الحروب البونيقية.. كيف أسهمت هزيمة قرطاج في قيام الإمبراطورية الرومانية؟
يروي التاريخ أن انتصار الرومان على قرطاج في الحروب البونيقية قد مهَّد الطريق لقيام الإمبراطورية الرومانية. وعلى الرغم من الانتصارات العديدة التي حققتها قرطاج أثناء الحرب، استطاع الرومان أن يتغلبوا عليها، ويُخضِعوا ما تبقى من الإمبراطورية الأفريقية التي ذاع صيتها لسيطرتهم في النهاية.
نشر موقع “ذا كوليكتور” الكندي تقريرًا لفلاديسلاف تشاكاروف، طالب التاريخ في جامعة صوفيا في بلغاريا والكاتب المشارك في الموقع، تحدث فيه عن النصر الروماني على قرطاج الذي وضع أولى لَبِنات الإمبراطورية الرومانية.
يستهل الكاتب تقريره بالقول: إن الحروب البونيقية المعروفة أيضًا بحروب قرطاج التي وقعت في الأعوام 264-146 قبل الميلاد كانت سلسلة من ثلاثة صراعات عسكرية وقعت بين الجمهورية الرومانية والإمبراطورية القرطاجية، وأدَّت إلى تدمير قرطاج، واستعباد سكانها، وتحويل روما إلى قوة عظمى في العالم القديم.
وكانت قرطاج قد تطورت من ميناء صغير إلى أقوى وأغنى مدينة في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وكان لديها أسطول قوي وجيش من المحاربين والمرتزقة، وبفضل الضرائب الجمركية والتجارة، كان لديها ما يكفي من الثروة لتفعل ما يحلو لها. وفي الفترة التي سبقت الحروب البونيقية، كانت قرطاج قد عقدت اتفاقية منعت بموجبها روما من التجارة في غرب البحر الأبيض المتوسط. وأراد القرطاجيون أن يستحوذوا على أي شيء يمكن أن يُباع، أو يُشترى، أو يُتداول. وركَّزت الحروب البونيقية بالأساس على سؤال مفاده: «لمن ستكون السيطرة على البحر الأبيض المتوسط؟» وكان الجواب في النهاية: لروما.
عبقرية حنبعل والحروب البونيقية
يشير التقرير إلى أن الصورة والقصة الأشهر التي عاشت في ذاكرة الناس من الحروب البونيقية هي قصة عبور حنبعل لجبال الألب مع الفيلة. لقد حدثت القصة بالفعل، فقد كان اختبارًا حقيقيًّا أن يتحرك جيش قوامه 50 ألف رجل مع الخيول والأفيال عبر ممرات من الانجرافات الثلجية والانهيارات الأرضية ليعبروا الأنهار وسلاسل الجبال.
ولم يكن السكان المحليون مضيافين أيضًا، فكان على حنبعل أن يقاتل السكان المحليين والطبيعة في سبيل عبور جبال الألب. ولم تستطع الفيلة تخطي الاختبار الصعب؛ إذ نفَق عدد كبير منها، ومات نصف قوات حنبعل أيضًا في هذه الدراما التاريخية.
وحنبعل بالتأكيد هو الشخصية الأكثر إثارة في الحروب البونيقية. وكونه ابن أحد أمراء الحرب العظام، هاميلكار باركا، وشقيق وصهر أمير حرب آخر من أمراء الحرب القرطاجيين، أقسم حنبعل منذ صغره على قتال روما. وعندما اتخذ خطوته الأولى وعلى مدى 10 عامًا، كان الأهالي يخوفون الصغار بقولهم «حنبعل على بوابة المدينة»، وحنبعل هو أحد أعظم القادة العسكريين في التاريخ كله؛ إذ يمكن أن نجد فيه كل خصائص العبقرية العسكرية التي نجدها في القادة الكبار، مثل الإسكندر الأكبر، ونابليون، وجنكيز خان، وكورتيز، وروبرت لي، ودوجلاس ماك آرثر. فقد كان شجاعًا ولديه قدرة مذهلة على التخطيط، وداهية وماكرًا وناجحًا في معظم الأحيان.
وكان عادةً ما يجذب الرومان إلى أرض المعركة التي يختارها، ففي معركة بحيرة تريبيا حاصر الجيش الروماني بأكلمه. وفي معركة كاناي نجح في الإحاطة بالجيش الروماني من كلا الجانبين، وكأنه قادم من صفحات كتاب مدرسي عسكري، وقتل في هذه المعركة وحدها 40 ألف روماني، وسواء فعلها بالرشوة، أو التهديد، بالدبلوماسية، أو التخويف، بغارات الفرسان، أو بالحرب المخطط لها مسبقًا، فإن حنبعل كان حاذقًا جدًّا في فنون الحرب.
وبعد سنوات من انقضاء الحرب البونيقية سأل سكيبيو أفريكانوس (الروماني الوحيد الذي هزم حنبعل حقًا في ساحة المعركة) حنبعل: من هو باعتقادك أعظم أمراء الحرب في التاريخ؟ منح حنبعل المركز الأول للإسكندر الأكبر، والثاني لملك إبيروس بيروس الذي غزا إيطاليا عام 280 قبل الميلاد، وأعطى لنفسه المركز الثالث، ثم سأله سكيبيو: ماذا لو كنت هزمتني؟ فقال حنبعل: لكنت في المركز الأول حينها.
الحرب البونيقية الأولى: من الهزيمة إلى البحر
يقول الكاتب إنه في عام 264 قبل الميلاد دفع صراع في صقلية – كان القرطاجيون أحد أطرافه – الرومان للتدخل، وبدأت الحرب البونيقية الأولى بإرسال روما لقواتها إلى هناك. وفي البداية دارت رحى المعارك على الأرض، وهزمت الجحافل الرومانية القرطاجيين، وفي المرحلة الثانية من الحرب ركَّز القرطاجيون أعمالهم في البحر بالأساس؛ لأنهم افترضوا أن تفوقهم كان ملموسًا هناك، وتمكنوا بالفعل من إلحاق ضرر كبير بروما، ثم ربطت روما بين أسطولها المشكّل حديثًا بجسر يربط بين السفينتين، ويسمح للجنود بمهاجمة العدو.
وكان من شأن هذا أن يعكس مسار الحرب؛ إذ تُرك القرطاجيون منهزمين ويبحثون عن السلام، وفرضت روما معاهدة مهينة عليهم خسرت بموجبها الإمبراطورية القرطاجية صقلية، وسردينيا، وكورسيكا، واحتكارها التجاري.
وبعد حرب أهلية مضنية وصراعات مع الممالك المجاورة، بدأت قرطاج في التعافي مجددًا. وفي سبيله لمعادلة خسائره واستعادة سلطة قرطاج انطلق القائد القرطاجي هاميلكار باركا في حملة بإسبانيا، وأرسى أسس حكمًا قرطاجيًا عظيمًا هناك. وتأسست قرطاج الجديدة (وهي قرطاجنة حاليًا) على الساحل الجنوبي الشرقي لإسبانيا. وفي غضون سنوات قليلة، وبفضل التنقيب عن المعادن في إسبانيا، ملأ هاميلكار خزائن قرطاج من جديد، وأدَّى هذا التقدم حتمًا إلى التصادم مع روما، وفي عام 218 قبل الميلاد اندلعت الحرب مرة أخرى.
الحرب الثانية.. هزيمة حنبعل الأولى
يلفت التقرير إلى أن الحرب البونيقية الثانية (218-201 ق.م) بدأت على نحو كارثي في حق الرومان؛ إذ عبر القرطاجيون بقيادة القائد الموهوب حنبعل جبال الألب، وغزوا شمال إيطاليا، وجاب حنبعل مع جيشه أرجاء شبه الجزيرة كلها، ودمَّر البلاد. وفي معركة كاناي نجا 14 ألف روماني فقط من أصل 87 ألفًا من الموت المحقق، ولكن المسافة البعيدة عن قرطاج قطعت خطوط إمداد حنبعل، وفي الوقت نفسه نقل الرومان جيوشهم إلى أفريقيا، وهاجموا قرطاج، واضطر القائد الأكبر حينها للتخلي عن غزوته، وهرع لإنقاذ موطنه، ولكن بالقرب من زاما (تونس الآن)، لحقت الهزيمة الأولى بحنبعل، والتي كانت كارثية إلى الحد الذي اضطر قرطاج إلى السعي لطلب السلام مرةً أخرى.
وهذه المرة كانت المعاهدة كارثية ومدمِّرة؛ إذ أُجبرت الإمبراطورية التجارية على التخلي عن جميع أراضيها خلف البحار، وتسليم أسطولها، ولم يكن لها الحق أن تشن حربًا دون موافقة روما، كما كان عليها دفع تعويض ضخم في غضون 50 عامًا. وهرب حنبعل لاحقًا إلى المنفى، ثم انتحر في حوالي عام 183 قبل الميلاد.
الحرب الثالثة.. نهاية قرطاج
يشير الكاتب إلى أن السلام جلب حقبة جديدة من الازدهار لقرطاج، إلى الحد الذي جعل قرطاج تقدم عرضًا لروما بأن تدفع تعويضها في غضون 10 سنوات فقط بدلًا عن 50. وهذه الحيوية الهائلة والإصلاحات السياسية التي شهدتها قرطاج مثّلت تهديدًا شديدًا لأعدائها التقليديين. ولمدة عامين تقريبًا وحتى وفاته، ختم كاتو، عضو مجلس الشيوخ الروماني المسن، خطابه أمام المجلس بجملة «قرطاج يجب أن تُدمر».
وأخيرًا في عام 150 قبل الميلاد، أعطى انتهاك بسيط للسلام للرومان الفرصة التي لطالما بحثوا عنها. وأُعلنت الحرب، ووصفت بأنها «حرب تدمير». وحاصر الرومان على مدى ثلاث سنوات حصون المدينة على مساحة 30 كيلومتر، وكان لبعضها أسوار يزيد ارتفاعها عن 12 قدمًا. وفي عام 146 قبل الميلاد تمكن الرومان من اقتحام هذه الأسوار، وتقدم جنود الرومان عبر الشوارع الضيقة تحت وابل من السهام، وشرعوا في معركة شرسة. وفي اعتراف مؤسف للسجلات التاريخية القديمة اكتشف علماء الآثار عظامًا بشرية تحت كتل حجرية متناثرة.
وبعد ستة أيام مروعة من الحرب استسلم حوالي 50 ألفًا من سكان المدينة الجائعين الذين التمسوا اللجوء في قلعة قريبة منهم. أما الآخرون الذين أرادوا تجنب الإعدام أو العبودية فقد حبسوا أنفسهم في معبد أشمون وأضرموا النار فيه، ثم أحرق الرومان أنقاض المدينة، وسويت قُرطاج بالأرض، ولُعنت في احتفال خاص، ومُنع الناس من استيطانها. ويختم الكاتب بالقول: وهكذا في غضون 120 سنة دحرت روما مساعي قرطاج للهيمنة، واتضح فيما بعد أن الحروب البونيقية كانت حجر البداية لظهور الحكم الإمبراطوري الروماني الذي اجتاح العالم في نهاية المطاف.
المصدر: مواقع إلكترونية / إسبانيا بالعربي.