ثقافة

«فن المانجا الياباني»: كيف ساهمت قصص هزلية في تقدم اقتصاد اليابان؟

يعرف الكثيرون مصطلح «المانجا» باعتباره فن قصص ورسومات أفلام الأنمي الياباني، لكن في الحقيقة يختلف «فن المانجا» عن فن الأنمي بشكل كبير؛ ففن القصص الهزلية الياباني (المانجا) له تاريخ طويل محليًا وعالميًا يسبق تاريخ الأنمي.

فالمانجا جزء من هوية اليابان، وساعدت في نشر المعرفة عنه عبر العالم، وتغطي موضوعاتها مختلف الأعمار، والأجناس، والخلفيات الاجتماعية، وكافة الموضوعات من التاريخ والرومانسية إلى الخيال العلمي المستقبلي والموضوعات العميقة للحياة، إلى جانب روايات الأبطال الخارقين، والرياضة، والأحداث التاريخية، والسياسة، كما أنها تساعد في بناء اقتصاد اليابان، ومنها خرج فن أفلام الأنمى الشهير، ويمكن القول إن تاريخ فن المانجا الياباني طويل وحافل، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ اليابان، وهذا ما سنتعرف عليه في السطور القادمة.  

«مخطوطات الحيوانات المرحة» وبداية فن المانجا

المانجا هي الرسومات الغريبة الهزلية بالأبيض والأسود، التي تُعرض في شكل قصة. يعتقد البعض أن أول ظهور لفن المانجا في اليابان كان بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، في سلسلة من رسومات الحيوانات عرفت باسم «مخطوطات الحيوانات المرحة»، مثل الضفادع والأرانب وغيرها من الحيوانات، والتي كانت مرسومة بملامح تبتسم مثل البشر، بعنوان «تشوجو جيجاط» ورسمها العديد من الفنانين في هذا الوقت.

أما مصطلح المانجا نفسه فقد استخدم لأول مرة عام 1798 لوصف الكتاب الهزلي المرسوم «شيجي نو يوكيكاي – (الفصول الأربعة)» للرسام والشاعر والكاتب الياباني سانتو كيودن، لكن ينسب البعض الفضل في إبتكار فن المانجا للرسام الأسطوري كاتسوشيكا هوكوساي.

1f8a963ef4c01103e82ccbdd6a6f2a4c
فن المانجا الياباني

ففي عام 1814 أطلق عدة كتب هزلية مرسومة تحت عنوان «مانجا»، بينما أطلق مجلته للمانجا عام 1874، واعتبرت مجلته هذه أول مجلة مانجا في العالم، ولذلك ينسب له البعض الفضل في ابتكار صناعة ستزدهر في المستقبل، وستقدر قيمتها بمليارات الدولارات.

اجتذبت قصص المانجا شعب اليابان، وأصبحت جزء من الثقافة الشعبية والتاريخ في اليابان، وتطورت الرسومات كثيرًا على يد الفنان هوكوساي، وأثناء فترات صعود تيارات الإمبريالية والقومية اليابانية استخدمت الإمبراطورية اليابانية فن المانجا لنشر الدعاية حول فوائد القيادة اليابانية، وأمجاد اليابان وتاريخها، وعلى الجانب الآخر وثقت المانجا كل جوانب الحياة وتفاصيل البشر، وأصبحت مدرسة في الرسم يحاول الجميع تقليدها، حتى تغير كل شيء مع بداية الحرب العالمية الثانية، وبدأ فصل جديد من تاريخ المانجا الياباني.

الحرب العالمية الثانية وثورة الكتب المصورة اليابانية

وجدت اليابان نفسها تحت احتلال الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية التى كانت فاجعة على اليابان لكنها في الوقت نفسه كانت حدثا مهما في تاريخ تطوير صناعة المانجا. فقد جلب الأمريكيون كتب الرسوم الهزلية والرسوم المتحركة الخاصة بهم، مثل أعمال ديزني «ميكي ماوس» وغيرها إلى البلاد؛ الأمر الذي زاد من رواج المانجا الشعبية باعتبارها منافسًا للأعمال الأمريكية، وزاد أيضًا من جودة المانجا نتيجة التأثر بمدرسة غربية أمريكية.

هزيمة اليابان في الحرب حدت من مساحة استغلال السلطة لفن المانجا؛ مما أعطى الفنانين اليابانيين الفرصة لعرض أفكارهم وأسلوبهم الخاص، وفي مفارقة غريبة بدأ جميع الرسامين في رصد وتوثيق الحرب، وآثار القنبلة المدمرة في كتب المانجا الهزلية الساخرة ذات الرسوم الغريبة إلى جانب الحياة اليومية، وأفكار المستقبل، وبدأت جميع الصحف والمجلات في نشر المانجا بشكل منتظم، ومن أشهر تلك السلاسل التي وثقت آثار القنبلة الذرية على هيروشيما وناكازاكي سلسلة المانجا «جين الحافي» التي تتحدث عن الطفل جين الذي يحاول مساعدة الجميع.

بدأت المانجا في الظهور بالشكل الذي نعرفه اليوم خلال فترة ما بعد الحرب، فقد كانت تلك الفترة بمثابة ثورة محلية وعالمية في صناعة المانجا، وفي الخمسينات ابتكر الفنان الياباني أوسامو تيزوكا الشخصية الأبرز في تاريخ المانجا الياباني «أسترو بوي»، الذي كان يجسد الجمالية والمثالية، وسرعان ما أصبح محبوبًا للغاية في اليابان وخارجها.

ad3b296f9545d80020791d902c2bfabe
فن المانجا الياباني

وقدمت القصة في 23 مجلدًا أو سلسلة، وتدور أحداثها في عالم مستقبلي تتعايش فيه الروبوتات مع البشر، وتعد سلسلة «أسترو بوي» واحدة من أنجح قصص المانجا في العالم، وقد بيع منها أكثر من 100 مليون نسخة مجمعة من الـ23 مجلدًا، كما تحولت شخصية المانجا إلى فيلم أنمي يحمل الاسم نفسه فيما بعد.

من الجدير بالذكر أن الفنان أوسامو تيزوكا مبتكر شخصية «أسترو بوي» يلقب بـ«أبي المانجا والأنمي» وينسب إليه ابتكار العيون الكبيرة المميزة البارزة، وما زالت أعماله تؤثر في الفنانين حتى اليوم، فمن بعده فتحت الأبواب على مصراعيها أمام صناعة المانجا.

زاد جمهور فن المانجا في الستينات من القرن الماضي، وتطور نشر المانجا إلى مجلات هزلية أسبوعية، وشهرية، وكتب مخصصة، وظهر تطور التقسيم والتنوع في فن المانجا؛ فأصبحت هناك قصص مانجا للذكور فقط تسمى «شونين مانجا»، ثم ظهر في بداية السبعينات نوع جديد من المانجا خاص بالإناث سمي «شوجو مانجا»، وأصبح هناك مانجا مقسمة وفقًا للشرائح العمرية المختلفة من أقل من 18- 45 عامًا أو أكثر، ويوجد أيضًا المانجا الخاصة بالأطفال حديثي الولادة، وحديثي التحدث والتعلم، وهناك المانجا الخاصة بمجتمع الميم، والمانجا الخاصة بالجنس، والرغبات المنحرفة، والتى تسمى «هنتاي مانجا».

فن المانجا: سر صناعة الأنمي وسلاح اليابان الناعم حول العالم

يخلط العديد من الناس بين المانجا والأنمي، ويشير مصطلح المانجا في وقتنا الحالي إلى جميع أنواع الرسوم الكاريكاتورية: الرسوم الهزلية، والرسوم المتحركة، والأنمي، في اليابان، ويغفل ذلك الخلط دور فن المانجا أو قصص الكتب الهزلية الياباني باعتبارها فنًا قائمًا بذاته ساهم في ابتكار فن الأنمي من الأساس، وهذا ما حدث بالفعل.

فقد جاءت المانجا قبل الأنمي، واستخدمت العديد من شخصيات قصص المانجا أبطال لأفلام الأنمي في البداية وحتى الآن، وتختلف صناعة قصص المانجا عن صناعة قصص الأنمي ولكل منهم ميزانية وأرباح خاصة، لكن في النهاية تمثل الصناعتان واحدةً من أكبر القوى الناعمة لليابان، وسلاحًا اقتصاديًا وثقافيًا فريدًا من نوعه.

تحطم المانجا المصورة اليابانية باستمرار الأرقام القياسية لعدد النسخ التي تُباع سنويًا من بعد الحرب العالمية الثانية، وتنافس الكتب الهزلية الأمريكية بشدة، بل تتفوق عليها دائمًا، كما أن لها تأثيرًا بعيد المدى، وتتحول بسرعة إلى كتب، وبرامج تلفزيونية، وأفلام أنمي، وشخصيات في ألعاب الفيديو أيضًا؛ مما يجعلها مصدرًا كبيرًا لربح الاقتصاد الياباني.

فعلى سبيل الذكر وبلغة الأرقام بلغت مبيعات كتب المانجا حول العالم عام 1984 حوالي 1.4 مليار نسخة، ووصلت 2.3 مليار نسخة عام 1995، وفي أوائل القرن الحادي والعشرين شكلت المجلات الهزلية 37% من سوق النشر الإجمالي في اليابان من حيث الحجم و23% من حيث القيمة، وفي عام 2020 بلغت قيمة سوق مبيعات المانجا الياباني 613 مليار ين ياباني.

كما تجاوزت المانجا الحواجز الثقافية، وتركت انطباعًا مبهرًا لدى الجماهير في جميع أنحاء العالم؛ لتصبح أكثر الصادرات الثقافية شعبية في اليابان، فمنذ أواخر الثمانينات اجتاحت المانجا اليابانية العالم؛ فازداد تأثيرها في سوق الرسوم الهزلية العالمي بشكل كبير في العقدين الماضيين.

وقد فتحت السوق الأوروبية أبوابها أمام المانجا خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، فكانت دول مثل فرنسا، وألمانيا، وإسبانيا، وهولندا، وإيطاليا، منفتحة على التأثيرات الثقافية الخارجية، وكانت فرنسا أكبر سوق للمانجا في أوروبا، وشكل كاريكاتير المانجا نسبة 40٪ من جميع القصص المصورة التي تُنشر في فرنسا.

وانتشرت المانجا في الولايات المتحدة الأمريكية عبر المهاجرين الآسيويين، لكن بشكل عام فإن السوق الأمريكية أقل تسامحًا مع المنتجات الثقافية الأجنبية، ورغم ذلك نجحت المانجا في اختراق السوق الأمريكية الصعبة، وجنت أرباحًا قدرت عام 2009 بقيمة 110 مليون دولار، وانتشرت بشكل أكبر في العقد الماضي، وأصبحت هناك شركات إنتاج وأستوديوهات مشتركة بين اليابان وأمريكا.

ولذلك تعد المانجا عنصرًا مهمًا من عناصر الهوية اليابانية وتراثها الشعبي، وعلى الجانب الآخر تعد سلاحًا اقتصاديًا وثقافيًا قويًا يساعدها في تعزيز مكانة اليابان بين دول العالم.

مواقع إلكترونية / إسبانيا بالعربي.

أخبار جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *