من عبق التاريخ

مدينة الزاهرة.. اللغز الذي يحاول الإسبان تتبع أثره حتى اليوم

حين توفي الخليفة الحكم المستنصر عام 961م، كانت مدينة الزهراء بقرطبة حاضرة ثقافية مزدهرة في قلب الأندلس، وكان سكان القصر الأموي يبلغون حوالي 20 ألف، منهم 12 ألفًا من الجنود و6 آلاف من الجواري وحوالي 4 آلاف من العبيد.

تمكن المنصور بن أبي عامر من الحكم تحت غطاء الخليفة الطفل هشام المؤيد، واستطاع القضاء على كل خصومه وصار الجيش في يده وأصبح صاحب السلطة بلا منازع، واختار المنصور أن يظل الخليفة هشام المؤيد غطاءً شرعيًا لحكمه، وكثر لهذا السبب أعداؤه والمتآمرون عليه، حتى خشي الإقامة في قصر الزهراء، ولكي يحتاط من أخطار التآمر، أقام عام 978، مقرًا جديدًا لحكمه في شمال قرطبة هو مدينة الزاهرة، التي شيدها على غرار مدينة الزهراء، وشاء القدر أن تشهد فصلاً دمويًا ومحوريًا من تاريخ الأندلس، فما هي قصة المدينة وماذا بقي منها اليوم؟

الزاهرة.. عاصمة الحكم الجديدة

بنى المنصور في مدينة الزاهرة قصرًا فخمًا ومسجدًا كبيرًا، ودواوين للحكم، واكتمل بناء المدينة الجديدة في عامين فقط، وأحاطها المنصور بأسوار ضخمة ونقل إليها خزائن المال والسلاح وإدارات الحكم، وانتقل إليها عام 370هـ بالجنود والأموال، ومنح الإقطاعيات والقصور لوزرائه وكبار الجنود ورجال الدولة، فاتخذوا فيها دورًا عظيمة وقامت فيها الأسواق والشوارع وتسابق الناس على الإقامة في أطراف مدينة الزاهرة ليتقربوا من الحاكم الجديد.

المنصور بن أبي عامر الحاجب المنصور
نصب المنصور بن أبي عامر في إسبانيا

نقل المنصور الجند والشرطة إلى الزاهرة واتخذ من الصقالبة والبربر حرسًا له، وكتب إلى الأقطار الأندلسية يأمر بإرسال الجباية إلى المدينة الجديدة، وترك الزهراء خالية، وأقام خندقًا حول القصر الأموي الخالي إلا من الخليفة وحاشيته والعيون التي دسها المنصور عليهم، وأُغلقت أبواب القصر، ولفه الصمت لقرون طويلة.

وتألقت في الزاهرة الدور والقصور والأسواق، حتى اتصلت بالدور والأبنية في قرطبة، وصارت تنافس مدينة الخليفة – أيام مجدها – في الضخامة والرونق كما يذكر الدكتور محمد عبد الله عنان في موسوعته عن الأندلس.

وقد عُرف المنصور بن أبي عامر بحبه لإنشاء الحدائق والمتنزهات وقد بنى بجوار مدينة الزاهرة حدائق رائعة سماها “العامرية” وكان يذهب للتنزه والاستجمام فيها، ويمكن القول بأنه شغف أهل الأندلس جميعًا بالرياض والأزهار. وحين استتب له الأمر تفرغ لسلسلة الغزوات الشهيرة إلى “ممالك النصارى”، التي تذكر كتب التاريخ أنها بلغت 50 غزوة عاد منها منتصرًا، وكان يهدف دائمًا لسحق قوة النصارى لا أن يكف شرهم عن الأندلس فقط، فلم يقبل أن يهادنهم أبدًا.

ويحكي المؤرخون أن المنصور كان يزرع كل عام “ألف مدي من الشعير لدوابه” وكان حين يقدم من إحدى غزواته يدعو “صاحب الأبنية” ليسأله عن الأبنية والدور والقصور وما يحتاج منها للتجديد.

“وما زالت هذه المدينة رائقة والسُعود بلبّتها متناسقة، تُرواحها الفتوح وتغاديها، وتُجلب إليها منكسرة أعاديها، لا تزحف عنها راية إلا إلى فتح، ولا يصدر عنها تدبير إلا إلى نُجح، إلى إن حان يومها العصيب وقُيّض لها من المكروه أوفر نصيب فتولت فقيدة وخلت من بهجتها كل عقيدة”

غير أن ما حققه المنصور من ظفر متوال لم يُنس الشعب القرطبي قصة خليفته الشرعي، هشام المؤيد، فلم يستطع أن يكتسب محبة الشعب ووده الخالص، وإن حاز إعجابه بعبقريته في إدارة البلاد وهزيمة العدو إلى حين وفاته عام 1002، بحسب ما ذكره محمد عبد الله عنان.

خلف المنصور ابنه عبد الملك لسنوات قليلة، سار فيها على نهجه، وبعد وفاة عبد الملك تولّى شقيقه عبد الرحمن بن المنصور الذي عُرف عنه الاستهتار والمجون، وسقطت في عهده الدولة العامرية.

الفتنة الأندلسية وزوال “دولة بني عامر”

بدأ عبد الرحمن عهده بأن حمل الخليفة هشام المؤيد على أن يسمّيه وليًا للعهد، وهو ما أثار غضب الناس، وسريعًا ما اجتمعت حول عبد الرحمن خيوط مؤامرة كان على رأس مدبريها والدة أخيه عبد الملك التي اعتقدت أنه مات مسمومًا على يديه، وأمير أموي هو محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، كان عبد الملك قد أمر بإعدام أبيه بتهمة التآمر.

قصر مدينة الزهراء
مدينة الزهراء

خرج عبد الرحمن للغزو فاستغل محمد بن هشام غيابه ليحشد أنصار بني أمية في جبال قرطبة واتسع نطاق الدعوة وزاد وزراء العامريين الحراسة حول قصر الزاهرة، فتوجه الأمير الأموي إلى قصر الخليفة هشام المؤيد واقتحمه وأجبر الخليفة على خلع نفسه، لتؤول الخلافة لمحمد بن هشام الذي لُقب منذ ذلك الحين بالمهدي.

ومن الزهراء توجه جمع غفير إلى أسوار مدينة الزاهرة التي غاب عنها عبد الرحمن بن المنصور، محاولين اقتحامها، ولم تصمد المدينة طويلًا ففتحت أبوابها واستولى القادمون على خزائن الكسوة والسلاح والحلي، واستولى المهدي على ما في القصور من أموال وحلي فنقلها إلى قصر الخلافة بقرطبة، وتذكر كتب التاريخ أنه “حصل من أموال الزاهرة المنهوبة على 5 آلاف و500 ألف دينار من النقود، وعلى ما قيمته ألف ألف و500 ألف من الذهب”.

نبوءة المنصور تتحقق

لكن المهدي لم يكتف بالأموال الطائلة التي جمعها من مدينة الزاهرة فعمد إلى هدم الصروح والأسوار وترك الأنقاض من مرمر القصور وأبوابها نهبًا للأيدي، إذ كان حريصًا على إزالة كل آثار الدولة العامرية قبل أن يعود عبد الرحمن، ليستتب له الأمر، وهكذا اختفت تمامًا صروح الزاهرة، كما تنبأ لها المنصور حين قال: “ويحًا لكِ يا زاهرة الحسن لقد حسن مرآك، وعبق ثراكِ وراق منظركِ، وفاق مخبرك، وطاب تربك وعذب شربك، فياليت شعري من الذي يهدمكِ ويوهن جسمكِ ويعدمكِ”.

كان المنصور يردد هذه النبوءة كثيرًا وقد تحققت عام 1009م، وانتهت دولته بمقتل ابنه عبد الرحمن المنصور، الذي انتهى ملكه بسرعة لم يتوقعها أحد، إذ لم يلبث في الحكم الذي تسلّمه قويًا ومستقرًا إلا ثلاثة أشهر، وكتب المؤرخون كيف شهدوا العجب في يوم واحد: “فتح مدينة قرطبة وهدم مدينة الزاهرة وخلع خليفة قديم هو هشام بن الحكم، وتنصيب خليفة جديد لم يختره أحد هو محمد بن هشام، وزوال دولة بني عامر وعودة دولة بني أمية”.

ظلت الزاهرة مقرًا للحكم والإدارة إذن منذ عام 980 وحتى تدميرها عام 1009م، وربما يفسر لغز اختفائها بالكامل أنها دُمرت بعد حوالي 30 عامًا فقط، على تشييدها، تدميرًا كاملًا على يد الأمير الأموي، لتبدأ حقبة جديدة من تاريخ الأندلس.

أطلال الزاهرة

لم يحفظ التاريخ من مدينة الزاهرة سوى كلمات للمؤرخين العرب يصفون أعمدتها من المرمر ومقاعدها الرخامية البيضاء والأسود التي زينت نوافير الماء فيها، وقطع أثرية محفوظة في متحف إسبانيا الوطني للآثار بمدريد، منها عمودان للوضوء يزينهما نسران متواجهان وقطعة فخارية تحمل كلمة “قصر الزاهرة” وتم الانتهاء منه عام 376 هجريًا.

مسجد قرطبة الكبير
مسجد قرطبة الكبير

في عام 1832 أعيد اكتشاف مدينة الزاهرة وجرت الحفريات العلمية الأولى في عام 1911. وبعد الحرب الأهلية الإسبانية استؤنفت الحفريات في عام 1944. ولا يزال الأثريون الإسبان يبحثون عن أطلال المدينة، وموقعها الذي لم تحدده المصادر بدقة، لكن اليوم يرجّحون أنها كانت تقع في شرق قرطبة على ضفاف الوادي الكبير وأن أطلال المدينة مدفونة بالقرب من ملاعب كرة قدم وطريق سريع.

ويرجح بعضهم أن يكون موقع الزاهرة على بعد كيلومترات قليلة من مسجد قرطبة الشهير، وقد استطاعوا تحديده بالعودة إلى تاريخ هذه المنطقة تحديدًا، لأنها كانت آمنة من الفيضان في ذلك العصر، وكان هناك ثلاثة جسور قريبة منها، ما يرجّح القول بأنها كانت مناسبة لإقامة العاصمة الجديدة فيها. إذ يشير خوان موريللو، رئيس مكتب الآثار في قسم التخطيط في مدينة قرطبة، أن الحفر لاقتفاء أثر المدينة يتطلب موارد كبيرة لم تتوافر حتى اليوم، ويؤكد أن الموقع لا يزال لغزًا.

إسبانيا بالعربي.

أخبار جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *