ماذا تعرف عن آخر رؤساء الجمهورية الإسبانية؟ هذه هي تفاصيل حياته وكيف اغتيل
في حوالي الساعة 11 صباحا يوم 5 نوفمبر 1940، سار موكب جنازة مع مئات اللاجئين الجمهوريين الإسبان في شوارع بلدة مونتوبان الفرنسية الصغيرة. في المقدمة تم استدعاء الأعضاء الرئيسيين للمفوضية الدبلوماسية المكسيكية أمام نظام فيشي المتعاون، كما يدعى بشكل غير رسمي، وهو النظام السياسي الذي أنشأه الماريشال، فيليب بيتان، المتعاطف مع النازية.
تحت أعين قوات الأمن الساهرة وصل نعش مانويل أثانيا، آخر رئيس للجمهورية الإسبانية الثانية إلى المقبرة التي بقيت رفاته فيها لمدة 80 عاما وكانت مغطاة بعلم المكسيك.
كان الرئيس السابق قد توفي قبل يومين في فندق “دو ميدي” المتواضع، حيث اضطهد بشدة على يد عملاء فرانكو، وأمضى أسابيعه الأخيرة على قيد الحياة.
كيف تم دفن أحد أشهر رموز الجمهورية الإسبانية تحت لافتة مكسيكية على التراب الفرنسي؟ وما هو الدور الذي لعبته الدولة اللاتينية في تلك الأحداث؟
رئيس في المنفى
كان مانويل أثانيا قد عبر الحدود الفرنسية سيرا على الأقدام في 5 من فبرايرعام 1939 برفقة زوجته، دولوريس دي ريفاس شريف، وجزء من عائلته، بما في ذلك صهره والمتعاون المقرب منه، سيبريانو دي ريفاس شريف، وأعضاء آخرون في الحكومة الإسبانية.
كانت الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت نتيجة لانقلاب الجنرال فرانسيسكو فرانكو في 17 و18 يوليو 1936 تخوض آخر معاركها، وحين سقطت كاتالونيا اعتبر أثانيا أن إطالة المنافسة أصبح لا معنى له.
بعد بضعة أيام و في 27 فبراير عام 1939، اعترفت بريطانيا العظمى وفرنسا رسميا بحكومة فرانكو. أثانيا الذي كان رئيسا منذ انتصار الجبهة الشعبية في انتخابات عام 1936، وخلال السنوات الثلاث التي استمر فيها الصراع، قدم استقالته أخيرا.
سياسي فريد
بينما لا تزال الدولة في حالة حرب، هكذا انتهت بالفعل وفي المنفى الحياة السياسية لواحد من أكثر الشخصيات الفريدة في إسبانيا في القرن العشرين.
أنخيليس إيخيذو أستاذة التاريخ المعاصر في الجامعة الوطنية للتعليم عن بعد في إسبانيا، تسلط الضوء على جانبين أساسيين من شخصية آثانيا الذي كان قامة فكرية، ثم أنه وصل إلى السلطة عندما أصبح يافعا ولديه خلفية قانونية وتاريخية قوية حول بلده اسبانيا.
تتابع الخبيرة إيخيذو القول بأنه كان يجيد الفرنسية والإنجليزية بطلاقة وحصل على الجائزة الوطنية للآداب عام 1926، وكان أحد السياسيين القلائل الذين يمكن اعتبارهم رجال دولة، وعندما وصل إلى السلطة كان يحمل في رأسه مشروع دولة.
كثيرا ما كان يقال إن الجمهورية فشلت، لكن الجمهورية لم تفشل، لقد فازت الجمهورية في انتخابات فبراير عام 1936، وكانت هناك حكومة شرعية منتخبة بحرية وديمقراطية، وما فشل كان انقلاب 1936، ولو تكرس نجاح الجمهورية لما اندلعت الحرب الأهلية، تضيف المؤرخة إيخيذو أمينة معرض “أثانيا المثقف ورجل الدولة”، والذي سيفتتح في 17 ديسمبر في المكتبة الوطنية الإسبانية في مدريد بعد 80 عاما على وفاته في المنفى.
رحلة أثانيا العصيبة
بمجرد الخروج من إسبانيا، قام الرئيس السابق وعائلته برحلة عبر الأراضي الفرنسية استمرت أكثر من عام ونصف وكانت متزامنة مع بدء الحرب العالمية الثانية والغزو الألماني لفرنسا في ربيع عام 1940.
بعد زيارة قصيرة لبلدة صغيرة بالقرب من الحدود السويسرية، انتقل آثانيا إلى “بيلا سور مير”، على ساحل المحيط الأطلسي وعلى بعد حوالي 60 كيلومترا من مدينة بوردو.
لكن قبل تقدم الجيش الألماني أوصته السلطات الفرنسية بالانتقال إلى المنطقة غير المحتلة.
بدون وجهة محددة، يغادر الرئيس السابق وزوجته، بيلا سور مير، بواسطة سيارة إسعاف وبعد ليلتين في “بيريغو”، وصلوا في ال 25 يونيو إلى “مونتوبان” التي استقبلتهم فيها مجموعة من اللاجئين الإسبان.
وكلاء فرانكو
تقول إيخيذو إنه بدأ تدهوره الجسدي هناك، والذي كان متوازيا تقريبا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وكانت الشرطة الفرنسية والإسبانية تتعقبه باستمرار.
كان هناك شخصان مهتمان جدا بتحويله إلى نوع من غنيمة الحرب، ونقله إلى مدريد وإظهاره على أنه المذنب الذي يتحمل مسؤولية ما حدث، إنهما خوسيه فيليكس دي ليكيريكا، السفير الإسباني الذي دخل التاريخ بسبب حماسه فيما يخص ملاحقة الجمهوريين الإسبان، ورامون سيرانو سونير صهر فرانكو المتطرف.
تقول أستاذة التاريخ المعاصر إنه كانت هناك عدة محاولات لاختطاف أثانيا لكنها لم تؤت ثمارها لأنه مات في الأخير.
بعد أيام قليلة من وصوله إلى مونتوبان تلقى أثانيا نبأ الاستيلاء على بلدة “بيلا سور مير” التي أقاموا فيها واعتقال صهره سيبريانو.
تدخل المكسيك
كان وضع الرئيس السابق صعبا بدون مال ومع تدهور صحته بشكل متزايد، يؤكد جان بيير أمالريك، أستاذ التاريخ الفخري في جامعة “تولوز- جان جوريس” ورئيس جمعية “وجود مانويل آثانيا في مونتوبان”، أن العزلة والتخلي عن أثانيا حقيقة مثيرة للشفقة لكنها واضحة، والقوة الوحيدة التي ستهتم به ستكون المكسيك.
كانت المكسيك واحدة من الدول القليلة التي دعمت علنا الجمهورية الإسبانية خلال الحرب ولم تعترف أبدا بالجنرال فرانكو.
ما هو الدور الذي لعبته المكسيك في الحرب الأهلية الإسبانية؟
أفاد المؤرخ، لويس رودريغيث، أن المكسيك همّت بتقديم مساعدة بناءً على طلب الرئيس، لاثارو كارديناس، وكانت المكسيك تعتزم إحضار أثانيا وزوجته “لولا” إلى مقر إقامتهما في “فيشي” للحصول على وقت يسمح لاحقا بتهجيرهما إلى المكسيك، كما ورد في إفادة المؤرخ، ومع ذلك يقول لهم محافظ مونتوبان إنهم لا يستطيعون المغادرة، فهم محبوسون إلى الأبد.
“سفارة” مونتوبان
في ظل هذه الظروف قرر السفير المكسيكي استئجار غرف في فندق “اوتيل دو ميدي”، بجوار كاتدرائية “مونتوبان”، حيث عاش، مانويل أثانيا، منذ 15 سبتمبر.
أصبحت هذه الإقامات التي يحميها أفراد الأمن المكسيكيون من محاولات الاختطاف المحتملة، والتي دفعت ثمنها السفارة المكسيكية، أصبحت في الواقع امتدادا للتمثيل الدبلوماسي أمام نظام فيشي.
المساعدة المادية قد تكون أقل ما في الأمر بالنسبة لي، الحقيقة المهمة هي الأفعال والمواقف والطريقة التي يتم بها دعم بلد ما في مثل هذا الموقف الصعب، خاصة بسبب ما يمثله أثانيا للعالم وللإسبانيين الجمهوريون، كما يبرز، ألبرتو إنريكيث، الأستاذ بكلية العلوم السياسية والاجتماعية في الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك في حوار مع بي بي سي موندو.
يقول الأستاذ، ألبرتو إنريكيث، إنه كان للمكسيك موقف واضح ومرن للغاية تجاه الحكومة الجمهورية في عام 1936 وهو الدفاع عن الجمهورية لأنها كانت دولة ديمقراطية.
خلال الحرب ستطلب حكومة أثانيا الدعم وقد أُرسلت لها الأسلحة بالفعل، وبعدها سيكون هناك تفصيلان أو ثلاثة تفاصيل أخرى، مثل استقبال الأطفال اللاجئين الإسبان الذين استقبلوا في ميناء “بيراكروث” وفي مكسيكو سيتي و”موريليا” مع وصول آلاف المنفيين الإسبان إلى المكسيك بين عامي 1938 و1939.
آخر أيام حياته
سيقضي أثانيا آخر 50 يوما من حياته في فندق “أوتيل دو ميدي”، كانت حالته الصحية تتدهور: “أنت تراني لدي شيء في رئتي اليمنى وآخر في اليسرى، بصرى وفمي، أنا أصبحت مثل آلة الدف “زامبومبا”، يقول “أثانيا” نفسه نقلا عن المؤرخ “سانتوس خوليا” للزعيم الاشتراكي “رودولفو يوبيس” في 25 سبتمبر سنة 1940.
على الرغم من المحاولات المتكررة من قبل السفير المكسيكي رفضت السلطات الفرنسية نقل المريض ورفضت مغادرته المحتملة للبلاد.
في ليلة الـ 3 من نوفمبر كان الرئيس السابق على فراش الموت وكانت برفقته زوجته وبعض أتباعه، بالإضافة إلى أعضاء من المفوضية المكسيكية.
في اليوم التالي أرسل السفير المكسيكي رسالة إلى الرئيس كارديناس أخبره فيها أن الرئيس الإسباني السابق قد توفي، اعتمادا على مفوضية المكسيك في مونتوبان تحت غطاء العلم المكسيكي.
دفــن الرئيس أثانيا
أقيمت الجنازة التي نظمتها السفارة المكسيكية أيضا في صباح يوم 5 نوفمبر، وخوفا من أن تصبح الجنازة عملا سياسيا، منعت السلطات الفرنسية صراحة العلم الجمهوري الإسباني من تغطية نعشه.
ورد السفير المكسيكي على حاكم مونتوبان كما روى في رسالته للصحف التي حررتها “كوليخيو دي ميكسيكو” في عام 2000، أنه سيغطيها بكل فخر علم المكسيك، بالنسبة لنا سيكون هذا امتيازا وللجمهوريين أملا ودرسا مؤلما لكم.
رافق التابوت مئات الأشخاص إلى المقبرة حيث دُفن تحت شاهد قبر بسيط لم يبرز فيه سوى صليب واسم “مانويل أثانيا” 1880-1940.
في عام 2008 تمت إضافة تمثال وبعد ذلك بقليل تم إضافة بعض اللوحات التذكارية، في إحداها يمكنك أن تقرأ تذكيرا بكلمات “أثانيا” الأخيرة لمواطنيه في الحرب: “السلام والرحمة والتسامح”.
ترجمة: خطري مولود.