“ثلاثية الحرب” كما صورها مؤسس الواقعية الإيطالية روبرتو روسليني
اخبار اسبانيا بالعربي/ هي ثلاثة أفلام حققها مخرج واحد خلال السنوات القليلة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية. للوهلة الأولى لا يمكن إيجاد ما يبرر اعتبار تلك الأفلام “ثلاثية سينمائية” باستثناء التتابع الزمني لتحقيقها وكونها تتحدث عن الحرب التي عصفت آخر ما عصفت بالبلدين اللذين صورت الأفلام فيهما: إيطاليا وألمانيا. أي تحديداً البلدان اللذان انتهى الأمر بإلحاق الهزيمة بهما على يد الحلفاء. وكان مخرج الفيلمين روبرتو روسليني الذي لا شك في أن عمله عبر تلك “الثلاثية” كان يكفي وحده لاعتباره المؤسس الحقيقي للتيار السينمائي الذي سيسمى بعد حين بـ “الواقعية الجديدة الإيطالية”، حتى وإن رأى كثر أن مواطنه لوكينو فيسكونتي قد شاركه ذلك التأسيس بفيلمين يمكن المساجلة طويلاً حول انتمائهما إلى التيار نفسه، “الأرض تهتز” و”وسواس”. غير أن هذا ليس موضوعنا هنا.
حروب ما بحد الحرب
موضوعنا هو أفلام “الحرب” الثلاثة التي كانت من الأعمال الأولى التي عبّرت عن تدخل السينما الأوروبية في النظر إلى الحرب ومرحلة ما بعد الحرب بصرف النظر عن التصنيفات والتسميات.
ولعل روسليني نفسه لم يكن راغباً في أن تعتبر أفلامه تلك بداية لتيار. كل ما في الأمر أنه سارع ممتشقاً كاميراه ملاحقاً حدسه الإبداعي ورغبته في التعبير عما سيتطلع كثر إلى التعبير عنه من بعده انطلاقاً من سؤال كان يشغل فكره: كيف يعيش الإيطاليون والألمان حقبة ما بعد الهزيمة بالارتباط بما عاشوه خلال الحرب؟. وهو من أجل الوصول إلى جواب، مرتين بالنسبة إلى إيطاليا، في “روما مدينة مفتوحة” و”باييزا” ومرة بالنسبة إلى ألمانيا في “ألمانيا العام صفر”، كان يعرف جيداً أنه ليس في حاجة لا إلى ممثلين نجوم ولا إلى ديكورات ولا إلى خدع سينمائية ولا إلى رسم علاقات “ميلودرامية”. كل ما كان في حاجة إليه كان أن يضع كاميراه في مكان مناسب ولحظة مناسبة ليصور الحياة كما هي، حتى وإن كان سيتدخل في الصورة التي سوف يسبغها على تلك الحياة، وهذا التدخل هو طبعاً ما منع أفلامه من أن تكون وثائقية لتنطبع بنوع شديد الخصوصية مبكراً في الدنو منها في ذلك الحين، من “سينما روائية” تكاد لا تكون روائية لفرط صدق تعبيرها عن الواقع.
دَين لفرنسا ودَين عليها
ومما لا شك فيه أن روسليني كان يحذو في ذلك الأسلوب حذو نوع من واقعية كان ساد السينما الفرنسية قبيل الحرب العالمية الثانية أيام حكم الجبهة الشعبية اليسارية على يد مخرجين من أمثال جان رينوار ورينيه كلير اجتذبهم الواقع فصوروه، غير أن الواقع الإيطالي ثم الألماني الذي اجتذب روسليني في إيطاليا وألمانيا كان أكثر التصاقاً بالتاريخ كما ينبني، وبالتالي أقل حاجة لما يمكن أن يضيفه الفن إلى التاريخ. وهكذا ولد الأسلوب الذي سيعتبر روسليني مسؤولاً عن ولادته ويسم السينما الإيطالية لسنوات طويلة، حتى وإن كان أقطابه قد راحوا يتخلون عنه واحداً بعد الآخر ليشق كل منهم طريقاً خاصاً به، لكن تلك حكاية أخرى… تبتعد إلى حد ما عن تلك “الثلاثية” المؤسسة.
بدايات في خضمّ الحرب
وهي مؤسسة حتى بالنسبة إلى روسليني على الرغم من أن هذا الأخير كان قد بدأ عمله السينمائي منذ العام 1941 وأيضاً بفيلم حربي روائي طويل هو “السفينة البيضاء” الذي أتبعه خلال نصف دزينة من السنين بأفلام مشابهة تمحورت في معظمها حول الحرب لكنها لم تحمل تجديداً، فالتجديد كان من نصيب “روما مدينة مفتوحة” الذي حققه روسليني في روما عام 1945 عن حكاية تدور من حول قوات “الغستابو” وبحثها عن مناضل أتعب القوات الألمانية بقيادته عمليات نضالية عبر تزعمه لجنة التحرير الوطني. ويتناول الفيلم الحكاية التي وقعت في روما حقاً ليصور من خلالها ردود فعل المجتمع الإيطالي تجاه الاحتلال الألماني ومساعي التحرير من موقع فرز طبقي وسياسي واضح، وهو نفسه ما سيفعله في فيلمه التالي “باييزا” الذي لا يدور من حول حكاية واحدة بل يتجول بين سلسلة من الحكايات الاجتماعية وأماكن حدوثها، ليصور هذه المرة ليس مجتمع روما بل زوايا عدة من المجتمع الإيطالي في تعاطيه مع إنهاء الحرب ووصول الحلفاء الأميركيين بخاصة إلى إيطاليا، ومطاردتهم فلول الألمان المنسحبين جنوباً مروراً بالفعل الذي يبديه الإيطاليون أنفسهم في تأرجحهم بين كراهيتهم للألمان وحذرهم من الأميركيين. وهنا مرة أخرى كما في “روما مدينة مفتوحة” ليس ثمة بطولات فردية ولا مواقف مطلقة، بل هناك تلك الجدلية الطبيعية والبطولات الجمعية والتأرجح المحيّر بين ما حدث ويحدث وسيحدث. وفي برلين أيضاً
وهو ما يوصل الفيلم إلى ألمانيا في ثالث أفلام “الثلاثية”، حيث يصور لنا المخرج في برلين العام 1945 أي مباشرة بعد انتهاء الحرب وهزيمة النازيين أجواء المجتمع الألماني الذي سنشعر به بدوره متأرجحاً بين هزيمة ربما تكون قد أراحته، ومشاعر وطنية تتضافر مع انهيارات اجتماعية واقتصادية وعائلية، وهكذا مرة أخرى لا يهتم السينمائي بتصوير القتال ولا بالطبع بتصوير الأفكار المعلبة، بل بتصوير الناس كما هم في حقيقتهم، في فرديتهم، في المأساة التي تخلفها الحروب لديهم بصرف النظر عن الدوافع السياسية والأطر الاستراتيجية الكبيرة. ما يهم روسليني هنا هو الناس، إلى أية فئة أو وطن أو طائفة انتموا، وحتى خارج أطر تفضيلاتهم الخاصة. ولعلنا نبقى هنا ضمن إطار موضوعنا إذ نذكر أن هذا الاهتمام الإنساني هو العنصر الأساس الذي يدفعنا إلى النظر لهذه الأفلام الثلاثة باعتبارها تشكل “ثلاثية متكاملة” وإلى مواضيعها باعتبارها تعبر عن الحرب حتى ولو أن أحداث الجزء الأكبر منها يتجاوز الحرب إلى ما بعدها.
النهاية المجيدة
في صيف العام 1977، وبعد مسيرة سينمائية حافلة واصل روبرتو روسليني خلالها سبر إمكانات السينما ومن ثم إمكانات التلفزة في ارتباطهما بالإنسان وموقعه في التاريخ وفرديته، فقدت السينما الإيطالية بموته واحداً من كبار الذين صنعوا لها مجدها خلال النصف الثاني من القرن الـ 20. كان ذلك في الزمن الذي راحت فيه السينما الإيطالية تفقد كبارها واحداً بعد الآخر. صحيح أن فدريكو فلليني عاش عقداً ونصف العقد بعد ذلك، وأن انطونيوني ظل حياً حتى العام 2007، بل حقق وهو أبكم أصم، قبل رحيله مباشرة، فيلماً أخيراً أعاد إلى سمعته بعض رونقها، ولكن فيسكونتي مات أواسط السبعينيات وكذلك دي سيكا وايليو بيتري وراحت السبحة تكر، حتى كان رحيل روبرتو روسليني. ولئن كان جمهور السينما العريض قد عرف هذا الأخير كواحد من أزواج فاتنة السينما انغريد برغمان، فإن هواة السينما ومثقفيها ونقادها عرفوه بكونه الرجل الذي لم يكف، منذ بداياته عن اختراع السينما وإعادة تأسيسها.
. المصدر: انديندنت عربية / إسبانية بالعربي