بعيدا عن البلدان المغاربية.. هذه هي مناطق هجرة واستقرار الأندلسيين والموريسكيين
“…ليس كلّ الأندلسيين والموريسكيين استقروا في البلدان المغاربية، كما يشيع الاعتقاد، ولو أن غالبيتهم اختارت هذه المنطقة للقرابة الجغرافية والثقافية الروحية، وأيضا للأواصر العائلية والروابط القبلية العرقية.
لقد ذهب بعضهم إلى أبعد من هذه الحدود، إلى أعماق الصحراء الكبرى حيث استقروا في حاضرتيْ تُمْبُوكْتُو وغَاوْ وغيرِها من حواضر بلاد السُّودان، كما كانت تُسمى آنذاك دول جنوب الصحراء، التي ما زالت المخطوطات التي تزخر بها زواياها وأضرحتها تشهد على حضور قوي، ثقافي واقتصادي وسياسي، للأندلسيين في المنطقة حيث امتد إشعاعُهم إلى دُوَل الجوار في غرب إفريقيا. وتُعْتَبَرُ إثنيةُ “الآزما” في مالي بالدرجة الأولى من نَسَلِ الأندلسيين الذين حَطَّتْ طلائعُهم الرِّحال في المنطقة خلال حمْلة سلطان المغرب المنصور الذهبي على تمبوكتو عام 1591م بقيادة جُؤْذَرْ الأندلسي.
واختار البعض الآخر من ذلك الرَّعيل الأندلسي المغامرةَ إلى أبْعد من حدود الخيال في تلك الفترة ليحطوا الرحال في أقاصي الجنوب الإفريقي حسب الخبير الإسباني في التاريخ الأندلسي/الموريسكي مِيكِيلْ دِي إِيبَالْثَا.
ولِشدة ما عانته من اضطهاد ديني وثقافي في أندلسها المفقودة على يد محاكم التفتيش ورهبانها، اختارت أفواجٌ أندلسية/موريسكية أكثر أهمية من حيث العدد التوجهَ شرقًا، لا سيّما إلى أرض الحجاز، لمجاورة أرض الإسلام الأولى بالنسبة للذين كان قلبهم يعتصر شوقا للعيش حياة إسلامية حُرِمُوا منها في وطنهم بعد سقوط غرناطة، إذْ اعتقدوا أن الحجاز كانت بقعة مقدَّسة مِثالية نقيَّة وخالصَة لِقُرْبِهَا من الحرَميْن الشريفيْن ومن قبْر الرَّسول (ص). وكأنها رغبة جامحة في الإسراع في تطهير النفس والجسد من التعميد الإجباري والممارسة بالإكراه للطقوس والتعاليم المسيحية الكاثوليكية.
في المقابل، كانت دوافع آخرين في الرحيل إلى المشرق معيشيةً بحتة بعدما أخافتهم الاضطرابات السياسية على مستقبلهم وخذلتهم المجاعات والتناحر بين دويلات وقبائل المنطقة المغاربية في سياق تداعيات سقوط غرناطة.
في المشرق، ومثلما فعلوا في المنطقة المغاربية، عَمَّر الأندلسيون والموريسكيون، مدنا وبلدات وأسسوا أخرى، وأحيوا الأراضي الموات وأبدعوا في الصنائع والحِرَف وحرَّكوا دواليبَ التجارة العابرة للصحاري والبحار. فربحتْ البلدان، التي احتضنتهم وتقاسمتْ معهم رزقَها، بتبنِّيهم ما خسرتْهُ إسبانيا الكاثوليكية المتعصِّبة بعد رحيلهم الاضطراري والقسري بالنفي والإبعاد.
الوثائق التاريخية، الأرشيف والمخطوطات، إضافة إلى مؤلفات الرحالة، تشهد على وجودهم في بنغازي ومصراتة وطرابلس الغرب، وفي القاهرة وبكثافة أكبر في الإسكندرية، وفي الحجاز في جزيرة العرب، وصنعاء وعدن، وفي البصرة وبغداد، وفي دمشق وحلب وبيروت وطرابلس الشرق وبيت المقدس، خصوصا في حارة المغاربة التي هدّمها المحتلون الصهاينة عام 1967م لتوسيع ساحة حائط المبكى، وأيضا في إسطنبول في حَيِّ “غَالاَتَا” وفي مختلف بلدات القلب النابض للإمبراطورية العثمانية الذي حوَّلتْهُ خُطَطُ “سايْكْسْ – بِيكُو – سِيزَانُوفْ” إلى ما يُعرَف اليوم بدولة تركيا، لتصل طلائعُهم حتى دول البلقان بل حتى الهند وباكستان في سياق رحلاتهم التجارية.
كما تقاذفتهم أمواج قدرهم البائس بعد السقوط والطرد الجماعي إلى حواضر جنوب فرنسا تحت رعاية الملك هنري الرابع حليف آل عثمان حيث تنقلوا بين مدن مُنْبُولْيِيه (Montpelier) وآغْدْ (Agde) ومَرْسِيلْيَا (Marseille) ووصلوا حتى العاصمة الفرنسية الحالية باريس حتى قَدَّر البعضُ عددَ الذين استقروا منهم بشكل دائم في فرنسا بـ: 40 ألفَ موريسكي، فيما ألقتْ عواصفُ فاجعةِ الانهيار ببعض هذا الشتات الأندلسي/الموريسكي في هولندا والبندقية وصقلية وعددٍ من مقاطعات ما يُعرَف اليوم بـ: إيطاليا.
وقبلهم بقرون، ذهبتْ مجموعات أندلسية لأسباب سياسية داخلية حتى جزيرة كْريتْ، شرق البحر المتوسط، وسَكَنَتْهَا وأقامتْ فيها دُوَيْلَةً صغيرة لفترة طويلة دامت من حوالي 824م إلى 961م عندما سقطت بيد البيزنطيين. ومنهم مَن أوْصَلَهُ قضاؤُه وقدرُه، أو أوْصل ذريتَه على الأقل، إلى البلاط البريطاني في لندن كبعض أفراد عائلة المعتمد بن عبَاد في إشبيلية…
أما الذين يعتقدون أن إسبانيا والبرتغال قد أَفرغتْهُما من المُسلمِين أحداثُ انهيار الحُكم الإٍسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية فَهُم واهمون، لأن الأرشيف الإسباني والبرتغالي وحتى أسماء العائلات في هذيْن البلديْن تؤكد العكس بل تثبتُ أن عددا كبيرا من مُسلمي شبه الجزيرة الإيبيرية تمكنوا من البقاء في وطنهم ولو في ظروف شديدة التعقيد…
وقد أدى الانفتاح الذي جاءت به مرحلة ما بعد وفاة الجنرال فرانكو في إسبانيا في منتصف سبعينيات القرن 20م إلى عودة المكبوت إلى سطح الحياة العامة في البلاد حيث برزت بعد نحو 5 قرون من سقوط غرناطة أعداد كبيرة من الأُسَر الأندلسية فجأةً لِتُعلِن على الملأ انتماءها لمُسلمي الأندلس”الموريسكيِّين” وتقول إن الاضطهاد اضطر أجيالا كاملة عبْر القرون الماضية إلى إخفاء انتمائها الثقافي الروحي الحقيقي.
ولا يبدو أن من باب الصُّدف أن تكون نسبة هامة من الأسماء العائلية الإسبانية اليوم عربيةَ اللسان سواء اعتَبَرتْ هذه العائلاتُ نفسَها من أحفاد مسلمي الجزيرة الإيبيرية المضطهدين أَوْ لاَ دون أن يعني ذلك أن أحفاد مسلمي الأندلس في هذه البلاد يحملون جميعهم بالضرورة أسماء أو ألقابا عربية، لأن الغالبية القصوى منهم أُجبِرتْ على تغيير أسمائها واتخاذ أخرى إسبانية نصرانية تحت طائل التهديد بالطرد أو بالقتل أو الحرق.
وقد ظل آخرون رغم عدم تأكدهم من هوية جذورهم إن كانت عربية – أندلسية أو غير ذلك يتباهون أمام العالم بالدماء العربية التي افترضوا أنها تسري في عروقهم لانحدارهم من إقليم الأندلس الحالي جنوب إسبانيا الذي كان آخر معاقل المسلمين في الجزيرة الإيبيرية. ومن بين هؤلاء الإسبان نَذكُر الفنانيْن التشكيلييْن العالمييْن بَابْلُو بِيكَاسُو وسَلْفَادُورْ دَالِي، والشاعر لُوِيسْ آرَاغُونْ، وأيضا السِّياسي القومي بَالاَشْ إِينْفَانْتِي الذي قُتِل بدايةَ القرن 20م بسبب نضاله من أجل الاعتراف بالهوية الأندلسية الجنوبية المختلِفة، برأيه، عن الهوية الإسبانية ولارتباطاته العميقة بمُسْلِمِي شمال إفريقيا والمملكة المغربية بشكل خاص على غرار بطل ثورة الرِّيف عبد الكريم الخطّابي…”….
المصدر: فوزي سعد الله: الشتات الأندلسي في الجزائر والعالم. دار قرطبة. الجزائر 2016م.
موقع إسبانيا بالعربي