البيازين: أقدم أحياء غرناطة أو الروح الأندلسية التي لا تغيب
أخبار إسبانيا بالعربي – في مقابل قصر الحمراء الكبير الرائع يقع حي البيازين أقدم أحياء غرناطة الذي سكنه الحرفيون والصناع، لا يزال يحتفظ بنكهة الماضي البعيد وروح الأندلس القديمة، في صورتين مختلفتين، لكنَّهما قريبتين بحيث لا يمكن فهم إحداهما دون الأخرى.
يقع حي البيازين على ارتفاع حوالي 800 متر عن سطح البحر، وحتى اليوم يشعر زائره بمزيجٍ من المشاعر ويفقد نفسه عبر الأزمنة والقرون الماضية، ولا تقلُّ روعة قصر الحمراء من هناك عن روعة المشهد البادي من أعلى القصر لحي البيازين بمنازله الصغيرة وشوارعه الضيقة المرصوفة بالحصى.
يعتبر حي البيازين أصل مدينة غرناطة، والشاهد على عصورها المتتالية وثقافاتها المتنوعة، وكان مأهولًا بالسكان منذ عصر ما قبل الميلاد، وحَكَمه الرومان ثم القوط الغربيين قبل أن يستقر فيه المسلمون، ويعيدوا تأسيسه.
وحين سقطت غرناطة في أيدي المسيحيين تركوا حيَّ البيازين للمسلمين فشهد حياة الموريسكيين الصعبة في محاولاتهم للحفاظ على دينهم وهويتهم، قبل أن تتحول مساجدها إلى كنائس، لكنه رغم ذلك احتفظ في النهاية بالطابع الأندلسيّ حتى اليوم.
تأخذك الشوارع الصاعدة إلى ساحة سان نيكولاس فترى من خلالها قصر الحمراء، بينما تهبط بك الشوارع المنحدرة إلى نهر دارو حيث أجمل الشوارع في العالم؛ يطل من اليمين على قصر الحمراء ومن اليسار على القرية البيضاء بالأشجار المظلمة المحيطة بها والأبراج التي تتوسطها، في مشهد صُمّم بعناية ليطلّ عليه القصر، فغُرست الأشجار والنباتات المعطَّرة تنسدل بينها قنوات الماء التي كان صوتها أحد ما يميز الأحياء الأندلسية.
البيت العربي.. جنَّةٌ مغلقة
شوارع البيازين قديمة ومتشابكة، وهو يعتبر أقدم أحياء أوروبا، ويبدو لزائريه وكأنه جمهورية مستقلة، وبين الشوارع الضيقة ترتفع أسوار «الكرم» وهي البيوت المبنية على الطراز العربي وتضم المنزل وحديقة داخلية لا ترى منها الأعين سوى سورًا أبيض وربما بعض النباتات التي تسللت عبره إلى الخارج، إنها جنة مغلقة، تحتفظ بخصوصية أهلها بحرص، وكانت سكن الطبقات العليا، بينما كانت دور الطبقات الوسطى مُصمّمة على الطراز نفسه لكنها كانت أكثر تواضعًا.
لا يزال في حي البيازين إلى اليوم حوالى 30 بيتًا موريسكيًا تعود للقرن السادس عشر، ويعبر عن الحياة الإسلامية في غرناطة والتنظيم الاجتماعي لسكانه، فقد كان البيت الموريسكي منفتح على الداخل، نوافذه عالية تسمح بدخول الضوء والتهوية دون كشف من بالداخل، وكانت النوافذ في الطوابق العليا مزودة بمشربيات خشبية وانتشرت الأزقة السد أو الدروب (adarves)، حتى يقتصر المرور على سكان المنازل فقط ولا تعود هناك حاجة لعبور غيرهم من المشاة.
تبدو البيوت في البيازين فقيرة للناظر إليها من الخارج لكن داخلها كان يضمّ كل الكماليات، كان صحن المنزل غير مسقوف لينفتح على السماء، والفناء الأندلسي غالبًا كان يحتوي على بئر، أو نافورة (فسقية) ومساحات مزروعة بأشجار الليمون والبرتقال، ونباتات الآس والحبق وأزهار الياسمين، ويكتمل المشهد بالأصص المعلقة على الجدران.
أشهر الدور الموريسكية القائمة حتى اليوم بيت الظفرة وبيت أورنو دي أورو (Casa Horno de Oro)، وبيت شابيث (Casa del Chapiz)، وتعبر بنيتها المعمارية والجمالية عن التحولات التي مرت بها مدينة غرناطة الإسلامية بعد سقوطها، خاصة حي البيازين الذي عاش فيه الموريسكيون بعد تسليم المدينة وشهد أكبر التحولات.
بيت الظفرة
يعتبر بيت الظفرة أحد أروع المنازل الأندلسية في حي البيازين، وإن لم يكن هناك ما يميزه أو يجذب انتباه المارين أمامه بسبب بساطة واجهته، لكنها تخفي أحد أجمل المشاهد التي يمكن رؤيتها للمدينة نظرًا لقربه من قصر الحمراء وإطلاله على حي البيازين بالكامل.
والزخارف العربية المميزة لبركة الماء التي تتوسط المنزل، كما يضم حتى اليوم صورًا وجداريات تعود للقرن الرابع عشر حين كان الأغنياء يشيدون منازلهم، ويُقال إن أسرة ذات مكانة في البلاط الملكي النصري هي من سكنته في البداية.
وبعد سقوط غرناطة في أيدي الملكين الكاثوليكيين سُلم البيت لأحد رجال البلاط المقربين ضمن أملاك وأراضي بني نصر الأخرى، وقد اُعلن عام 1931 معلمًا تاريخيًا، وحتى اليوم يحتفظ بطرازه العربي الأندلسي الفريد، ويضم حاليًا مركزًا للترجمة الشفوية.
معالم الحي القديم
يبدو حي البيازين مثل المتاهة مهما استعان زائره بالخرائط، ومهما تكرَّرت زيارته فلن يمكنه تكرار الجولة، الشوارع الضيقة والمنحدرة التي تمتلئ نوافذها بالزهور الملونة تأخذك في كل مرة في طريقٍ مختلف، والأفضل أن تستجيب لها وتنسى نفسك في الزمن الماضي، أما طريق العودة فسيكون عليك السير إلى أسفل لتصل إلى قلب الحي.
وقد صنفته اليونسكو أحد مواقع التراث العالمي عام 1984، وهو يضم اليوم بقايا أثرية من العصر الروماني ومآذن وصهاريج وحمامات عربية وجسور، تعود للعصور الإسلامية، إلى جانب الأديرة والقصور التي أُنشئت في الفترة القشتالية المسيحية، وهو المكان المفضّل لإقامة الفعاليات الثقافية بما يستحضره من ماضٍ ثري.
هناك عدة معالم يمكن زيارتها وهي مثالية لمشاهدة غروب الشمس؛ برج سان كريستوبال وبرج سان نيكولاس حيث يمكن رؤية قصر الحمراء تحيطه جبال سييرا نيفادا وسهل غرناطة، وهي تمتلئ غالبًا بالموسيقيين وزائرين يتحدثون لغات مختلفة تعبيرًا عن الإعجاب بالمشهد.
كما يقع في الحي أيضًا باب (puerta de Fajalauza) الذي التقى عنده أبي عبد الله الصغير آخر ملوك مدينة غرناطة بالملكين الكاثوليكيين عام 1492م ليسلمهما مفتاح المدينة. تعتبر خزانات المياه أحد المعالم البارزة في حي البيازين وأبرزها خزان الملك (Aljibe del Rey) وهو أكبر صهريج في المدينة ويسع 300 متر مكعب من الماء. ويعود إنشاؤه إلى القرن الحادي عشر.
قصر قرطبة هو أحد المعالم الأخرى الباقية، وهو مكان مثالي للتنزه عبر حدائقه وقاعاته، وتستخدم بعض غرفه لإقامة حفلات الزفاف حاليًا وطريق Sacromonte المعروف بكهوفه التي سكنها الغجر في الماضي، وكانوا جزءًا من حاشية الملوك الكاثوليكيين أثناء حرب السيطرة على غرناطة.
وحتى اليوم يسكن أحفادهم الكهوف ويعملون في حرف الخوص والحديد، ومنهم فنانون يعزفون على الجيتار ويتجولون بحرية بين السائحين ويضفون جوًا مبهجًا على مدينتهم بالغناء ورقص الفلامنكو.
بالقرب من سان نيكولاس يوجد اليوم المسجد الكبير بغرناطة، وقد تم افتتاحه عام 2003. وهو أوَّل مسجد بُني في غرناطة منذ عام 1492. وملحق به مركز الدراسات الإسلامية المليئ بالزخارف الإسلامية.
وأخيرًا فإن بعض ما يغني عن تجربة المرور هناك بين الشوارع التي تفوح منها رائحة الياسمين ويظللها شجر اللبلاب والجهنمية، تناول الشاي العطريّ مع المعجنات العربية، خاصة وأن أغلب المطاعم والمقاهي تستأثر بمشهد يميزها لأحد معالم المدينة، أو لقصر الحمراء.
من تاريخ البيازين
طوّر حكام غرناطة من بني زيري في بناء الحي فبنوا الأسوار الدفاعية حوله، وكان مقرًا لإقامة الصناع والحرفيين الذين مارسوا صناعات الحرير والأصباغ والأقمشة وصناعة الفخار، وفي نهاية القرن الخامس عشر كان في الحي 30 مسجدًا، تحول أغلبها إلى كنائس بعد عام.
وشهد الحي أحداثًا تاريخية كبرى، في العهد الإسلامي حيث عُرف بثوراته المتعددة ضد الخليفة، ثم بعد سقوط الحكم الإسلامي كانت البيازين مقرًا لثورة البشرات أو ثورة الموريسكيين التي اندلعت بين عامي 1499 و1501 حيث ثار أهلها على ملوك قشتالة بسبب تقييد حريتهم الدينية وإجبارهم على التنصُّر، انتهت الثورة بطرد المسلمين من غرناطة، وبقيت آثارهم في البيازين تلهم كتّاب الأدب حول الأندلس في تلك الفترة.
إسبانيا بالعربي.