بعيدًا عن مبالغات الدراما.. هذه هي السيرة الحقيقية للبطل التاريخي التركي “أرطغرل”
إسبانيا بالعربي / “كامل الأوصاف” هذا هو ملخص صورة أرطغرل بن سليمان شاه، كما قدّمته المواسم المتتابعة من المسلسل ذائع الصيت في تركيا والعالم العربي “قيامة أرطغرل”، فعبر مئات الحلقات بالغة الطول، وبإخراجٍ فنيّ رضي عنه غالبية الجمهور العربي والتركي، وفي أجواءٍ ذابت فيها تمامًا الحدود الفاصلة بين الحقيقة التاريخية والأسطورة والبناءات الدرامية والإسقاطات الفكرية والسياسية على الحاضر، أحاطت هالات المجد والشهرة بشخصية أرطغرل، مؤسس البذرة الأولى التي أنبتت واحدة من أضخم الإمبراطوريات في التاريخ الإنساني، والتي انتسبت لابنه عثمان غازي بن أرطغرل، وأثَّرت بشكلٍ بالغ في مسرح الأحداث العالمي لأكثر من خمسة قرون.
- شخصيات تاريخية: من هو المنصور بن أبي عامر الملقب بالحاجب المنصور؟
- خير الدين بربروس.. القائد العثماني الذي أنقذ مسلمي الأندلس وفرنسا
- الرايس حميدو: قصة أميرال جزائري أسست أمريكا سلاح «المارينز» لمحاربته
لم يكن غريبًا أن تحظى الشخصية التي قدَّمها المسلسل بكل تلك الشعبية لدى جمهور العرب والمسلمين، الفارِّين في معظمهم إلى الماضي، يحاولون تعويض العجز الشديد في حاضرهم في معاني البسالة والفخر والكرامة. لكن هل كانت صورة القائد التركي المسلم أرطغرل، والذي عاش قبل ثمانية قرون، مثل تلك الصورة الفريدة التي قدَّمها المسلسل، أم كان للتاريخ روايات أخرى؟
الأتراك.. الهجرة إلى العروش
شهد الربع الأول من القرن الثالث الهجري، نقطة فاصلة في تاريخ العنصر التركي في البلاد الإسلامية. فقد استقدم الخليفة المعتصم العباسي مئات الفرسان الأتراك من أرجاء آسيا، وذلك ليكونوا عماد جيشه، وأسكنهم في عاصمة دولته الجديدة «سرَّ من رأى» والتي تصحَّف اسمها مع الوقت حتى أصبحت سامرَّاء. في العصور اللاحقة للمعتصم، ومع الضعف الشديد لمن تلاه من الخلفاء، تفاقم نفوذ العسكر الأتراك، وهيمنوا على مقدرات الخلافة، وأصبح بمقدورهم عزل وقتل وسمل عين من شاءوا من الخلفاء، وتعيين من يخدم مصالحهم.
استمرت الهيمنة التركية على بغداد قرنًا من الزمان، حتى استُبدلَت بسيطرة بني بويه، وهم من الديلم، في القرن الرابع الهجري، والنصف الأول من القرن الخامس الهجري، والذين استحدثوا منصب السلطان، المنفرد بالصلاحيات، بينما تركوا للخليفة العباسي الاسم دون الرسم. عاد الأتراك للهيمنة على بغداد، في صورة الأتراك السلاجقة، بقيادة طغرل بك السلجوقي عام 447 هـ. وتعود أصول السلاجقة إلى أواسط آسيا، وجنوب روسيا، حيث الخزان الرئيسي للعنصر التركي. وكانوا بالأساس قبائل بدوية محاربة، تعيش على الرعي، ولذا فهي في هجرة مستمرة نحو المناطق الأكثر خصبًا ودفئًا.
لكن ما لبث وجودهم في التبلور منذ منتصف القرن العاشر الهجري على الساحة السياسية في آسيا الإسلامية، وفي القرن التالي، بدأت دولة السلاجقة في التشكل والتمدد، حتى خضع لسلطانها بلاد فارس والعراق والشام، وأصبحت تهيمن سياسيًا على الخلافة العباسية في بغداد. عام 463هـ (1071م)، نجح السلاجقة بقيادة السلطان ألب أرسلان، في إيقاع هزيمة ساحقة بالبيزنطيين في موقعة ملاذكرد، وأسر القيصر البيزنطي أرمانوس الرابع.
فتح هذا الانتصار الأبواب على مصراعيها أمام تدافع السلاجقة إلى قلب أراضي الإمبراطورية البيزنطية في الأناضول، لتتأسس في العقود التالية دولة سلاجقة الروم هناك، عندما تبدأ الإمبراطورية السلجوقية الموحَّدة في التفكك. ظلت دولة سلاجقة الروم تهيمن على معظم مناطق هضبة الأناضول، وجوارها من القوقاز، على مدار قرنيْن.
كان أوج قوتها في عهد السلطان قلج أرسلان الثاني، والسلطان كيكاوس، والسلطان علاء الدين كيقباد والذي حكم بين عامي 1219م-1237م، والذي كان له دور غير مباشر في تأسيس الإمبراطورية العثمانية، والتي ورثت دولة سلاجقة الروم عندما تداعت في العصور التالية، وتفرقت إلى العديد من الدويلات المتناحرة. وكان العثمانيون بالطبع من القبائل التركية، وحملتهم الهجرة أيضًا إلى العرش.
الفرار من المغول إلى التاريخ
كان القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، هو قرن المغول بلا منازع. نجح جنكيز خان في توحيد قبائل المغول عام 1206م تحت سلطانه، ليبدأ في غزو جواره الآسيوي، وفي القلب منه الإمبراطورية الخوارزمية، التي كانت تهيمن على معظم أرجاء آسيا الإسلامية. في الخمسين عامًا التالية، أحكمت الإمبراطورية المغولية قبضتها على أراضٍ تبلغ مساحتها أكثر من 23 مليون كم مربع، في وسط وجنوب وغرب آسيا، وأجزاء واسعة من أوروبا الشرقية، واجتاحتْ الكثير من حواضر العالم، وفي مقدمتها بغداد، عام 656هـ (1258م).
اتسَّمت الفتوحات المغولية بقدرٍ كبيرٍ من التوحش، والميل إلى السحق التام خاصةً للمدن والحواضر التي ترفض الخضوع، كما حدث لبُخارى وسمرقند وبغداد بالطبع. دفعت تلك الوحشية، الكثير من قبائل آسيا الوسطى التركية للنزوح غربًا تجاه المناطق الأكثر أمنًا، خاصة الشام، وهضبة الأناضول في آسيا الصغرى، وكان من بين تلك القبائل، قبيلة الكاي، التي ينتسب إليها أرطغرل. ورغم أن يد المغول لم تكن بعيدة تمامًا عن الأناضول، حيث امتدَّ نطاق سيطرتهم إلى شرق الأناضول حتى مدينة قيسارية، وفرضوا الجزية على مناطق ودويلات أناضولية عديدة، فإن نفوذهم كان يزداد ضعفًا كلما توغلنا في وسط وغرب الأناضول تجاه أراضي البيزنطيين.
كانت الإمبراطورية البيزنطية المتداعية في منتصف ذلك القرن، تحاول أن تنفض عن نفسها غبار نصف قرن من الاحتلال اللاتيني، والذي بدأ عندما انحرفت الحملة الصليبية الرابعة عن وجهتها، واستولت على القسطنطينية عاصمة البيزنطيين، ونهبتها عام 1204م. نجح البيزنطيون عام 1261م في انتزاع القسطنطينية، وإعادتها عاصمة لهم، وأعقب ذلك انتعاشة قصيرة للدولة، استعادت فيها بعض مناطق الأناضول، مستغلةً حالة الضعف الشديد، والتفكك، التي آلت إليها دولة سلاجقة الروم أواخر ذلك القرن.
لكن لم تلبث تلك الاستفاقة أن تتبخر في السنوات التالية، نتيجة المصاعب الاقتصادية التي عانت منها الدولة، والأهم، نتيجة خطر وجودي جديد، بدأ يتشكل في شمال غرب الأناضول، على مسافة أيامٍ معدوداتٍ من القسطنطينية. هذا الخطر الذي امتزج في لحظة ولادته الصدفة البحتة، والحتمية التاريخية، والشجاعة، والنضال، وصراع الحضارات، وتجالد أهل الأديان.
رجل الأقدار أرطغرل في الأناضول
يذكر الدكتور محمد سهيل طقوش، في الفصل الأول من كتابه «تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة»، أن الروايات التاريخية التي تتحدث عن الظهور الأول لأرطغرل، تغلب على أكثرها الأسطورة والمبالغات، أكثر من الحقيقة.
لكن المؤكد أن عشيرة الكايي المنحدرة من قبائل الأوغوز التركية، والتي ينتسب إليها أرطغرل، قد مرت بهجرة إجبارية طويلة المدى من أواسط آسيا، وصولًا إلى الجزيرة الفراتية جنوب تركيا وشمال العراق، تحت وطأة الغزو المغولي في النصف الأول من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي). استقرت العشيرة لفترة في مدينة أخلاط في أرمينيا الوسطى، لكن ما لبثت أن رحلت عنها عندما غزاها السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه عام 626هـ (1229م)، لتتجه إلى الأناضول غربًا.
في تلك الأثناء، تُوفّي والد أرطغرل غرقًا أثناء عبور أحد الأنهار، وكان قائدًا للعشيرة. تختلف الروايات في والد أرطغرل، فيتحدث البعض عن أنه كان سليمان شاه، بينما تتحدث رواياتٍ أخرى عن أنه كان كندوز ألب، والذي تعتبره الروايات السابقة أخاه الأكبر.
انقسمت العشيرة بعد وفاة والد أرطغرل، فاستقر بعضها في الشام في منطقة حلب وجوارها، بينما انضوت 400 عائلة تحت لواء أرطغرل، وتوغلوا معه في الأناضول. لم يدُر في خلد هؤلاء أنهم بهذه الهجرة الجديدة، سيؤثرون بشكلٍ جذريٍّ في تاريخ المنطقة والعالم أجمع لقرون.
ترسم الرواية المتداولة مشهدًا سينمائيًا لدخول أرطغرل وعشيرته المفاجئ إلى صفحات التاريخ. حيث وجد المهاجرون أنفسهم فجأةً أمام ساحة معركة محتدمة، بين جيشيْن غير معلوميْن بالنسبة لهم. يتدخَّل أرطغرل وفرسان عشيرته بدافع من نخوة الانتصار للضعيف، عندما يرون أحد الجيشيْن وقد أوشك على سحق الآخر، فيقلبون بفروسيتهم وحماستهم، وعنصر المفاجأة بالطبع كفتيْ الميزان، وينتصر الجيش الضعيف، ويفر فلول خصمه لا يلوون على شيْء. ينقشع غبار المعركة مخلفًا مفاجأة مدوية لأرطغرل وأصحابه، وللجيش الذي انتزعته الأقدار على أيديهم من بينْ فكَّيْ الهزيمة.
لقد أنقذوا من حيث لا يدرون سلطان دولة سلاجقة الروم، علاء الدين كيقباد. وتختلف الروايات في هوية الجيش الذي كان يحاربه السلطان، بعض الروايات الضعيفة تتحدث عن أنه كان جيشًا بيزنطيًا، لكن لم يكن حينها ليحتار أرطغرل ومن معه في اختيار الطرف الذي يحاربون معه. الأرجح أنه كان أحد جيوش المتمردين على حكمه، أو من جيوش خصمه خلال الدين خوارزم شاه، وهذا ما يرجحه الدكتور طقوش في كتابه.
كافأ السلطان عشيرة أرطغرل بسخاءٍ، فأقطعهم بعض الأراضي قرب أنقرة، على الثغور القريبة من الحدود البيزنطية، وذلك ليتولوا الدفاع عن الدولة ضد البيزنطيين، على أن يمنحَهم كل ما يستولون عليه من أراضيهم. في السنوات التالية، سيقوم أرطغرل وعشيرته بالقيام بواجباتهم الحربية على الحدود بكفاءة شديدة، لتتوسع الإقطاعية الخاصة بأرطغرل شيئًا فشيئًا، حتى تضم أجزاءً أوسع من شمال غرب الأناضول، قرب مدينة إسكي شهير، والتي كانت من أهم حواضر غربي الأناضول آنذاك.
درع الأناضول ورمحه
أصبح مركز إقطاعية أرطغرل في شمال غربي الأناضول هو مدينة سوغوت -المذكورة في المسلسل- القريبة للغاية من خطوط التماس مع البيزنطيين. منح السلطان السلجوقي أرطغرل لقب «أوج بكي» والذي يعني محافظ الحدود، وذلك تتويجًا لجهوده في الدفاع عن ثغور الدولة ضد البيزنطيين، وولائه الصادق للسلطان.
ازدهرت سوغوت وما حولها، وزاد تدفق السكان إلى إقطاعية أرطغرل، وذلك لنجاحه في بسط الأمن والاستقرار في تلك المنطقة، رغم قربها من الحدود. ساعد على هذا الازدهار، بُعد المنطقة عن أيدي المغول الباطشة شرقي ووسط الأناضول، وكذلك عن الدويلات التركمانية المتمردة في جنوب وجنوب غربي الأناضول. أيضًًا أسهم في إنعاش اقتصاد تلك الإقطاعية، مرور العديد من طرق التجارة الحيوية في المنطقة عبر أراضيها.
موقع مدينة سوغوت في شمال غربي الأناضول كذلك أسهم في زيادة قوة أرطغرل ونفوذه، انضمام المئات من المقاتلين الراغبين في الرباط على الثغور ضد البيزنطيين، مما ضاعف قدرات جيوشه، وسمح له بالتمدد تدريجيًا في الأراضي البيزنطية المجاورة له، حتى نجح في ضم مدينة إسكي شهير تحت سلطانه، مما شكَّل المزيد من الضغط على البيزنطيين.
من الإقطاعية إلى الإمبراطورية
على مدار نصف قرن، ظلّ أرطغرل ممسكًا بزمام الأمور في إمارته الصغيرة، التي لم تكن تكف عن التمدد مع مرور الشهور والسنوات، وذلك رغم التفسخ التدريجي الذي بدأت تسقط فيه دولة سلاجقة الروم، التي كان يدين بالولاء لسلاطينها المتعاقبين بعد علاء الدين كيقباد. ولعل تفكك تلك الدولة قد خدم مشاريع أرطغرل، إذ منحه استقلالًا نسبيًا، ووفّر له حرية أكبر في الحركة والتصرف وتنفيذ الخطط السياسية والحربية.
لا تعطينا كتب التاريخ الكثير من التفاصيل عما كان يفعله أرطغرل خلال تلك السنوات الطويلة من إمارته لتلك المنطقة الحيوية. لكن الثابت أنه حافظ على ولائه ولو اسميًا لسلطان السلاجقة، ودأب على محاولة التوسع الحربي على حساب البيزنطيين، والحفاظ على هيبة إمارته في محيطها.
توفي أرطغرل في عمر التسعين، في حدود عام 687هـ (1288م)، ليخلفه ابنه عثمان الأول، والذي تنتسب له الإمبراطورية العثمانية، حيث سيتعاقب نسله على مدار ستة قرون على حكم تلك الدولة.
سار عثمان على نهج أبيه في الجهاد ضد الروم، وزيادة قوة الإمارة سياسيًا واقتصاديًا وإداريًا واستولت جيوشه على المزيد من القواعد البيزنطية بالأناضول، ومن أهمها يني شهير، وضيّق الخناق على نيقية القريبة من القسطنطينية. كذلك استقل عثمان بالسلطة تمامًا في مناطق حكمه، بعد أن سحق التتار ما تبقى من سلطنة سلاجقة الروم. سيمنح هذا الفرصة للعثمانيين في العقود التالية، للتمدد أيضًا على حساب الإمارات التركمانية الأخرى، بعد أن انفرط عقد السلطنة التي كانت تجمع الجميع، خصوصًا من بادروا بالعدوان على الإمارة العثمانية، أو تحالفوا مع البيزنطيين ضدها.
بدأ عثمان عام 717هـ (1317م)، حصارًا طويلًا على مدينة بورصة، والتي كانت من أهم حواضر البيزنطيين في الأناضول. سينجح ابنه، وخلفه، أورخان الأول في تتويج الحصار الطويل، بفتحها عام 1326م، وجعلها عاصمة للدولة، بينما كان أبوه يحتضر على فراش الموت. موقع مدينة بورصة في تركيا الحديثة كذلك أسهم أورخان إسهاميْن بارزيْن في الانتقال من الدويلة إلى الدولة، وذلك بأن أسس نواة الفرق الإنكشارية التي ستصبح القوة الضاربة للجيوش العثمانية في فتوحاتها في القرون التالية، كذلك افتتح أورخان عصر غزو أوروبا، عندما وطأت جيوشه لأول مرة الجانب الآخر من مضيق الدردنيل، لتبدأ ملاحم الغزو العثماني لأوروبا من بوابتها الشرقية في عصور من تلاه من السلاطين.
هكذا كانت قصة أرطغرل كما رواها التاريخ، شديدة الحيوية، شديدة التركيز، تفتح مجالاتٍ واسعة للخيال، وللدراما، لرسم آلاف المشاهد لتملأ ما بين السطور، ولتتلاعب بالستار الرفيع بين الوقائع والأساطير في أزمنة الملاحم والتحولات الكبرى.
إسبانيا بالعربي.