«أستاذ سيس».. جد الخليفة المأمون الذي ادَّعى النبوة!
«واعلم أن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانت من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم، بحيث إنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدون سائر الناس عبيدًا لهم، لما امتُحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب عند الفرس أقل الأمم خطرًا، تعاظمهم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى». *تقي الدين المقريزي في «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار».
واجهت الخلافة العباسية في عهد أبي جعفر المنصور بعض الثورات والحركات الفارسية لمعارضة الخلافة الإسلامية، وكان من أبرز هذه الحركات حركة «سنباذ» التي قادها أحد أتباع أبي مسلم الخراساني من نيسابور للثأر لمقتله، فادعى أن الخراساني لم يمت، لكنه انقلب إلى حمامة بيضاء وهرب، وأنه عائد لا محالة، وحركة «إسحق الترك» وبدأها في تركستان، وكان كذلك أحد أتباع الخراساني فتشابهت مبادئه مع مبادئ سنباذ، وادَّعى أيضًا أن الخراساني لم يقتل وأنه سوف يعود يومًا ما.
طالع أيضا: من هو آية الله علي خامنئي في إيران؟ وما سبب أهميته؟
أما الحركة التي نحن بصدد الحديث عنها هي حركة «أستاذ سيس» الفارسي الذي ادعى النبوة، واستطاع بمساعدة قواته أن يبسط نفوذه على العديد من مناطق إقليم خراسان (حاليًا في إيران وأفغانستان) وقد يراودك التساؤل عن اسمه، ولماذا لقب بكلمة «أستاذ»، كلمة أستاذ ليست عربية أصيلة، فهي معربة من كلمة «أستاد» الفارسية ومعناها المعلم والحاذق في صنعته والماهر فيها، كما جاء في كتابي «اللامع العزيزي في شرح ديوان المتنبي» لأبي العلاء المعري، و«الألفاظ الفارسية المعربة» للسيد إدي شير.
300 ألف جندي.. سيس يبدأ ثورته
بحلول عام 150هـ/ 767م، في محاولة للسيطرة على أراضي الخلافة العباسية والقضاء على سلطة بغداد ونفوذها، خرج أستاذ سيس ومعه الكثيرون من هراة وباذجيس وسجستان وغيرها من المناطق المحيطة في إقليم خراسان (حاليًا في إيران وأفغانستان)، والتفت الجيوش الخراسانية حوله، وتمكنوا من السيطرة على أغلب مدن خراسان، ثم اتجهوا إلى منطقة مرو الروذ (حاليًا في جنوب شرقي تركمانستان)، وهناك اعترضهم أهل مرو بقيادة الأجثم المروروذي، إلا أنه قُتل ومعه الكثيرون من أهل مرو الروذ.
استمر أهل المرو في قتال أستاذ سيس ومن معه بقيادة آخرين منه، فأهل مرو الروذ أنفسهم كانوا تحت قيادة الأجثم المروروذي واستمروا بعد مقتله تحت قيادات أخرى، إلا أن جميعهم هُزموا أمام قوات أستاذ سيس التي قيل إنها بلغت نحو 300 ألف مقاتل، وحينما وصلت أخبار ما يحدث إلى جعفر المنصور، وكان في مدينة البردان في العراق بالقرب من بغداد حسبما جاء في «تاريخ الطبري» (أو في مدينة الراذان في إيران حسب كتاب «الكامل في التاريخ» لابن الأثير، أمر بإرسال أحد أكبر قادة الدولة العباسية ويدعى خازم بن خزيمة التميمي إلى ابنه المهدي، حيث كان في معسكر في بلاد الري (جنوب شرق العاصمة الإيرانية طهران)، فولَّاه المهدي محاربة أستاذ سيس، وأرسل معه العديد من القادة الأشداء.
أستاذ سيس يسير على خطى «بهافريد» ويدعي النبوة
«إن أستاذ سيس ادعى النبوة، وأظهر أصحابه الفسق، وقطع السبيل، وقيل: إنه جد المأمون أبو أمه مراجل وابنه غالب المسعودي خال المأمون» الكامل في التاريخ لابن الأثير
بحسب ما جاء في كتاب «هارون الرشيد الخليفة المظلوم»، أعلن أستاذ سيس العصيان، ونشر الفساد، وسفك الدماء، ووفقًا للمؤرخ العراقي فاروق عمر في كتابه «الخلافة العباسية عصر القوة والازدهار»، فقد دعا أستاذ سيس إلى مبادئ بهافريد نفسها، وكلا الفرقتين أصلهما واحد، وهو ما ذكرته أيضًا «موسوعة التاريخ الإسلامي: العصر العباسي».
وصاحب الحركة البهافريدية رجل فارسي زرادشتي من إحدى قرى مدينة أبرشهر الإيرانية يدعى «بهافريد بن فردردينان»، وقد ذكرت موسوعة التاريخ الإسلامي أن حركة بهافريد من الحركات المجوسية، وظهرت في خراسان في أواخر عصر الأمويين، واستمرت بعد تأسيس الدولة العباسية.
وتقول إحدى الروايات الإسلامية إن بهافريد قبل أن يعلن نفسه للعامة، سافر إلى الصين، وجلب معه قميصًا أخضر، وعند وصوله إلى بلدته تخفى، وظهر ليلًا على قبة أحد المعابد فرآه أحد الفلاحين عند الفجر، فقال إنه مات عامًا ثم أحياه الله وشاهد الجنة والنار، ومنحه الله هذا القميص من الجنة.
وكما جاء في كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني، كان بهافريد في الأصل يعبد النيران، ثم ترك عبادة النيران ورفضها، ووضع لأتباعه منهجًا جديدًا وكتابًا تنسجم بعض مبادئه مع تعاليم الإسلام، فقد أمرهم فيه بعدم قص شعورهم، وحرم عليهم الأمهات والبنات والأخوات كما حرم الخمر وأكل الميتة، وأمرهم بالسجود على ركبة واحدة مستقبلين الشمس.
فرض بهافريد على أتباعه سبع صلوات واحدة لتوحيد الله، وأخرى خلق السماوات والأرض، وأخرى خلق الحيوان، وأخرى الموت، وأخرى للبعث والحساب، وأخرى للجنة والنار، وآخرها لتمجيد أهل الجنة، وأمرهم بالسجود إلى عين الشمس على ركبة واحدة، وقد حدد بهافريد مهر المرأة 400 درهم؛ مما كان سببًا في زيادة شعبيته بسبب تدني الأوضاع المالية في خراسان، كما أمر أتباعه بالتبرع بسُبع ما يملكون لإصلاح الأعمال العامة كالطرق والقناطر.
صعاب داخلية تعوق انتصار خازم بن خزيمة
واجه جيش العباسيين خللًا في صفوفه نتيجة كثرة القيادة وعدم انتظامها؛ مما تسبب في الهزيمة في عدد من المعارك، وكان المهدي بن جعفر المنصور في تلك الأثناء في نيسابور (مدينة في مقاطعة خراسان شمالي شرق إيران حاليًا)، وكان وزيره معاوية بن عبيد الله من يرسل الأوامر والنواهي إلى خازم بن خزيمة وغيره من القادة بصورة تُضعف ما يفعله ابن خزيمة وقادته.
لما أحس بن خزيمة بتحامل معاوية، ذهب إلى المهدي في نيسابور، وطلب محادثته بعيدًا عن وزيره، وحينما أصبحا لا ثالث لهما، شكا بن خزيمة إلى المهدي أمر معاوية، وأخبره بعصبيته وتحامله، وقال إنه يرد إليه الرسائل ولا يستجيب لما فيها كما كان يفعل مع القادة من قبله، مما دفعهم إلى الفساد والتآمر والاستبداد بآرائهم والإعراض عن السمع والطاعة لأوامر الوزير.
أوضح ابن خزيمة خلال لقائه بالمهدي أن الحرب لن تؤتي ثمارها إلا إذا أصبح الجميع تحت لوائه وإمرته، وأنه لن يعود لمحاربة أستاذ سيس إلا إذا منحه المهدي تفويضًا بتسيير الأمور، وإعفاء الوزير معاوية من الأمر والنهي بشأن هذه الحرب، كما طلب الإذن بحل ألوية القادة الموجودين معه، وأن يرسل إليهم المهدي بضرورة السمع والطاعة لابن خزيمة فقط.
استجاب المهدي لطلبات ابن خزيمة جميعها، فذهب إلى جنوده، وحل ألوية بعض القادة، وعيَّن آخرين، وجمع الجند المهزومين من قبل، ووضعهم في مؤخرة جيشه ليزيد العدد بهم فقط، ولم يضعهم في المقدمة لما أصابهم من روع الهزيمة السابقة، ولكن مقاومة أستاذ سيس كانت لا تزال قوية، فطلب ابن خزيمة العون من المهدي، فأرسل إليه القوات الموجودة في طخارستان (حاليًا جزء من أفغانستان، وأوزباكستان، وطاجيكستان).
نهاية أستاذ سيس
أعد ابن خزيمة عدته، وتعبأ للقتال، وحفر الخنادق، ووضع خطة يغلب عليها المكر والمراوغة؛ إذ انتقل من موقع إلى آخر حتى يبث في جيش أستاذ سيس التعب، فكان أكثرهم مترجلون لا يركبون، وفي النهاية، تحصن ابن خزيمة في أحد الخنادق، وحينما هاجمه جيش أستاذ سيس، أمر ميمنة جيشه بالانسحاب إلى الخطوط الخلفية والالتفاف على مؤخرة جيش أستاذ سيس بينما يتولى مهاجمة المقدمة التي بدأت بمهاجمته، وأمر مقاتلي الميمنة أن يرفعوا راياتهم حين الوصول إلى المؤخرة، وشدد على رجاله الموجودين أساسًا في المؤخرة أن يكبروا حين يروا الرايات ترتفع خلفهم ويقولون قد جاء أهل طخارستان (وكان قدومهم منتظرًا)، فيبثوا الرعب في قلوب أفراد جيش أستاذ سيس.
بتلك الخطة، تمكن جيش ابن خزيمة من قتل نحو 70 ألفًا وأسر نحو 14 ألفًا من جيش أستاذ سيس الذي فرَّ إلى الجبل مع أصحابه، فتمكن ابن خزيمة من حصارهم، والإيقاع بأستاذ سيس ومن معه.
احتكم ابن خزيمة وأستاذ سيس إلى أبي عون عبد الملك بن يزيد الأزدي، وكان أحد القادة العباسيين الأوائل في منطقة جرجان في إيران، وحُكم على أستاذ سيس بأن يُقيد هو وأولاده وأهل بيته بالحديد، وأُعتق من كانوا منعه وكانوا نحو 30 ألفًا، وقد جاء في «تاريخ اليعقوبي» أن نهاية أستاذ سيس كانت على يد جعفر المنصور، فبعدما هزمه بن خزيمة، وقيده بالحديد، حمله إلى أبي جعفر في بغداد، فقتله.
أستاذ سيس.. جد المأمون أم أخو جدته؟
كان أهل بيت أستاذ سيس قد قيدوا بالحديد، ورغم عدم العثور على مصادر تفيد ما حدث لهن بعد إعدام أستاذ سيس، فإن الغالب أنهن أصبحن من جواري الحرم العباسي. وكادت المصادر تجمع على أن مراجل أم الخليفة المأمون هي ذاتها ابنة أستاذ سيس.
الدينار العباسي في عهد الخليفة المأمون. مصدر الصورة: ويكيميديا
ففي كتاب «الكامل في التاريخ» ذكر ابن الأثير أن أستاذ سيس هو جد المأمون أبو أمه مراجل، وابنه غالب خال المأمون، كما ذكر اليعقوبي أن أم المأمون تسمى مراجل الباذجيسية أي من باذجيس حيث خرج أستاذ سيس، كما جاء في كتاب «الأغاني» للأصفهاني أن مراجل «أم ولد» أي إنها جارية مملوكة لهارون الرشيد، أهدتها إليه زوجته زبيدة مع تسعة أخريات، وولدت له ابنه المأمون في اليوم الذي تولى فيه هارون الرشيد الخلافة عام 170هـ.
وهناك رأي آخر ذكره إدوارد براون في كتابه «تاريخ الأدب في إيران» نقلًا عن السير ويليم موير المستشرق الأسكتلندي صاحب الدراسات حول الخلافة الإسلامية، يقول فيه إن الخيزران زوجة الخليفة المهدي وأم ابنيه موسى الهادي وهارون الرشيد اللذين أصبحا خليفان للدولة العباسية فيما بعد، كانت أخت أستاذ سيس، وأوضح براون أن السير ويليام لم يذكر المصدر الذي استقى منه الخبر.
ولكن المصادر العربية تقول إن الخيزران من جرش باليمن أي أصلها عربي، وإن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور قد أهدى بعض الجواري لابنه المهدي بعد بلوغه الخامسة عشرة، ومن بين هؤلاء الجواري كانت الخيزران بنت عطاء، وقيل إن المهدي من اشتراها من نخاس في سوق الجواري.
إسبانيا بالعربي.