لبلة.. «المدينة الحمراء» التي احتفظت بأسوارها كاملة منذ عصر الأندلس
«مدينة لبلة كثيرة البركات فائضة الخيرات، بها صيد كثير من الطير، والوحش والحوت، وعنبها لا نظير له»
*المؤرخ الأندلسي أحمد بن محمد الرازي
في جنوب الأندلس بالقرب من إشبيلية، تقع مدينة لبلة الصغيرة، التي تُدهش زائريها بالكنوز الأثرية التي تضمُّها المدينة، بداية بأبوابها الخمسة العملاقة، التي يكون عليهم الدخول من أحدها، إذ ما تزال المدينة تحتفظ بسورها كاملًا من العصر الأندلسي؛ وحتى بتخطيطها الأقرب إلى تخطيط مدن العصور الوسطى، والذي ينبئ عن حياة مستقرة عاشها سكانها على مر القرون، وقد عملوا في التعدين والزراعة، وتوفرت لهم الثروة الحيوانية. وتركوا آثارًا كثيرة منذ العصر القوطي، ثم العصر الأندلسي.
لبلة.. المدينة الحمراء
تعد لبلة جوهرة باقية من العصور الوسطى في غرب الأندلس، حيث تقع في مقاطعة ولبة جنوب غربي الأندلس، بالقرب من مدينة إشبيلية، ويحيطها من أحد الجوانب نهر لبلة، وسُميت بالمدينة الحمراء نسبة إلى جدران سورها، وقد أحاطت بها أبراج قوية، وحصن مهيب في أحد أركانها، وكانت أبوابها تُغلق في الليل، ما جعل منها مدينة منيعة، وقيل إنها سميت كذلك بسبب اللون الأحمر لمياه نهرها المليء بالمعادن.
كانت أرضها توفر الخضراوات والفواكه للمدينة، وأشهرها العنب، وبساتين الزيتون، وأشجار التين، وعلى ضفتي نهر لبلة استخرج الناس المعادن، مثل النحاس والبرونز، وحوَّلوها إلى أعمال فنية زينت الدور الأندلسية بالثريات والمصابيح، والأباريق، والتماثيل، وكان صبغ الأقمشة من أهم الأنشطة التي عمل بها أهل لبلة، وكانت صقورها الأفضل في العصور الوسطى، حين كان صيد الصقور في عصره الذهبي، وبلغ سعر الصقر ما يماثل سعر الحصان العربي. كان في سماء لبلة أفضل الصقور وأنبلها، وأكثرها تقديرًا في الأندلس، وكانت في خدمة الحكام الأندلسيين، فشهدت تجارة الصقور ازدهارًا كبيرًا.
يُعتقد أن الليغوريين هم من أسسوا المدينة، وتتابع على حكمها الفينيقيون، والرومان، والقوط، ثم المسلمون، وحملت المدينة بصماتهم جميعًا – ومعهم قطع من العصر الحجري الحديث- في بقايا معمارية تمزج بينهم بحيث تبدو اليوم مثل فاكهة جميلة بقشرة حمراء هي سورها، ولبٍّ أبيض، هو بيوتها البيضاء، وقد أُعلنت موقعًا أثريًّا في ثمانينيات القرن الماضي.
ثورات في المدينة الصغيرة
تشكَّلت المدينة بصورتها الحالية على مر العصور، وقد فتحها المسلمون عام 713م على يد عبد العزيز بن موسى بن نصير، وبعد سنوات شهدت أرضها تمردًا على الحكم الأموي، قاده سعيد اليحصبي المعروف بالمطر. وذكرت بعض المصادر أن هذا التمرد كانت انتقامًا لمن قتل من اليمانية في ثورتهم على الحكم الأموي في بداياته، في عهد عبد الرحمن الداخل، وتجمع حوله عدد كبير من اليمانية، لكن الداخل حاصرهم في قلعة جابر التي تحصَّنوا فيها، وقتل عددًا كبيرًا منهم، وبينهم المطري، حتى طلبوا الأمان والصلح، وسلَّموا له القلعة، وشهدت عام 304هـ انفراد حاكمها عثمان بن نصر بها، فأرسل له عبد الرحمن الناصر حاجبه نصر، فطوَّق المدينة، واعتقل عثمان وأصحابه، وحملهم إلى قرطبة.
«ومدينة لبلة مدينة حسنة أزلية، وهي متوسطة القدر، ولها سور منيع، وبشرقيها نهر يأتيها من ناحية الجبل، ويجاز عليه في قنطرة إلى مدينة لبلة، وبها أسواق وتجارات ومنافع جمة، وشرب أهلها من عيون في مرج من ناحية غربيها، وبين مدينة لبلة والبحر المحيط ستة أميال» *ابن حوقل
بقيت لبلة تحت حكم الخلافة الأموية حتى سقوطها في القرن الرابع الهجري، وقيام دول الطوائف، فثار فيها أحمد بن يحيى اليحصبي، وبايعه أهلها على حكم المدينة، واستمر في حكمها عقدين حتى وفاته، وخلفه أخوه عز الدولة بعدها، فعاشت المدينة سنوات من النظام والرخاء والأمن، إلى أن دارت حولها المعارك والحروب بين المعتضد بن عباد حاكم إشبيلية، والمظفر بن الأفطس حاكم بطليوس.
هاجمها المعتضد واستغاث حاكمها ابن يحيى بصديقه المظفر، واجتمعت جيوش الطرفين، ودارت بينهم معارك شديدة، فقد فيها المعتضد عددًا كبيرًا من جنوده، وكادت الأمور تتحول إلى فتنة كبيرة، لولا تدخل أبي الحزم بن جهور حاكم قرطبة، الذي تمتعت دولته بمكانة أدبية خاصة، واتخذت دور الوسيط لفض النزاعات وإقرار السلم بين الأمراء، فعُقد الصلح عام 443هـ، لكن المعتضد لم يقنع وأعاد الهجوم على مدينة لبلة، لينجح في ضمها إليه عام 454هـ – 1023م، قبل سنوات من سقوط قرطبة نفسها في يد العباديين.
لم يخل تاريخ المدينة من فصول دموية أشد شراسة؛ إلى جانب تلك الصراعات التي شهدتها، فقد هاجمها الفايكنج عام 843م، ومرة أخرى عام 859م، ونظموا فيها هجومهم على إشبيلية قبل طردهم، الذي نتج منه أمر من الخليفة عبد الرحمن الناصر ببناء المزيد من الأبراج فيها لحمايتها.
وتبعت لبلة لدولة المرابطين عام 484هـ، وبقيت في أيديهم حتى قدوم دولة الموحدين عام 538هـ، وخرجت من حكم المسلمين نهائيًّا عام 655هـ – 1257م على يد ألفونسو العاشر، بعد حصار دام تسعة أشهر، وصارت جزءًا من مملكة قشتالة.
«جمعت البر والبحر والزرع والضرع والخيل والنتاج وأجناس الثمار وكثرة الزيتون والأعناب». *الرازي
لبلة.. مدينة من الماضي
في لبلة بُنيت الأسواق والحمامات التي تخدم سكان المدينة، وشُيد المسجد الجامع، وأُعيد استخدام معبد القوط الغربي فيها، وفي الركن الشمالي منها بُنيت القلعة، لكنها لم تصبح تلك المدينة المنيعة التي نعرفها اليوم، إلا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر؛ إذ يُرجح أن سور المدينة الذي يمنحها خصوصيتها اليوم، بُني في عهد الموحدين في جوانبها الثلاثة، وتمتع الجانب الرابع في الجنوب بالدفاع الطبيعي لنهر لبلة (أو تينتو كما يُسمى اليوم)، وقد بُني فيه عدد كبير من الأبراج المربعة بلغ 46 برجًا، وأُعيد فيه استخدام الحجارة الرومانية.
أكبر أبواب المدينة هو باب ثور، وهو باب لم يجر ترميمه أبدًا، بعكس السور والأبواب الأخرى التي خضعت للترميم لتبقى إلى اليوم كما هي، وتقول الأسطورة إنه سُمي كذلك بعد سقوط المدينة في يد القشتاليين، فعندما حاصرها جنود ألفونسو العاشر حصارًا طويلًا أطلق حاكمها ثورًا ضخمًا على الجنود ليخدعهم ويُظهر لهم أن المدينة مليئة بالمؤن والغذاء، وأنها لن تستسلم وإن طال الحصار.
وتحتفظ قلعة لبلة التي كانت مقرًّا لحكم الأمويين في المدينة، ثم مقرًّا لحكم القشتاليين، بكثير من القطع الأثرية التي تحكي في صمت تاريخ المدينة الزاخر، وعادات أهلها وحكامها في العصور الوسطى، في طوابقها العليا والسفلى؛ ففيها أحد الكراسي الباقية من العصر القوطي، وبقايا مئذنة المسجد الذي تحول لاحقًا إلى كنيسة، وقاعات الطعام، ومخطوطات تحمل خرائط للطريق نحو مكة، وفي أحد سراديبها ما تزال أدوات التعذيب التي استخدمت في محاكم التفتيش باقية تصف ما حدث.
وتعد كنيسة «سانتا ماريا دي غرناطة» التي كانت مسجدًا أحد أهم معالمها، إلى جانب الجسر الروماني الذي يعبر نهر لبلة، والذي تمتزج فيه بصمات رومانية وقوطية وإسلامية حفظها على مر السنين. ويستمتع زائروها اليوم بالحفلات الموسيقية التي تقام بجانب سورها الضخم في الهواء الطلق.
إسبانيا بالعربي.