الحمام الزاجل.. الطائر الذي «صنع التاريخ»
أغوى الحمام العرب منذ القدم بأنواعه التي كان أكثرها تقديرًا «حمام الحمى» في الحرم النبوي، فقد كان رسول السلام الأول الذي حمل غصن الزيتون إلى النبي نوح بعد الطوفان، ثم استُخدم في المراسلات فصنع الأحداث جنبًا إلى جنب مع البشر، فأنقذ مدنًا من الفتك بها، في ذلك الزمان كان الحمام أسرع وسيلة استخدمها البشر في المراسلات، وكان سرّه جديرًا بالتأمل؛ فصارت رعايته وتدريبه هواية خدمت تاريخ الأمم، فكيف دخل هذا الطائر ليصبح رسول البشر عصورًا طويلة؟
رسول أمين في الهواء
ارتبط الحمام الزاجل بتاريخ الممالك والحضارات العظيمة في العالم القديم، فاستُخدم في مصر القديمة والصين والحضارة الرومانية واليونانية. ولعب دورًا حاسمًا في الاتصالات بين المدن حتى منتصف القرن التاسع عشر. واستُخدم الحمام الزاجل في المراسلات منذ ما قبل الميلاد، فكان الأباطرة الرومان يحملون مع جحافلهم آلافًا من طيور الحمام الزاجل للتواصل بينهم، والإبلاغ عن فتوحاتهم وتقدمهم بالحروب في مدن العدو، وكانت تُباع بمبالغ باهظة للفرسان.
في الألعاب الأولمبية كان اللاعب يصطحب معه طير حمام، وحين يفوز يربط حول عنقه شريطًا بلون الفريق الفائز ويطلقه؛ فيعود إلى برجه مبشرًا أهله بالفوز. وكان المؤرخ الروماني بلينوس يقول عن الحمام: «وكان للأخبار رسول أمين في الهواء».
كيف يعرف طريقه؟
تصل أنواع الحمام إلى حوالي 500 نوع، أشدها ذكاء هو «الحمام الزاجل» المعروف بقدرته الفائقة على الطيران والاهتداء لموطنه، وهو يتبع الفصيلة الكولومبية التي تكثر في المناطق الحارة والمعتدلة، وهو الحمام الأليف المستأنس من حمام الصخور، ويستطيع الطيران ألف كيلومتر دون انقطاع، وتبلغ سرعته كيلومترًا في الدقيقة، ويزن 1.5 رطل.
وقد حاول العلماء تفسير هذه القدرة الفائقة، لكن تفسيراتهم بقيت احتمالات لم تؤكدها الأدلة، وبين هذه التفسيرات حاسة البصر الثاقبة التي يمتلكها الحمام الزاجل، والتي تكون قوية خلال النهار، وتضعف في الليل؛ فيتوقف على غصن شجرة إلى أن يطلع النهار ليواصل طريقه.
أما التفسير الثاني فهو قدرته على تحديد الاتجاهات، ومعرفته بطبوغرافية الأرض، وتأثره بخطوط القوى المغناطيسية التي تمتد من القطب الجنوبي إلى القطب الشمالي، وبالتالي يتمكن من معرفة طريقه بدقة.
في حروب العصور الوسطى
لعب الحمام الزاجل دورًا تاريخيًّا محوريًّا في الفتوحات الإسلامية، واستخدمه العرب في الرسائل الحربية في القرن الثالث الهجري، واستخدمه الخلفاء العباسيون بكثرة، ومن خلال الحمام الزاجل عرف الملك الكامل في مصر بوصول ملك فرنسا لويس التاسع إلى دمياط عام 1270م، وتوجهه إلى المنصورة، وتمكن من الاستعداد وإرسال الجنود لمواجهته، وأسره في دار ابن لقمان.
وكان للحمام دور كبير في الحروب ضد المغول، وقد اصطحب جنكيز خان بين جيوشه طيور الحمام الزاجل؛ فلعبت أيضًا دورًا محوريًّا في انتصاراته على الأراضي الأوروبية والآسيوية.
في القرن الثاني عشر الميلادي، كان لدى مصر نظام بريد جوي دقيق وسريع، أسسه السلطان نور الدين، واستمر عدة قرون، وكانت أنساب الحمام تُحفظ في سجلات خاصة، وقد بلغ في عهد السلطان أوج ازدهاره، فقد أمر بتطويره وبناء برج كل 12 ميلًا، عليه نظار ومراقبون لوقت وصول الحمام، كما أمر بتسجيل وقت وصول الرسالة ووقت إرسالها، وألا يفضّ الرسالة إلا نظّار الأبراج.
كان «بريد الحمام» أسرع ثلاث مرات من «بريد الجياد» الذي اعتمدت عليه مصر أيضًا في الاتصال بين مدنها، وكانت أرجل الحمام تحمل أرقامًا، ويُنقش على منقارها اسم السلطان، ويُستخدم فيه فقط الحمام ذو اللون الأزرق، وكانت الرسائل تكتب على ورق رقيق يستخدم لهذا الغرض، وتُغلف أحيانًا بكيس رقيق من الجلد، ثم تربد في عنق الحمامة أو رجلها.
كانت الحمامة تُغذى جيدًا قبل إطلاقها، وقد يتأجل إطلاقها إن كان الجو ماطرًا. ولضمان وصول الرسالة كانت الرسالة تُكتب في نسختين تنطلق بهما حمامتان تفصل بينهما ساعة، لكي يطمئن المرسل إلى وصول الرسالة إن قُتلت إحداهما أو افترستها الجوارح، كما حدث في عهد صلاح الدين الأيوبي حين أرسل أهل عكا رسالة إليه يستنجدون به فتبعها طير جارح أسقطها في أرض العدو فعرف الخبر ومواطن الضعف.
وكان لكل دولة طريقتها في حفظ الرسائل، فكانت تُغلف بكيس من الجلد، أو توضع في صندوق من صفائح رقيقة من الذهب الخالص لحفظها من العوامل الجوية.
ذُكر الحمام في كتاب «ألف ليلة وليلة» باعتباره كنزًا ثمينًا لمن يقتنيه، كتب ابن إياس عن الملك المظفر زين الدين حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون الذي حكم مصر عام 1346 يقول: «وقد اشتغل بلعب الطيور عن تدبير الأمور، والتهى عن أمر الحكام بالنظر إلى الحمام، فجعل السطح داره والشمس سراجه والبرج مناره»، ولم يلبث الملك في الحكم سوى عام وبضعة أشهر، كما تحكي المصادر عن ولع سليمان القانوني بالحمام، وكيف اقتنى المئات منها وأطلق على كل طير منها اسمًا لم يكن ينساه.
وفي عام 1600، كان أكبر خان في بلاد الهند مولعًا بالحمام، كان يصحب حاشيته ما يقدر بـ20 ألف حمامة، وحكى مؤرخو القصر الملكي أنه كان أول من جرب تهجين الحمام لتهذيبه وتحسين صفاته.
في العصر الحديث
كان للحمام دور كبير في التجارة أيضًا، في الشرق بين حلب والإسكندرية، وفي الغرب بين لندن وباريس وأمستردام وفرانكفورت، وقد استخدمته شركة «هافاس» عام 1840 لنقل الأخبار المهمة بين لندن وبروكسيل وباريس، قبل استخدام السكك الحديدية والتلغراف.
ولم يتوقف دور الحمام الزاجل عند العصور الوسطى، فقد انتشر استخدامه في الحروب في الدول الأوروبية، وكانت فرنسا أولى الدول التي استخدمته في حربها مع بروسيا عام 1870، وكان له دور كبير في انتصارها، ما دفع دولًا أخرى مثل ألمانيا الشرقية والغربية لاقتنائه والعناية به، وتخصيص ميزانية له.
كما أدى دورًا مهمًا في العصر الحديث في الحرب العالمية الأولى؛ فاستخدمت الجيوش الأوروبية 100 ألف من الحمام الزاجل في المراسلات بينها، وساهم في إنقاذ مدينة فردان الفرنسية.
وفي الحرب العالمية الثانية أيضًا، ورغم تقدم أنظمة الاتصالات من خلال موجات الراديو والقمر الصناعي، استخدم جيش الحلفاء مئات الآلاف من طيور الحمام في الاتصال ومهاجمة مواقع العدو، وأظهر الحمام قدرات مذهلة في أداء مهمته رغم أمطار الرصاص التي أُطلقت عليه، ورغم هجوم الصقور التي تم تدريبها لقتل الحمام، لكنه أنجز 85% تقريبًا من مهامه رغم عودة الكثير منه مصابًا بالرصاص، ما دفع الفرنسيين إلى إقامة نصب تذكاري في باريس تكريمًا لـ10 آلاف طير من الحمام قُتل لإنقاذ فرنسا.
في عام 1956، قرر الجيش الأمريكي الاستغناء تمامًا عن الحمام الزاجل، بعد أن حلت محله بقوة التكنولوجيا الحديثة والأقمار الصناعية، لكن إلى اليوم يتواجد الحمام الزاجل في حياة البشر، وإن لم يُستخدم للمراسلات ففي أنحاء العالم يجتمع هواة تربية الحمام لإجراء المسابقات، وتحرص بريطانيا على دراسة الحمام وتدريبه والعناية به في المدارس الحربية الحديثة، باعتباره وسيلة قد تصلح لاستخدامها عند الحاجة.
كما تحتفظ بعض المستشفيات بأبراج حمام تجد طريقها سريعًا وبعيدًا عن الازدحام المروري الخانق في العواصم الأوروبية، حاملة عينات الدم وغيرها من الاختبارات للمرضى المصابين لتقديم العناية اللازمة إليهم بشكل عاجل فور وصولهم المستشفى.
المصدر: صحف ومواقع / إسبانيا بالعربي.