صاحب السيف والذهب.. من هو المعز لدين الله الفاطمي؟
تاريخ – من باب الفتوح شمالًا وحتى باب زويلة جنوبًا، وهما بابان من أسوار القاهرة القديمة، يمتد شارع المعز لدين الله الفاطمي الذي يمر بعدة حارات وشوارع تاريخية عريقة من أشهرها: الدرب الأصفر، وحارة برجوان، وخان الخليلي، والغورية، ويضم شارع المعز 29 أثرًا من آثار مدينة القاهرة تعطي في مجملها انطباعًا كاملًا عن مصر الإسلامية، كما يعد أضخم متحف للآثار الفاطمية في العالم، فمن هو الخليفة المعز لدين الله الفاطمي الذي سمي الشارع باسمه؟
المعز لدين الله يتبوأ عرش الفاطميين
حين ارتقى المعز لدين الله، أبو تميم معد، عرش الخلافة الفاطمية بعد وفاة أبيه المنصور إسماعيل عام 341هـ، كان قد مضى على إنشاء الدولة الفاطمية قرابة نصف قرن من الزمان، حين هاجر عبيد الله المهدي عام 292هـ من مكمنه في الشام، إلى بلاد المغرب، حيث وطد تحالفًا مع قبيلة كتامة، كبرى قبائل البربر في المغرب العربي، وصارت تلك القبيلة عصب الدولة الفاطمية، أولى الدول الشيعية التي ستحكم العالم الإسلامي، لسنوات طويلة.
كان المعز لدين الله حين توَلي السلطة، ابن 24 عامًا، وكان رابع خلفاء الفاطميين بعد المهدي، والقائم بالله، وأبيه المنصور، وكان حُكم أسلافه الثلاثة قد أنهكته الثورات والفتن الداخلية في بلاد المغرب العربي، حتى كادت تنقض على مُلك الفاطميين الوليد، فكان أول ما فعله أن قاد جنوده إلى جبال الأوراس المنيعة، شمال شرقي الجزائر، فصعد القمم الشاهقة، وكانت تلك المنطقة الملجأ الذي تعتصم به القبائل التي رفضت الدخول في سلطان آبائه، فلما رأى هؤلاء بأس المعز دخلوا جميعًا في طاعته.
الخليفة الجديد، كان إلى جانب بأسه وصرامته، وإتقانه الفروسية والسيف، قد تشرّب من صغره العلم والبرهان، وكان يتقن لغات الأمم ذات الصلة بدولته في ذلك الحين، فكان – إلى جانب تبحره في علوم العربية، وبلاغته في الشعر، والنثر – يتقن الرومية، والإيطالية، والبربرية، والنوبية، كما عرف المعز لدين الله إلى جانب ذلك بحِلمه، وحرصه على إقامة العدل بين رعيته، وحرصه على المجاملة والرفق بالمخالفين في كثير من الأحيان.
كان للمعز فراسة، وخبرة بالرجال، كان يعتز برجاله ويعظمّهم، ومن بين من اختصهم القائد جوهر الصقلي، وهو مملوك جُلب من جزيرة صقلية إلى المغرب أيام حُكم الخليفة المنصور أبي المعز، وانتظم في سلك الجيش حتى صار قائد جيوش الفاطميين في عهد المعز، وقد أسند إليه المعز مهمة توسيع رقعة ملكه.
فقاد جوهر الصقلي الجيش وافتتح فاس، وسبتة، ودان له المغرب الأقصى كله في أقل من عام، حتى وصل إلى سواحل المحيط الأطلنطي، ويُحكي أن جوهر الصقلي قد أمر بصيد الأسماك من المحيط، ثم وضعها في أوعية مملوءة بماء البحر، وبعث بها إلى المعز لدين الله حية في تلك الأوعية، فطربت نفسه.
المعز لدين الله الفاطمي يولي وجهه شطر مصر
كانت أنظار الفاطميين تتطلع إلى مصر منذ بدء دولتهم، نظرًا لقيمتها الإستراتيجية الكُبرى باعتبارها خزانًا بشريًا وماديًا ضخمًا، بالإضافة إلى وفرة مواردها، فضلًا عن كونها بوابة إلى المشرق الإسلامي، تصلح لأن تكون مركزًا لدولة إسلامية كُبرى تنافس خلافة العباسيين، أما بلاد المغرب فقد كان يسودها الاضطرابات، وتندلع فيها الثورات من فترة إلى أخرى، فضلًا عن ضعف مواردها.
منذ أن استقر له الأمر في بلاد المغرب وجه عبيد الله المهدي جنوده لفتح مصر، فسير ثلاث حملات بقيادة ابنه أبي القاسم، وفي كل مرة كان الجنود الفاطميون ينجحون في التوغل بعض الشيء داخل الأراضي المصرية، لكن يُهزمون في نهاية المطاف أمام العسكر المصري أو الجنود العباسيين الذين يرسلهم الخليفة مددًا للمصريين.
وثائقي عن الدولة الفاطمية
كانت مصر في ذلك الوقت تقع تحت حُكم دولة الإخشيديين، التي أسسها محمد بن طغج، وهو مملوك تُركي أسند إليه الخليفة العباسي ولاية مصر، فأحسن إدارتها ونشر فيها الأمن والأمان، فأنعم عليه الخليفة بلقب “الإخشيد” وهو لقب فارسي بمعنى “الفارس”، لكن محمد بن طغج ما لبث أن استقل بها، وقد سار في ذلك على نهج سلفه أحمد بن طولون الذي استقل عن الخلافة العباسية، وأسس الدولة الطولونية التي دامت 37 عامًا.
حاول المعز لدين الله الفاطمي بعد أن استتب له الأمر في المغرب أن يعيد الكرة على مصر، وكانت مقاليد السلطة فيها حينئذ في يد كافور الإخشيدي – وهو خادم أسود كان من رجال محمد الإخشيد المخلصين، وتولى الوصاية على ولديه بعد وفاته، ثم انفرد بالسلطة وسير الأمر لنفسه – فسير المعز لدين الله حملة سيطرت على الواحات المصرية، لكن كافور أعد جيشًا تمكن من ردها، ثم كانت وفاة كافور التي أدخلت مصر في مرحلة من الفوضى؛ إذ تولى بعده الوزير جعفر بن الفضل بن الفرات.
ساءت الأمور في عهد جعفر بن الفرات، وحل بالبلاد الوباء والقحط، ولم يتمكن من جمع الضرائب؛ ما دفع كثيرًا من أصحاب الرأي والنفوذ في القاهرة إلى مكاتبة المعز لدين الله، يشجعونه على القدوم لحكم مصر، وكان من بينهم الوزير يعقوب بن كلس، الذي تعرض للاعتقال في عهد جعفر، ثم هرب إلى بلاد المغرب، وأخذ يزين للمعز القدوم إلى مصر، ويدله على وجوه الضعف في حكومتها وسبل السيطرة على البلاد.
جوهر الصقلي يمهد طريق مصر للمعز لدين الله
وجه المعز لدين الله قائده جوهر للسيطرة على مصر، فسارت الحملة من بلاد المغرب سنة 358هـ، وقد خرج المعز بنفسه ليودع الجيش الغازي، وأمر كبار رجال دولته أن يترجلوا بين يدي القائد جوهر الصقلي تقديرًا واحترامًا، كان الجيش الفاطمي قد نُظم تنظيمًا دقيقًا، ويذكر أن عدده كان 150 ألفًا، فضلًا عن الأسطول الذي توجه من بلاد المغرب وصقلية تجاه سواحل الإسكندرية.
كانت البلاد ممهدة لاستقبال الفاطميين، فقد كانت مصر تعج بالدعاة الفاطميين الذين أخذوا ينشرون الدعوة الإسماعيلية، ويؤلفون قلوب الناس، حتى وصل تأثيرهم إلى داخل قصر الحكم نفسه، فنزل جوهر أولًا بالاسكندرية ودخلها بغير قتال.
ثم اتفق وجهاء مصر بقيادة جعفر بن الفرات على التسليم بالحكم الجديد، مقابل أن يمنح جوهر المصريين أمانًا على أنفسهم وأموالهم، ويضمن لهم حريتهم المذهبية، وهو ما كفله جوهر فيما عُرف بـ”كتاب الأمان”، فلم يبق إلا فلول من العسكر الإخشيدية والكافورية الذين اجتمعوا وقرروا المقاومة، لكن الجيش الفاطمي تمكن من دحرهم سريعًا؛ فهرب أكثرهم إلى بلاد الشام، وسرعان ما أرسل جوهر أحد رجاله وهو جعفر بن فلاح لاستخلاص فلسطين والشام من أيدي الإخشيديين، ففتحها ودُعي للخليفة الفاطمي على المنابر، بدلًا عن الخليفة العباسي المطيع لله.
لم يكد جوهر الصقلي يستقر في مصر حتى رأى أن يبني لها عاصمة جديدة غير الفسطاط، فاختار لذلك موقعًا شمالي الفسطاط، وسمى المدينة بالمنصورية، وتغير اسمها إلى القاهرة بعد قدوم المعز لدين الله إليها.
وقيل إنها سميت بذلك تبركًا بأنها ستقهر الدولة العباسية، أو لأنها تقهر من شذ منها، وحاول الخروج على حاكمها، واستمر بناء المدينة الجديدة ثلاث سنوات، وشيد في وسطها قصرًا كبيرًا هُيئ لاستقبال الخليفة المعز، وأقيم حول المدينة سور كان له أربعة أبواب، من بينها باب زويلة الذي دخل منه المعز عند قدومه، فصار الناس يتيمنون بهذا الباب ويحرصون على المرور منه.
بعد شهور من استقراره في مصر، وشروعه في بناء مدينة القاهرة، وضع جوهر الصقلي حجر الأساس لبناء جامع ضخم يكون رمزًا لسيادة الفاطميين ومنارة لنشر دعوتهم، وهو الجامع الأزهر، وسمي بهذا الاسم تيمنًا بما سيكون له من الشأن العظيم في ازدهار العلوم به.
وقيل إن الأزهر تيمنًا باسم فاطمة الزهراء، واستغرق بناء الجامع الأزهر عامين، وصار منارة الفاطميين لنشر المذهب الشيعي، وأمر جوهر الصقلي بأن يُضاف إلى الآذان “حي على خير العمل”، للمرة الأولى في المساجد المصرية.
مصر بين سيف المعز وذهبه
في شهر شوال سنة 361هـ، وبعد أن كتب إليه قائده ونائبه في مصر جوهر الصقلي ينبئه أن البلاد مهيأة لاستقباله، خرج الخليفة المعز لدين الله الفاطمي من المغرب قاصدًا مصر، عازمًا على أن يجعلها مركزًا لخلافته، واصطحب معه رفات آبائه (عبيد الله، والمهدي، والقائم)؛ ليعاد دفنهم في مصر، ولقي المعز في القاهرة أسمى مظاهر الترحيب، واستقبله أعيان البلاد، وقادتها، وقضاتها، وقدموا إليه الهدايا الفاخرة، واصطف الناس لرؤية موكبه.
وفي أول خطبة خطبها المعز في الناس قال إنه “لم يدخل مصر طمعًا في زيادة ملكه أو ماله، بل أراد إقامة الحق، وحماية الحجاج، والجهاد ضد الكفار، وأن يختم حياته بالأعمال الصالحة”، وكان أول عمل قام به أن أمر بإطلاق أسرى الكافورية والإخشيدية، وكان عددهم حوالي ألف أسير.
على أن حلم المعز لدين الله هذا لم يكن بلا حدود، فقد كان قادرًا على إظهار الحزم والشدة إذا ما احتاج إلى ذلك، ويروى عنه أنه لما سمع تهامس البعض وتشكيكهم في نسبة الفاطميين إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فجمع أشراف القوم، وسل سيفه وقال: “هذا نسبي”، ثم نثر عليهم بعض الذهب، وقال: “وهذا حسبي”، فقال المجتمعون جميعًا: “سمعنا وأطعنا”.
عمل المعز لدين الله بعد قدومه إلى مصر على ترسيخ المذهب الشيعي، وكان معظم أهل مصر في ذلك الوقت من أهل السنة، وإن كان عدد غير قليل من المصريين قد تأثروا بدعاة الفاطميين الذين انتشروا في مصر سرًا قبل قدوم الجيش الفاطمي، وكانت المناصب الكبرى في البلاد تسند إلى الشيعة، وصارت المساجد الكبرى وفي مقدمتها الجامع الأزهر مركزًا لنشر الدعوة الإسماعيلية.
وكان الشيعة من المصريين يغالون في طقوس الاحتفال بأعيادهم مثل يوم كربلاء (ذكرى مقتل الحسين)، وهو ما كان يثير بعض التوترات مع أهل السنة، والتي كان يتدخل المعز أو قائده جوهر لاحتوائها، وبشكل عام استمر أهل السنة في مصر في إظهار شعائرهم، والاحتكام إلى مذاهبهم الفقهية المختلفة، ولم يلجأ المعز إلى التضييق عليهم أو التنكيل بهم.
لم يكد المعز يستقر في مصر حتى داهمه خطر القرامطة الذين زحفوا على الشام وفلسطين فاستولوا عليها، وتقدموا بجيوشهم صوب القاهرة، رأى المعز عظم جيوش القرامطة فقرر أن يحاربهم بالحيلة، فأرسل إلى أحد القادة المتحالفين معه ودعى حسان بن دراج الطائي يطمعه بالمال، ووعده بـ100 ألف دينار، فقبل الصفقة، فصنع له المعز أوعية فيها دنانير مزورة، ووضع على السطح منها دنانير حقيقية، وتمكن المعز يومئذ من دحر القرامطة، وإنهاء غارتهم تمامًا على مصر.
ولم يقضِ المعز لدين الله الفاطمي في مصر سوى سنتين وتسعة أشهر، من 23 عامًا، هي مدة خلافته كلها، فقد أسلم روحه إلى بارئها سنة 365هـ؛ ليخلفه ابنه العزيز بالله على العرش.
وكالات / إسبانيا بالعربي.