من عبق التاريخ

الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز.. عندما سبقت الحلول السياسية حد السيف!

عشرات الجثث تتوسد الرمال في تلك البقعة من الأراضي الشامية، ولم تزل دماؤها الساخنة تطارد وجه الأديم. نحن الآن في عام 132هـ، وكان ذلك نتيجة مذبحة مروَّعة جديدة ارتكبها عبد الله بن علي العباسي، عم الخليفة العباسي الأول أبي العباس –الملقَّب بالسفاح– أحد قادة جيوش العباسيين، التي نجحت في القضاء على خلافة الأمويين بعد ثورة دموية عنيفة دامت سنوات، تجلَّت باقتحام جيوش العباسيين بقيادة عبد الله بن علي عاصمة الأمويين، دمشق، وقتلهم المئات من الأمويين، وتتبعهم في كل مكان كانوا يفرون إليه من بطش الثوار الموتورين، الذي قرروا إذاقة الأسرة الحاكمة المخلوعة الكيل بـ10 مكاييل.

في يوم المذبحة المذكورة، أذاعت رُسُل عبد الله أنه قد عفا عن بني عمومته الأمويين، وأعطاهم الأمان، ويدعوهم إلى مشاركته في وليمة طعام بمعسكره، تأكيدًا لهذا الأمان. بالفعل خرج عشرات الأمويين من مخابئهم، وذهبوا إلى المعسكر، ليفاجأوا أثناء المأدبة بأحد شعراء العباسيين يلقي بقصيدة تحريض عاصفة تذكر بجرائم الأمويين إبان حكومتهم، فيأمر عبد الله بن علي بقتل ضيوفه المستأمَنين، لتختلط دماؤهم بدماء الذبائح التي أريقت على شرفهم.

أكثر ما يروع في تلك المذبحة، أنها كانت واحدة فقط من عشرات المذابح التي تخلَّلت جولات انتقام العباسيين من الأمويين بعد نجاح ثورتهم ضدهم. كان المنتصرون يبررون مثل هذه الأعمال الوحشية بأنها المقابل العادل لما فعله الأمويين أيام سطوتهم ودولتهم ضد كل من حاول معارضتهم.

لكن المفارقة، أن تلك المذبحة ونظائرها؛ ساهم الأمويون قبل حوالي 30 عامًا بدور حاسم في جعل وقوعها حتمية تاريخية، وذلك عندما أجهضوا أبرز محاولة إصلاحية في العهد الأموي، باغتيال صاحبها الخليفة الشاب العادل عمر بن عبد العزيز الأموي بالسُّم، والذي لو منحت تجربته الوقت الكافي، لمثّلتْ إعادة تأسيس شاملة للدولة الأموية، على منهاجٍ من العدل، والإنصاف، ولأزالت سياسته الاستيعابية أطنان الأحقاد التي خلّفها استبداد الأمويين في 60 عامًا؛ سبقت وصوله إلى منصب الخلافة. تلك الأحقاد التي كانت وقودًا لما ناله الأمويون من مذابح إبّان سقوطِ دولتهم.

هكذا نشأ عمر

وكان عمر بن عبد العزيز يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله، يسمع منه العلم، فبلغ عبيد الله أن عمر يتنقَّص عليًّا، فأقبل عليه، فقال: متى بلغك أن الله تعالى سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم، فعرف ما أراد، وقال معذرة إلى الله وإليك، لا أعود. فما سُمع عمر بعدها ذاكرًا عليًّا إلا بخير. *سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي.. فصل عمر بن عبد العزيز

من أهم ما تميَّزت به النشأة الأولى لعمر بن عبد العزيز بن مروان، والتي كان لها أثر كبير في اختلاف سمات شخصيته وطباعه ومزاجه النفسي وتصرفاته شابًا ورجلًا، عن الغالبية العظمى من أمراء البيت الأموي؛ أنه لم يطُل به المقام كثيرًا في بلاط الأمراء والخلفاء، حيث العيش الرغد، وتربية العزلة في القصور. إذ إن والده عبد العزيز بن مروان – أخا الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان- والذي كان واليًا على مصر، وكان يتصف بقدرٍ من التدين، سرعان ما أرسله قبل أن يصل إلى سن البلوغ إلى المدينة المنورة، والتي كانت قلعة العلماء التابعين الذين يقل نظراؤهم في كافة أرجاء الدولة، وذلك لكي يطلب العلم الشرعي صغيرًا، ويبرع فيه، وقد كان.

كذلك كانت المدينة المنورة – والحجاز عمومًا- من معاقل المعارضة ضد الحكم الأموي، منذ أن كانت مسرحًا لواحدة من أفظع جرائم الأمويين عام 63هـ، وهي المعروفة بموقعة الحرة، عندما اقتحمت جيوش الشام التي أرسلها يزيد بن معاوية لقمع ثورة أهل المدينة، فارتكبت العديد من جرائم الحرب بحق المدنيين، وأجبروا على بيعةٍ مذلةٍ ليزيد بن معاوية الذي نكلَّت بهم جيوشه. ولعلَّ عمر تأثر ببقايا تلك الأجواء في مقامه بالمدينة طالبًا للعلم.

درهم أموي يرجع إلى عهد عمر بن عبد العزيز

بعد وفاة والده عبد العزيز، قرَّبه عمه عبد الملك، وعده من خاصة أولاده. وعندما تولى الوليد بن عبد الملك الخلافة عام 86 هـ بعد أبيه، قام بتعيين عمر بن عبد العزيز واليًا للمدينة، ولعلَّه أراد بذلك تسكين خواطر أهلها، والحجازيين عمومًا، والذين كانوا يجلُّون عمر منذ أيام طلبه للعلم فيها. أحسن عمر إلى أهل المدينة كثيرًا، وجعل من كبار فقهائها مستشارين له، لا يقطع أمرًا كبيرًا بدونهم.

اشتهر عمر كذلك بأنه كان يأوي الفارين من بطش غيره من ولاة الأمويين، خاصة الحجاج بن يوسف الثقفي، والذي كان عمر يجاهر بعداوته، رغم أنه كان أقوى رجال دولة الوليد بن عبد الملك، لما أظهره من كفاءة دموية في قمع العراق وفارس، والتي كانت معقل أضخم الثورات ضد الأمويين، وهي ثورة ابن الأشعث عام 82هـ.

لست سنوات، استمرَّ عمر بن عبد العزيز على المنوال نفسه من العدل في ولاية المدينة، وفي تأليف قلوب أهلها، حتى وقعت حادثة مؤسفة، عندما طلب الوليد بن عبد الملك منه تأديب خُبيب بن عبد الله بن الزبير، والذي كان من أهل المدينة وشاع سبه للأمويين.

توفى خبيب بعد أيامٍ من جلده بأمر عمر بن عبد العزيز، فشعر عمر بتأنيب شديد من ضميره، فاستقال من ولاية المدينة، واعتزل في بيته بالشام سنوات، حتى أرسل له سليمان بن عبد الملك لما تولى الخلافة عام 96هـ بعد وفاة أخيه الوليد، وطلب منه أن يساعده في إدارة الدولة، فقبل عمر على أمل إصلاح ما يمكن إصلاحه. وبالفعل كان سليمان وولاته أكثر رفقًا بالرعية مما كان عليه الحال في عهديْ أبيه عبد الملك، وأخيهِ الوليد.

العهد العُمري.. العدل أساس المُلك

كان هذا الرجل حسن الخلق، كامل العقل، حسنُ السمت، جيد السياسة، حريصًا على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، ظاهر الذكاء والفهم، أوَّاهًا منيبًا، قانتًا لله، حنيفًا زاهدًا مع الخلافة، ناطقًا بالحق مع قلة المُعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملُّوه وكرِهوا محاققته لهم، ونقصِهِ أُعطياتهم، وأخذه كثيرًا مما في أيديهم، مما أخذوه بغير حق، فما زالوا به حتى سقوه السم، فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُد عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين، والعلماء العاملين. *الحافظ الذهبي متحدثًا عن عمر بن عبد العزيز، في موسوعة سير أعلام النبلاء

تولّى عمر بن عبد العزيز الخلافة عام 99هـ، بوصية استثنائية من ابن عمه سليمان بن عبد الملك. كان مهندس تلك البيعة الاستثنائية، هو الوزير رجاء بن حيوة وكان من المقدَّمين في البلاط الأموي، خاصةً في عهد سليمان بن عبد الملك، إذ لما استشاره سليمان وهو على فراش الموت، فيمن يوصي له بالخلافة، ذكَّره بعظم المسئولية أمام الله إن لم يخترْ للأمة أصلحها، وأشار عليه بعمر بن عبد العزيز، ثم من بعده يزيد بن عبد الملك، وذلك ليسكّن غضب آل عبد الملك بن مروان، أقوى فروع الأسرة الأموية الحاكمة. فأقرَّ سليمان مشورة وزيره.

عندما تُوُفِّيَ سليمان، وقبل أن يذيعَ الخبر، جمع رجاء وجوه بني أمية، والمقدمين في دولتهم، وأخبره أن وصية سليمان في الورقة المختومة بيده، وأنه لن يفضَّها حتى يقسموا جميعًا بالموافقة على ما فيها قبل أن يعرفوا، ففعلوا بعد شد وجذب ،خاصة من بعض أولاد عبد الملك. وهنا ألقى عليهم بالصاعقة، وأخبرهم أن الخليفة الجديد هو عمر بن عبد العزيز، والذي كان بين الحاضرين، فكان أشدهم فزعًا.

حصار المسلمين للقسطنطينية سنة 98هـ، وهو الحصار الذي توفي سليمان بن عبد الملك وهو يُديره، وتولى عمر بن عبد العزيز الخلافة.

أصبح عمر حينئذ وجهًا لوجه مع ميراث ثقيل من مظالم العهود الأموية التي سبقته. كان السيف والدسائس دائمًا هما الفيصل بين الأمويين، وخصومهم، وكانت كل جولة من القمع، تضيف شهداءً جدد، وموتورين جدد، وتضاعف من أرصدة الحقد ضدهم.

فما زالت دماء الحسين بن علي، حفيد النبي محمد، وجُل رجال آل البيت النبوي، تغلي في كربلاء منذ قتل جيوش الأمويين لهم عام 61هـ. كذلك لم تنسَ مدينة الرسول من استباحوها عام 63هـ، ولم تمضِ على وفاة النبي إلا بضع عشراتٍ من السنين، وما تزال ذاكرة الأمة تحتقن بمشاهد هجوم جيوش الشام الأموي على الثائر عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة مرتين، عاميْ 64 و73هـ، ليُقتل الرجل في الحرم الذي انتهكه الغزاة.

كان هناك أيضًا الآلاف المؤلفة من ضحايا بطش الحجاج أثناء ولايته للعراق وما تلاها على مدار 20 عامًا، وكثير منهم من العلماء، والقرّاء، ومن آل البيت. كذلك تعرَّض الفرس وسواهم من الأعاجم لتمييز كبير ضدهم من الأمويين، ومن ولاتهم، الذي كانوا يفرضون عليهم دفع الجزية حتى بعد إسلامهم.

كان من أوائل قرارات عمر بن عبد العزيز من أجل تخفيف الاحتقان السياسي والطائفي، منع سب الإمام علي بن أبي طالب على المنابر، وكتب بذلك إلى جميع أرجاء الدولة، وكان من سبقوه من الخلفاء والأمراء الأمويين يفعلون بذلك -وكان منهم والده عبد العزيز بن مروان نفسه- ويشجعون عليه، أو على الأقل يتغاضون عنه.

وَلِيتَ وَلَمْ تَشْتُمْ عَلِيًّا وَلَمْ تُخِفْ ـــــــــ بَرِيًّا وَلَمْ تَتْبَعْ مَقَالَةَ مُجْرِمِ

تَكَلَّمْتَ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ وَإِنَّمَا ــــــــــ تُبَيَّنُ آيَاتُ الْهُدَى بِالتَّكَلُّمِ

*الشاعر كُثيّر عزة، وكان شيعي الهوى، يمتدح عمر بن عبد العزيز.

كذلك كان عمر يرى أن أي إصلاحٍ حقيقي، لا بد أن يركز على السياسات المادية الخاطئة التي انتهجها أسلافه، والذين كانوا يتعاملون مع بيت المال وأملاك الدولة، على أنها ملكية مطلقة للحاكم يتصرف فيها كيفما يشاء، فأغدقوا العطايا دون حساب على أفراد الأسرة الأموية، وعلى كبار رجال الدولة، على حساب الغالبية العظمى من الأمة.

بدأ عمر بأهل بيته، فأمر زوجته بالتنازل عن الجواهر والحُلي التي تملكها إلى بيت المال، ففعلت. كذلك أمر ببيع دواب موكب الخليفة، ورد أثمانها لبيت المال، واكتفى ببغلته. ثم شنَّ حملة كبيرة ضد مظالم الأمويين، وأعاد الكثير من الأموال غير الشرعية إلى بيت المال، مما أغضب الكثيرين منهم، وحاولوا توسيط عمته فاطمة بنت مروان، لتثنيه عن ذلك، ففشلت.

أجرى عمر بن عبد العزيز تعديلاتٍ عديدة في ولاة الأقاليم، فعزل من اشتهروا بالقسوة والغلظة، وأرسل رسائله تترى إلى الولاة الجدد، ينهاهم فيها عن ضرب الناس، أو أخذ أموالهم بغير وجه حق، أيًّا كان التبرير لذلك. وأمر بسجن يزيد بن المُهلَّب، والي العراق وخراسان، عقوبة له على احتجاز الكثير من أموال بيت المال بغير وجه حق.

أما بعد: فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فاذكر قدرة الله – تعالى- عليك، ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك. *من كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله

كذلك ردّ بحزم على أحد ولاته الذي أراد أن يلزم أهل الذمة بعد إسلامهم بالجزية، لئلا تتأثر حصيلة بيت المال، فقال له في رسالةٍ مشهورة: «إن الله بعث محمدًا داعيًا ولم يبعثه جابيًا، فإذا أتاك كتابي، فإن كان أهل الذمة أشرعوا في الإسلام، وكسروا الجزية، فاطو كتابك وأقبل».

في سياقٍ آخر، عندما شكا إليه المسيحيون في دمشق أن الوليد بن عبد الملك انتزع منهم كنيسة يوحنا بالإكراه، لتوسعة جامع دمشق الكبير، أوشك أن يأمر بهدم التوسعة، وإعادة بناء الكنيسة، لولا أن نجح أعيان المدينة في التوصل إلى تفاهم مع المسيحيين، بتعويضهم بكنائس أخرى، مقابل ترك الجامع على حاله، وكان أهل دمشق يفخرون بضخامة بنيانه، وروعة زخارفه.

المسجد الأموي في دمشق
الجامع الأموي في دمشق (مواقع التواصل الاجتماعي)

الحوار مع الخوارج.. هكذا حُقن الدم

بَلَغَنِي أَنَّكَ خَرَجْتَ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلَسْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّي، فَهَلُمَّ إِلَيَّ أُنَاظِرُكَ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ بِأَيْدِينَا دَخَلْتَ فِيمَا دَخَلَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِكَ نَظَرْنَا فِي أَمْرِكَ. *من كتاب عمر إلى أحد زعماء الخوارج.

في عام 100هـ، ثار بعض الخوارج في العراق، فأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى واليه بالكوفة ألا يحاربهم، ما لم يسفكوا دمًا حرامًا، وكان هذا مخالفًا بشكل جذري لسياسة من سبقوه وولاتهم، الذين كانت الحلول الأمنية والعسكرية هي شغلهم الشاغل دائمًا.

ثم أرسل عمر بن عبد العزيز إلى زعيمهم يدعوه للحوار والمناظرة، فأرسل إليهم بعض رجاله من أجل ذلك. سأل عمر وفدَ الخوارج عن سبب خروجهم عليه، وأخذّ يفنِّدُ حُجَجَهم، في مناظرة طويلة، نقلها المؤرخون، نوقش فيها أفعال الخلفاء السابقين عليه، وطلبوا منه في آخرها ألا يدفع بولاية العهد من بعده إلى يزيد بن عبد الملك. ويمكن القول بأن سياسة الحوار التي تبناها عمر، بجانب عدله وإصلاحاته، كان لها دور بارز في تسكين ثورات الخوارج، ومنع وقوع العنف، وسقوط الضحايا.

الفتوحات الإسلامية.. تقييم وتقويم

يعتز الكثير من المسلمين حتى الزمن الحاضر بالفتوحات العسكرية الإسلامية، في مشارق الأرض ومغاربها في القرن الأول الهجري، ويرونها من أكثر الحروب في تاريخ البشرية نبلًا، وسمو غاية، إذ كانت تهدف إلى كسر شوكة طغاة العالم القديم، المتحكمين في مصائر البشر والحجر، كي تفتحَ الأبواب أمام وصول دعوة الإسلام إلى كافة أرجاء المعمورة.

رغم ما تحمله العبارات السابقة من قدرٍ كبير من الصحة، فإن بعض علامات الاستفهام المنطقية تحوم حول فتوحات الأمويين، الذين نكَّل ولاتهم بخصومهم من المسلمين كثيرًا، فكيف كان تعاملهم مع غير المسلمين الذين أصبحوا تحت سلطانهم في البلاد المفتوحة؟! كذلك كان للأغراض السياسية، وللرغبة في التوسع، وزيادة موارد الدولة من الغنائم والخراج، حضور أكبر بكثير في الفتوحات الأموية، مقارنةً بالفتوحات الإسلامية الكبرى في عصر الخلفاء الراشدين.

أيضًا كان من أسباب حرص الأمويين على التوسع في الحروب الخارجية، إنهاك القوى الداخلية أولًا بأول، وإشغالها عن الصراع السياسي الداخلي، خصوصًا أهل العراق وخراسان، حيث معاقل المعارضة للأمويين.

كان هناك مثالان بارزان للسياسة العُمرية الجديدة في التعامل مع مسألة الفتوحات الإسلامية الأموية. المثال الأول كان في إصدار عمر بن عبد العزيز قرارًا عاجلًا بعد أيامٍ معدوداتٍ من تولِّيه بسحب الجيش الإسلامي المحاصر للقسطنطينية منذ أشهر، بقيادة مسلمة بن عبد الملك.

إذ كانت تلك الحملة العسكرية قد واجهت صعوباتٍ عسكرية ولوجيستية عديدة، خاصة مع طول المسافة بين الجيش، والقواعد الإسلامية في الشام، ورغم ذلك؛ كان سليمان بن عبد الملك مُصرًّا على استكمال الحصار، وأقام في دابق شمال الشام ليتابع تطورات المعركة. رأى عمر أن استمرار الحملة بالوضع الحالي يعرض حياة آلاف الجند للخطر، ولذا أمر بإلغائها، وأرسل إمداداتٍ كثيرة لتعين الجيش في رحلة العودة.

أما الموقف الثاني، فكان إلغاءه فتح مدينة سمرقند بآسيا الوسطى، عندما جاءه وفدٌ من أعيانها يشكو أن جيش المسلمين اقتحمها دون أن يمهلهم للاختيار بين الإسلام أو الجزية.

عمر والأندلس.. هكذا هدأت القلاقل

فتحت الأندلس عام 92 هـ قبل خلافة عمر بن عبد العزيز بسبعة أعوام. لم تكن الأمور في الأندلس على ما يُرام في السنوات الأولى بعد الفتح، إذ كثرت الاضطرابات والقلاقل، نتيجة الخلافات بين العرب والبربر المكونين لجيش الفتح، على توزيع الثروة الهائلة التي تمتاز بها الأندلس، وكذلك النزاع على ولايات المدن، والمناصب المهمة في الجيش. كذلك عزَّز من اضطراب الأوضاع في الأندلس بُعدَها الشديد عن عاصمة الخلافة دمشق، ما أضعف من السيطرة المركزية على الأمور في ذلك القُطر الغربيَّ القاصي.

كان مصير عبد العزيز بن موسى بن نصير، أول ولاة الأندلس، هو القتل عام 97هـ على يد بعض الجند المتمردين، ليخلفه ابن أخته في الولاية لحوالي ستة أشهر، ثم يخلفه الحرَ الثقفي، والذي كان شديد القمع والوطأة بحجة قمع الفتن، وإعادة الاستقرار. لم يمنع بطش الحر من وصول الفتن والاضطرابات إلى قرطبة، عاصمة الأندلس الإسلامية. عندما وصلت أنباء تلك الاضطرابات إلى عمر بن عبد العزيز بدمشق، وبلغه كذلك إسراف واليها الحر الثقفي في البطش والقسوة، قرَّر عزله عن منصبه، لكن عمرًا فكَّر أيضًا في أمرٍ أشد خطورة.

قرطبة
قرطبة

أوشك الخليفة عمر بن عبد العزيز أن يصدر قرارًا بإلغاء فتح الأندلس، وإعادة المسلمين إلى بلاد المغرب، وذلك لخشيته من عزلتهم وراء البحر في ذلك الإقليم البعيد عن العاصمة، مما يشجع المطامع، والاضطرابات، ويحد من قدرة الدولة على دعم الوجود الإسلامي هناك في حالة استغلَّ العدو ضعفَهم وتفرُّقَهم. لكنه تراجع عن هذا القرار عندما أخبره مستشاروه أن أعدادًا كبيرة من المسلمين استوطنوا هناك، وتزوَّج بعضهم من سكانها، وأنجبوا، فتراجع عن مشروعه، وأرسل السمح بن مالك الخولاني واليًا على الأندلس منتصف عام 100هـ.

كان السمح خيرُ ممثل لعمر بن عبد العزيز، ولمشروعه الإصلاحي، فأظهر العدل في المسلمين، وغير المسلمين، وألغى أي زيادات غير شرعية في مقادير الجزية والخراج، فالتف حوله كافة سكان الجزيرة، ونجح في شهور قليلة في لجم كافة الفتن والاضطرابات. بعد أن اطمأنّ السمح إلى الجبهة الداخلية، جهَّز الجيش، وتوجه شمالًا ليغزو جنوبي فرنسا، لكنه قُتل هناك عام 102هـ بعد سلسلة من الغزوات المظفَّرة، وكان هذا بعد وفاة الخليفة عمر بعام.

ما بعدَ عمر.. المصير المحتوم

تذكر الروايات أن خليفة عمر، يزيدَ بن عبد الملك، حاولَ أن يتمثَّل عدله، ويحافظ على إصلاحاته، لكن ما لبثت الأمور أن عادت تدريجيًّا إلى ما قبل العهد العمري، وعاد الأمويون للتسلط، وللأساليب نفسها في قمع الخصوم، خاصة في عهد هشام بن عبد الملك (105هـ- 125هـ) الذي خلف يزيدًا، وكان آخر ملوك بني أمية الأقوياء.

إذ تولَّى بعده ابن أخيه الوليد بن يزيد، والذي اشتهر بالمجون، وتصادم مع بعض أبناء عمومته المعترضين على خلافته، ونكَّل بهم، فثاروا عليه وقتلوه بزعامة يزيد بن الوليد، الذي كان من فضلاء البيت الأموي، وأعلن أنه سيحذو حذو عمر، لكنه توفى بعد أشهر، وتولى بعده أخوه إبراهيم لأسابيع، قبل أن ينتزع منه مروان بن محمد بن مروان الخلافة عام 127هـ، وكان أقوى الأمراء الأمويين آنذاك، لكن الدولة كانت قد فقدت الكثير من قوتها في تلك الصراعات.

في ذلك الوقت، وفي خراسان – في إيران حاليًا- أقصى شرق الدولة، اندلعت أقوى ثورة في تاريخ الأمويين، إذ أعلن أبو مسلم الخراساني ذو الأصل الفارسي، الثورة ضد الأمويين، نيابةً عن أئمة آل البيت -كانوا آنذاك من العباسيين، نسل عبد الله بن عباس ابن عم الرسول- الذين اختاروه لقيادة الثورة، التي استغرق التحضير السري لها أكثر من 30 عامًا. في غضون سنواتٍ قليلة، نجحت الثورة العباسية في سحق دولة الأمويين، ولعلَّ بعض عقلاء الأمويين آنذاك تذكرَّ عمر بن عبد العزيز، وأقرَّ أنه لم يكن يصلحُ الدولة فحسب، إنما كان يحاول حقن عشرات الآلاف من دمائهم ودماء غيرهم.

المصدر: صحف ومواقع / إسبانيا بالعربي.

أخبار جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *