطبة بطرد كافة الأمويين من العاصمة التي شهدت دخول جدهم عبد الرحمن الداخل ناجيًا ظافرًا قبل زهاء ثلاثة قرون، وبعدم التستر على أي منهم. جاء هذا الإعلان الخطير بعد عزل وجهاء المدينة لآخر خليفة أموي في قرطبة وهو المعتد بالله، والذي كان ضعيف الشخصية، منصرفًا للهو والترف، وأساء السيرة في الحكم. اعتبر هذا الحدث هو الإيذان الرسمي بدخول الأندلس إلى عصر التمزق والاضمحلال المشهور بعصر ملوك الطوائف، والذين كان أمرًا واقعًا قبل ذلك بسنواتٍ.

على مدار 60 عامًا تالية، سيصبح التاريخ والجغرافيا والأدب وحتى الدين بالأندلس، رهائنَ لأطماع وأهواء ملوك الطوائف، خاصة أولئك المتغلِّبين على الحواضر الأندلسية الكبرى، كبني جَهْوَر في قرطبة، وبني الأفطس في بطليوس، وبني باديس في غرناطة، وبني هود في سرقسطة، وبني ذي النون في طليْطلة.. وبالطبع أبرز ملوك الطوائف، وأكثرهم انتفاخًا: بنو عباد ملوك إشبيلية.

إشبيلية.. جذور «المملكة المنتفخة»

جنوب غربي الأندلس، على ضفاف نهر الوادي الكبير، كانت إشبيلية الدرة الثانية في عقد الأندلس، والتي طالما نافست قرطبة على مكانتها كواسطة للعقد الفريد. عندما اندلعت الفتنة الضارية عام 399 هجريًا، وكان مسرحها الرئيس قرطبة، لم يلبث أن ظهر في واجهة الأحداث في إشبيلية قاضيها إسماعيل بن عباد، والذي كان يتولى هذا المنصب الرفيع منذ أيام المنصور بن أبي عامر.

كان للرجل نفوذٌ بارز في إشبيلية وأحوازها، استغلَّها في ضبط الأمور في العاصمة الثانية للأندلس، وإبعادها عن أهوال الفتنة. لم ينجرّ الداهية الحكيم إلى الصراع المحموم على العرش المفخَّخ في قرطبة، واكتفى بما تحت يديْه، وحتى عندما استولى بنو حمود البربر على الخلافة عام 407 هجريًا، وعينوا أحدهم وهو القاسم بن حمود واليًا لإشبيلية، أظهر ابن عباد له الطاعة، واكتفى بخطة القضاء، وبتعزيز نفوذه لدى خاصة المدينة وعامتها.

عندما انهارت خلافة البربر بعد سنوات، لم يكن مستَغربًا أن يتبوأ القاضي ابن عباد الصدارة في إشبيلية. وعندما توفي الرجل، لم يجد ابنه أبو الوليد بن عباد أدنى صعوبة في وراثة القضاء، ونفوذ أبيه كذلك، خصوصًا وقد كان يحمل الكثير من مناقب أبيه.

عام 414 هجريًا، نجح أبو الوليد بن عباد في التخلص من بقايا نفوذ البربر في إشبيلية، وأقر الإشبيليون انفرادَه بالسلطة في المدينة. مع الانهيار الشامل الذي عمَّ الأندلس آنذاك، تخلى بنو عباد عن حذر أبيهم، وأفلتوا مطامعَهم من عقالِها، وتطلَّعوا إلى ما وراء إشبيلية.

على مدار 20 عامًا من حكم أبي الوليد بن عباد، بدأت مملكة إشبيلية تتوسع شيئًا فشيئًا على حساب جيرانها، وممالك الطوائف المجاورة. حدثت صدامات دموية عنيفة مع مملكة بطليوس من أجل مد النفوذ غربًا باتجاه أراضي البرتغال الحالية. كذلك اصطدمت قوات ابن عباد شمالًا مع مملكة طليطلة الواقعة في قلب شبه الجزيرة.

أما شرقًا وجنوبًا فكان أبرز خصوم العباديين هم من أمراء البربر الذين تقاسموا حكم أجزاءٍ واسعة من جنوبي الأندلس، خاصة بني حمود الذين وثبوا على خلافة قرطبة غير مرة، مرتكزين إلى أصولهم العريقة التي تعود إلى الأدارسة الذين حكموا المغرب قبل مئتيْ عام، وهم ينتسبون لآل البيت.

اضطر ابن عباد لمواجهة شرعية النسب تلك أن يخرج شبيهًا بهشام المؤيد بالله الخليفة الأموي الذي انتزع العامريون سُلطتَهُ قبل نصف قرن، ويعلن أنه كان مختفيًا ولم يمُتْ، وأنه –ابن عباد– حاجبه، ويدعو إلى خلافته، وتجديد بيعته! لكن لم تنطلِ تلك الخدعة على أكثر ملوك الطوائف، ومن قبلها، فكان قبوله شكلاً لا مضمونًا.

إنها لفضيحة لم يقع في العالم إلى يومنا مثلها، أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، كلهم يتسمى بأمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد. *الإمام ابن حزم ساخرًا من كثرة مدعي الخلافة في فترة ملوك الطوائف، وكان معاصرًا لتلك الأحداث.

نجح جيش ابن عباد في قتل يحيى بن علي بن حمود أبرز خصومه من البربر، وأشهر مدعي الخلافة آنذاك، في كمين محكم عام 427 هجريًا، خارج مدينة قرمونة، مستغلين نزوله للحرب مخمورًا. لكن عام 431 هجريًا ستتعطل مشاريع ابن عباد إلى حين، بعد أن مزق جيشه تحالفًا كبيرًا من أمراء البربر، ونجحوا في قتل ابنه اسماعيل قائد الجيش، والمسؤول عن قتل يحيى الحمودي قبل أربعة أعوام.

توفي القاضي ابن عباد عام 433 هجريًا، وخلفه ابنه عباد الذي اشتهر بلقب المعتضد، والذي يعتبر أقوى ملوك الطوائف قاطبةً، وذاع صيته بالدهاء الشديد الذي لم يتجاوزه من صفاته إلا القسوة والوحشية ربما.

بدأ المعتضد عهدَه أولًا باضطهاد كافة الزعامات المحلية في إشبيلية حتى ينفرد مطلقًا بكل سلطة ورأي في المملكة، وألقى القبض على كثير منهم في سجن إشبيلية، حتى يكونوا عبرة لمن تسوِّل له نفسه الاعتراض على أي خطوة يقوم بها. وبعد أن أطبق المعتضد على الجبهة الداخلية بيدٍ من حديد، أطلق جيوش إشبيلية مجددًا للاستيلاء على ما حولها من المناطق.

اصطدم المعتضد بقوات مملكة بطليوس، وأرهقها بغاراته سلبًا ونهبًا وقتلًا وتخريبًا، حتى اضطر صاحبها ابن الأفطس إلى التحصن في بطليوس حاضرة ملكه عام 442 هجريًا. ثم استولى على مدينة لبلة غربي إشبيلية عام 445 هجريًا بعد سنوات من الحصار والغارات ونقض المواثيق مع حكامها المحليين. ثم استولى على بعض القواعد الغربية الواقعة في أراضي البرتغال حاليًا، وأهمها مدينة شِلْب عام 455 هجريًا. وتعرّض آلاف الضحايا المدنيين للقتل والجوع والأسر من جرّاء غزوات المعتضد الضارية.

المصدر: ساسة بوست.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *