الاستعراب الإسباني.. قراءة التاريخ بعيون غربية أم استرجاع لزمن التعايش الحضاري الأندلسي؟
اخبار اسبانيا بالعربي/ تَشكل مصطلح “الاستعراب” نتيجة التعايش بين العرب والأمم الأخرى على مدار التاريخ، وذلك في ظل الحكم العربي الإسلامي الذي مثل حاضنة لمختلف المكونات الاجتماعية والتيارات الفكرية خلال حقب تاريخية ماضية، حيث أصبح اصطلاحا، ومدرسة، وعلما في تقصي ودراسة علوم اللغة العربية، وأصبح منهجا لدى فئة من الباحثين في الغرب الذين يؤمنون بالتعايش بين الأمم والحوار بين الحضارات.
وقد التقى التاريخ الإسباني بالتاريخ العربي على مدى 8 قرون فيما يعرف بتاريخ الأندلس، وحاولت الجزيرة نت معرفة واقع الاستعراب الإسباني واستطلعت آراء بعض المستعربين الإسبان لاستكشاف تلك التجربة الفريدة من التثاقف في شبه الجزيرة الإيبيرية.
من انغلاق القرون الوسطى إلى النهضة والحداثة
شهدت إسبانيا والبرتغال أطول وجود عربي إسلامي على أراضيهما (711-1495م)، وقد شكل ذلك تأثيرا هائلا على المستويات الثقافية والسياسية والاجتماعية، وكانت الدراسات العربية بدأت في إسبانيا متأخرة -نوعا ما- عن مثيلاتها في الدول الأوروبية.
وتجدر الإشارة إلى أن الاستعراب ظهر إبان ازدهار الحضارة العربية في الأندلس، في الفترة (1100-1500م) مما عرف بعصر الاستعراب الأوروبي؛ حيث أقبل كثير من الأوروبيين على تعلم اللغة العربية وآدابها، ويقول المستعرب والأكاديمي خوسيه ميغيل بويرتا -أستاذ مادة تاريخ الفن في جامعة غرناطة- “في إسبانيا نطبق مفهوم الاستعراب على الدراسات التي أنجزت على الثقافة العربية والأندلسية بعد سقوط الأندلس، والتي بدأت في منتصف القرن الـ18 الميلادي على يد العالم اللبناني القسيس الماروني المقيم بمدريد ميخائيل الغزيري (1710-1791م)، ومجموعة من العلماء الإسبان”.
في حين يعتقد المستعرب الإسباني بيدرو مارتينيث (1933م) “أن إسبانيا ما كان لها أن تدخل التاريخ الحضاري لولا القرون الثمانية التي عاشتها في ظل الإسلام، وكانت باعثة النور والثقافة إلى الأقطار الأوروبية المجاورة المتخبطة آنذاك في ظلمة الجهل والأمية والتخلف”. ويعلق أغناطيوس فيراندو فروتوس -المستعرب الإسباني والأكاديمي بجامعة قادس- قائلا “كانت أوروبا منغلقة ومتخلفة نوعا ما، لا تقبل ما يأتي من الخارج إلا بصعوبة كبيرة. وعندما وصل الإسلام إلى أوروبا انتشرت فكرة التسامح والتعايش بين الأديان والثقافات”.
روافد عربية إسلامية
وعن إسهامات العرب والمسلمين في الأندلس، يرى المستعرب ميغيل بويرتا -في حديثه للجزيرة نت- “أن الإسلام أحدث تغييرا مهما في انتقال أوروبا من انغلاق القرون الوسطى إلى النهضة والحداثة”.
في حين، يقول المستعرب والأكاديمي أغناطيوس غوتيريث -أستاذ اللغة والأدب العربيين والتاريخ المعاصر في العالم الإسلامي بجامعة أوتونوما في مدريد- لقد “مثّل وصول الحضارة العربية الإسلامية إلى جنوب أوروبا هواء منعشا لثقافة كانت راكدة لا تؤتي جديدا تعيش في غياهب التحجر وعدم النمو الفكري”.
ويستدرك غوتيريث -أثناء حديثه للجزيرة نت- “إلا أن المؤرخين، وعددا من المستشرقين أنفسهم، لم يقروا بهذا الفضل لأسباب أيديولوجية معروفة، أو لأنهم أهملوا بكل بساطة الروافد العربية الإسلامية ودورها التأسيسي في ولادة حركة النهضة الأوروبية واتساعها”.
يذكر إن المدرسة “الاستعرابية” الإسبانية اهتمت بالثقافة العربية الإسلامية عموما. ويقول المستعرب أغناطيوس فيراندو فروتوس في -حديثه للجزيرة نت- لقد “تمكنت المدرسة الاستعرابية الإسبانية من التعمق في المؤلفات العلمية الأندلسية (علم الفلك والرياضيات على سبيل المثال) وإبراز أهميتها في نقل المعرفة من الشرق إلى الغرب”.
ويضيف فيراندو أن المستعربين اهتموا “بالشعر الأندلسي، ولولا بعض المستعربين الذين انكبوا على دراسة ديوان ابن قزمان القرطبي لما تسنى للجمهور المثقف الإسباني والغربي قراءة وتذوق أزجال هذا الشاعر الأندلسي العبقري”.
ويلفت المستعرب ميغيل بويرتا إلى أن “من بين إسهامات الاستعراب الإسباني دراسات آسين بلاثيوس التي ربط فيها التصوف الإسباني والتصوف الإسلامي، وتأثير رسالة الغفران للمعري ورسالة التوابع والزوابع لابن شهيد في “الكوميديا الإلهية” لدانتي أليغييري”.
ويبين المستعرب أغناطيوس غوتيريث أن المجتمعات الأوروبية تعودت “على التعامل معها (اللغة العربية) من منطلقات فكرية تبسيطية سطحية، وهي عقلية تؤدي في كثير من الأحيان إلى التقليل من شأنها والترويج لأفكار مسبقة لا أساس لها من الصحة”.
ويجيب المستعرب والأكاديمي خوسيه ميغيل بويرتا -في حديث للجزيرة نت- عن مدى تأثير المستعربين الإسبان على المفكرين الأوروبيين، وهل أصبحت إسبانيا مصدرا للإلهام في حقبة الاستعراب لدى معظم المفكرين الأوروبيين؟ فيقول “يمكن العودة إلى مستهل النهضة الأوروبية في القرن الـ15 الميلادي حين اعتمد المفكرون الأوروبيون على أعمال الفلاسفة والعلماء العرب والأندلسيين، كابن باجة وابن رشد وابن زهر، وابن طفيل لتطوير نظرياتهم في النفس والإدراك الحسي وعلم الجمال”.
انحيازات المستعربين
تعد المرحلة الثانية بالنسبة لحركة الاستعراب هي المهمة في تاريخ الاستعراب الإسباني وذلك لجهة ظهور حركة استعرابية معتدلة تجاه التراث العربي والإسلامي.
يشرح المستعرب أغناطيوس غوتيريث قائلا “شهد الاستعراب الإسباني عددا من المراحل ليس مرحلتين فقط، غير أن رجال الدين المسيحيين كانوا المهيمنين على أغلبيتها؛ ومرد ذلك يعود إلى سيطرة اللاهوتيين على مجريات الثقافة والعلم والتدريس في قرون مضت”.
وأضاف “غير أن هذه الظاهرة بدأت بالتغير أثناء المرحلة التي بدأت تتبلور في الربع الثاني من القرن الماضي وأدت إلى “علمنة” الاستعراب الإسباني والانصراف إلى مواضيع علمية بحتة غير ملونة بأمور فكرية أو سياسية”.
بينما يؤكد البروفيسور أغناطيوس فيراندو “أن بعض المستعربين في بعض مراحل الحركة الاستعرابية كانت متركزة على معرفة “الآخر” بصفته عدوا غازيا من أجل مكافحته والقضاء على آثاره الثقافية والفكرية والدينية في شبه الجزيرة الإيبيرية”.
جذور تاريخية
ويرى الكثير من الباحثين أن المستشرقين الإسبان -منذ أيام بيدرو ألفونسو بالقرن الـ15- كانوا سباقين في التعاطي مع الموضوع العربي الإسلامي بإنصاف، وذلك ميزهم عن زملائهم الأوروبيين. ففي حقل دراسات اللغة العربية تبرز شخصية المستعرب الإسباني فيديريكو كورينتي (1940-2020م)، وهو من المرجعيات المهمة للاستعراب الإسباني المعاصر.
ويوضح المستعرب أغناطيوس غوتيريث أنه “بعد النصف الثاني من القرن الـ20 اتجهت الحركة الاستعرابية نحو مواقف أكثر إنصافا وحيادية بشأن الإسلاميات، وانصرفت إلى دراسات علمية محضة مجردة من أغراض مسيسة كما كان الحال مع الاستشراق الأوروبي المؤيد للنزعة الاستعمارية في غضون القرن الـ19 الميلادي”.
ويتابع “وإن كان الاستعراب الإسباني قد ركب الموجة الاستعمارية خلال تلك الفترة إلا أنه لم يتسم بالتحيز الأيديولوجي الذي تميز به جزء من مؤسسة الاستشراق الأوروبي”.
بين التطرف والاعتدال
وردت بعض الأسماء للمستعربين الإسبان ضمن مجموعات متطرفة، بالمقابل كان هناك مستعربون موضوعيون في تعاملهم مع القضايا العربية الإسلامية والظواهر الأدبية الأندلسية، وبصدد ذلك تقول البروفيسورة كارمن رويث برافو -من جامعة مدريد المستقلة- “كان هناك استعراب إسباني موضوعي، حيث كان هناك مستعربون يدرسون التراث العربي الإسلامي في إطار أخلاقي فهم يحترمون الآخرين، وفي إطار معرفي علمي فهم يبحثون عن الموضوعية والواقعية، كما يوجد أشخاص آخرون يشتغلون في مجال الاستعراب لأغراض مضادة فوقية وعنصرية”.
وعلى الرغم أن الكنيسة والدولة عمدتا على طمس كل ما له علاقة بالتراث الإسلامي، فإن ذلك لم يمنع عددا من المفكرين الإسبان المتنورين من تعلم اللغة العربية والاطلاع على الحضارة الإسلامية في المدارس الإسبانية. وبدوره، يؤكد المستشرق الإسباني سانتيث أبرنت أن الإسلام لعب دورا أساسيا في تاريخ إسبانيا وتشكل ثقافتها، بل كانت إسبانيا جسرا تعبر منه العلوم والمعارف من الشرق الإسلامي إلى الغرب الأوروبي ليعيد صياغته ويحوله لمبادئ علمية.
ويرى البروفيسور أغناطيوس فيراندو “أن التيار الاستعرابي الثاني أنتج ولا يزال ينتج دراسات وبحوث أوضح وأدق من الحركة الاستعرابية الأولى التي رأت في الإسلام واللغة العربية مجرد أداة استخدمها الإسبان للتعبير عن ثقافتهم الإسبانية الأصيلة”.
ومن جهته، استعرض البروفيسور بويرتا أبرز الأسماء التي أسهمت بحركة الاستعراب الإسبانية قائلا “إن الاستعراب الإسباني نشأ تحت رعاية الأكاديمية الملكية للتاريخ والأكاديمية الملكية للفنون الجميلة اللتين أُسستا في منتصف القرن الـ18 الميلادي، لكن لا بد أن نذكر أن آثار الإسلام تتجلى في تاريخ الأدب الإسباني منذ القرن الـ16، بالنسبة لأهم الأدباء الإسبان أمثال ثرفناتس والمتصوفة القديسة سانت تيريسا والقديس خوان ديلا كروث، وسواهم”.
ويتابع “للاستعراب الإسباني وجهان مختلفان، أولهما ينظر إلى الماضي الأندلسي بوصفه جزءا لا يتجزأ من التاريخ الإسباني، وكمكون من مكونات الهوية الإسبانية، وثانيهما يرى الماضي الأندلسي عنصرا أجنبيا ومحتلا أبعد إسبانيا عن أصولها الأوروبية وأثر سلبا في تخلف إسبانيا في محيطها الأوروبي”.
مفهوم متجدد للاستعراب
استمرت موجات الاستعراب الإسباني حتى بعد سقوط الأندلس وقيام عمليات التطهير العرقي والمعرفي ضد العرب والمسلمين، عن طريق محاكم و دواوين التفتيش في إسبانيا.
حيث تباينت الرؤى حول ما قدمه المستعربون الإسبان حيال الثقافة العربية عموما. وحول ذلك يؤكد البروفيسور أغناطيوس فيراندو أنه “بصفة عامة نعم، أنا راض عن الاستعراب الإسباني لما ألاحظ فيه من عمل دؤوب واهتمام بالثقافة العربية، وفي السنوات الأخيرة ازداد عدد المستعربين بشكل لافت”.
واستدرك فيراندو قائلا “غير أنني على وعي تام بمشكلة كبيرة تعرقل تقدم حركة الاستعراب في إسبانيا رغم إنجازاتها الكبيرة، وهو ما يمكننا تسميته بالابتعاد عن العنصر اللغوي العربي، والاعتماد على مصادر ومراجع مكتوبة بالإسبانية أو بلغات أوروبية أخرى مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية”.
ولكن للمستعرب ميغيل بويرتا رأي آخر، حيث يقول “أنا راض بشكل عام عن الاستعراب الإسباني في وقتنا الراهن لأن هناك بعض الأجيال من المستعربين نشطين في مجالات متنوعة للدراسات العربية والأندلسية والإسلامية في الجامعات وفي معاهد البحث”. ويتابع “وحتى حركة الترجمة من العربية إلى الاسبانية مستمرة على الرغم من أن دور النشر الكبيرة لا تزال متحفظة حيال الإنتاج الأدبي العربي الحديث الرائع”.
ويضيف -للجزيرة نت- “أظن أن ما ينقص الاستعراب الإسباني الحالي هو تأمين مشاريع موحدة ومدعومة من قبل السلطات الأكاديمية والتنسيق مع الأوساط الأكاديمية والثقافية للبلاد العربية، وتوسعة قاعدة الشباب الناطقين بلغة الضاد التي كانت لغة أرضهم طوال 8 قرون وهي الآن لغة حية ومهمة في العالم”.
ويقول بعض الباحثين إن مدرسة الاستعراب الإسبانية لها دورها في الحفاظ على الثروة الهائلة التي قدمها العرب في الأندلس خلال 8 قرون وهي فترة الحكم العربي لإسبانيا.
في المقابل، يبدي البروفيسور أغناطيوس غوتيريث معارضته قائلا “كلا، أظن -بحكم اختصاصنا- أننا لم نقم بالواجب فيما يتعلق بتثبيت صورة موضوعية للحضارة الإسلامية العربية ومحاربة الأكاذيب والصور النمطية المشوهة المذاعة عنها، وحتى في مضمار الدراسات الأندلسية وهو المضمار الذي كنا نعتقد أنه “حكر علينا”.
ويتابع “كان لزاما علينا أن نمضي قدما في عملية نبش المخطوطات ونقلها وإفراد الدراسات المعمقة لمراجع استثنائية؛ مما يعيننا في فهم الطبيعة الأندلسية”.
ويستغرب غوتيريث -في حديثه للجزيرة نت- قائلا “نجد أنفسنا غائبين عن الخطاب الإعلامي والمعلوماتي الراهن، ولا نشارك في الحوارات والمناقشات والهموم الاجتماعية “الساخنة” لانكبابنا على دراساتنا النخبوية الضيقة أو مشاغلنا الجامعية المحدودة الأفق”.
ويضيف “يفرض علينا روح العصر الجديد اتخاذ مواقف أكثر جرأة واندفاعا والتزاما لكي نفسح المجال لمفهوم متجدد للاستعراب”. وبدورها، تشدد البروفيسورة كارمن رويث برافو -في حديثها للجزيرة نت- على ما قاله البروفيسور بيدرو مارتينيث مونتابيث عن الأندلس -في كتابه “الأندلس.. الدلالة والرمزية”- “أن الأندلس انتهت كواقع تاريخي، صحيح، ثم تحولت إلى رمز لا بد أن يتأمل فيه العرب والإسبان معا”.
المصدر: الجزيرة/ موقع إسبانيا بالعربي.