شؤون إسبانية

أين كُتب أول نص باللغة الإسبانية منذ أكثر من ألف عام؟

قبل أكثر من ألف عام خطّ رهبان في إقليم لاريوخا الإسباني ملاحظات على هامش نصوص لاتينية، كانت تلك الملاحظات على ما يعتقد أول بصمات للغة الإسبانية في التاريخ.

وجدت نفسي بعد مسافة قليلة، صعودا من قرية سان ميلان دي لاكوغولا الصغيرة، أمام دير “سوسو”، الذي يعني اسمه “العلوي” باللغة القشتالية القديمة، الذي أسسه راهب متوحد يدعى القديس ميلان الدير في القرن السادس الميلادي، ويشعر الزائر للدير اليوم أنه يعود لحقبة ومكان آخرين.

ومن تلك البقعة، التي تحفها الغابات، تمكنت من أن أطل على وادي كارديناس القابع أسفل الدير، بينما تبدو في الأفق قمة جبل سان لورنزو، إذ تنتشر حولي زهور “الأجراس الزرقاء” عند مدخل مغارات جبلية كان يعيش فيها الرهبان قبل وقت طويل من بناء الدير.

ويقصد الزائرون إقليم لاريوخا الإسباني لمشاهدة كرومه الشهيرة فضلا عن زيارة طريق الحج كامينو دي سانتياغو، بيد أنني جئت إلى هنا لأعرف كيف أثرت تلك البقعة في الطريقة التي يتواصل بها الملايين حول العالم اليوم، أي اللغة الإسبانية.

شعرت وأنا أعبر دهاليز الدير، الباردة والمعتمة، أن جدرانه تردد أصداء تاريخ تلك اللغة. وقفت صامتة أتخيل الرهبان وهم منكبون على دراسة مخطوطات لاتينية يخطّون بعناية فائقة على هوامش نصوصها المقدسة شروحات باللغة المحلية قبل أكثر من ألف عام.

وكانت هذه اللغة المحلية هي ما نسميه اليوم الإسبانية.

يقصد الزائرون إقليم لاريوخا الإسباني لمشاهدة كرومه الشهيرة فضلا عن زيارة طريق الحج كامينو دي سانتياغو.

وتعد اللغة الإسبانية اليوم لغة رسمية لعشرين دولة، ويتحدث بها نحو 480 مليون نسمة كلغة أم في شتى أرجاء العالم.

ويقول معهد “سرفانتس” للغة الإسبانية إنها ثاني أوسع لغة أصلية يتحدث بها البشر حول العالم بعد لغة الماندارين الصينية.

وسمعت السكان المحليين في سان ميلان دي لاكوغولا يتبادلون الحديث بالإسبانية بطلاقة وسرعة لوصف أحوال الجو وتبادل أنباء بشأن العائلة وكأن تلك اللغة المعقدة وجدت منذ الأزل.

ويتتبع البروفيسور خايرو خافيير غارسيا سانشيز، الأستاذ بقسم علوم أصول اللغة والتواصل والتوثيق بجامعة ألكالا شمال شرقي العاصمة مدريد، أصول اللغة الإسبانية التي تعود إلى اللغة اللاتينية “الدارجة” تمييزا لها عن “اللاتينية الفصحى لغة الكتابة الرفيعة والأدب”.

وفدت اللغة اللاتينية إلى شبه الجزيرة الإيبيرية مع قدوم الرومان إبان الحرب البونية الثانية خلال القرن الثالث قبل الميلاد، ليبدأ تشكل اللغة الرومانسية-الإيبيرية، المنبثقة عن اللغات الرومانسية التي تطورت في شبه جزيرة أيبيريا.

تطورت اللغة مع تبني السكان الأصليين اللغة اللاتينية والمزج بينها وبين لغتهم المحلية وطريقة النطق ومخارج الألفاظ والمفردات.

ويقول غارسيا سانشيز إنه على الرغم من “عدم معرفة متى اندثرت اللاتينية وولدت الإسبانية بدقة” يمكن بشكل ما تحديد مهد الكتابة الأولى بالقشتالية، وهي شكل من أشكال اللغة الإسبانية بشبه جزيرة إيبيريا.

قضى كلاوديو غارسيا تورثا، مدير قسم أصول اللغة الإسبانية بالمركز الدولي لبحوث اللغة الإسبانية، أكثر من 40 عاما في تقصي أصول تلك اللغة وتدريسها بجامعة لاريوخا.

شروحات دير القديس إيميلو

ترك الراهب ملاحظات على هوامش النصوص الأصلية كترجمات، أشهرها شروحات دير القديس إيميلو.

التقينا غارسيا تورثا في دير “يوسو” (التي تعني “الأدنى”)، وهو دير مهيب آخر يقع أسفل الجبل ومقترن بدير “سوسو” أعلاها. والديران معا ضمن قائمة الإرث العالمي لليونسكو منذ عام 1997.

ويشرح غارسيا تورثا كيف بدأ أحد رهبان الدير في القرن العاشر الميلادي ترجمة عظات وصلوات، كانت تُكتب وتُرتل باللاتينية التي أصبحت غير مفهومة لعموم الناس في ذلك الوقت، إلى اللهجة الرومانسية-الإيبيرية المحلية حتى يتسنى لزملائه الرهبان فهم النصوص، وترك الراهب ملاحظات على هوامش النصوص الأصلية كترجمات، أشهرها شروحات دير القديس إيميلو، لتكون كلماتها بعض أول ما خُط بتلك اللغة.

يقول غارسيا تورثا: “أعطونا (الرهبان) لمحة عن الطريقة التي كان الناس يتحدثون بها بتلك اللغة طيلة قرون سابقة، في زمن كان السواد الأعظم لا يجيد القراءة والكتابة”.

ولا ينتهي دور دير “سوسو” في تطور اللغة الإسبانية عند هذا الحد، فبعد مرور قرون مكث الشاعر غونزالو دي برسيو بالدير حيث ألف أشعارا احتوت كلمات غير مألوفة، ويعتبر دي برسيو أول شاعر باللغة الإسبانية، وقد أثرى المعجم الإسباني بإضافة أكثر من ألفي كلمة طيلة حياته.

ويجتذب ديرا “سوسو” و”يوسو” أكثر من 100 ألف زائر سنويا، ولا يزال يسكن تسعة رهبان بأحد أجنحة الدير الأدنى ويطلعون الزوار على ملامح معمار الباروك فيه.

وبينما كنت أتفحص مجمع الأبنية الهاديء وقع نظري بالرواق الأعلى على مجلدات ضخمة لتراتيل دينية، يزن الواحد منها بين 20 و60 كيلوغراما.

وتعد المكتبة أحد كنوز الدير، على الرغم من أنها ليست ضمن الجولة التي يصحب الرهبان الزائرين فيها، إذ تضم أكثر من 10 آلاف كتاب من القرن الحادي عشر إلى الثامن عشر، بينها كتاب يذكر للمرة الأولى اسم المنطقة “ريوخا” ( المشتق من اسم النهر المحلي “ريو أوخا (أي نهر أوخا)”.

كما يعرض دير يوسو نسخة من “شروحات دير القديس إيميلو” الشهيرة (بينما تحتفظ الأكاديمية الملكية للتاريخ بمدريد حاليا بالترجمة الأصلية).

وتوجد نماذج أخرى مبكرة للكتابات باللغة الرومانسية-الإيبيرية منها “مجلدات فالبويستا” التي تعود للعصور الوسطى وتضم كلمات بالرومانسية-الإيبيرية، وتوجد بدير سانتا ماريا دي فالبويستا بإقليم بورغوس المجاور.

وتشير بيلين ألميدا كابريخاس، زميلة غارسيا سانشيز بجامعة ألكالا، إلى أهمية النصوص الأولى في تتبع تطور الرومانسية-الإيبيرية، قائلة : “يصعب القول أي نص كان السابق كتابة باللغة الرومانسية”، إذ يعتمد ذلك على معايير تعريف ما هي “الكتابة بالرومانسية”.

ومع ذلك ليس من شك في أن دير “سوسو” لعب دورا محوريا في تطور اللغة الإسبانية، ويصفه غارسيا تورثا بأنه كان “دارا للمفردات، ولكن الأهم أنه يلقي الضوء على أصل اللغة وتطورها”.

ويشير تورثا إلى “الحاشية 89″، وهي أطول الملاحظات التي خطها الراهب، باعتبارها أول نص شامل بلغة رومانسية-إيبيرية يحتوي على “سرد كلمات.. مترابط لإيصال المعنى”؛ وأول نص كامل يضم مختلف مستويات التعبير اللغوي من مفردات وقواعد وتركيب جمل، ما يدل على عمق وتعقيد لغوي.

تضم مكتبة دير يوسو أكثر من 10 آلاف كتاب من القرن الحادي عشر إلى الثامن عشر.

ويقول غارسيا تورثا إنه باعتبار أن رهبان سوسو كانوا أول من سجل كتابة أصوات اللغة الرومانسية-الإيبيرية، فالفضل يرجع لهم في ابتكار الأبجدية الإسبانية.

ويضيف: “هنا اختراع الكتابة الإسبانية حيث يتحقق اختراع الأبجدية الإسبانية!”.

فلا عجب إذا أن يصف داماسو ألونزو، شاعر القرن العشرين الإسباني المعروف وعالم اللغة، الحاشية-89 بأنها “الصرخة الأولى للغتنا”.

ومع توقع معهد سرفانتس أن يصل عدد المتحدثين بالإسبانية إلى 756 مليونا بحلول 2050، من المؤكد أن هذه القصة ستستمر طويلا.

المصدر: بي بي سي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *