عماد عقل.. الفلسطيني “الملثم” الذي أجبر إسحق رابين على وصفه بـ”الأسطورة”
كانت ظهيرة حارّة وهادئة كعادة أيّام فصل الصيف. سماء صافية، وهواء يهبّ خفيفًا على المصطافين في شواطئ بُحيرة طبريا الواقعة شمال فلسطين، لكن ذلك لم يدم، إذ تبدّل المشهد إلى فزع، بعد أن اقتحمت طوافة حربية إسرائيلية مصحوبة بـ«جيب» عسكري يحمل قوّات من الجيش والشرطة فضاء البُحيرة، وشرعوا بعمليّات تفتيش وبحث دقيقة عن هدف ما بين الموجودين في البحيرة.
على بعد 20 مترًا من الشاطئ، انتشرت قوّات الجيش والشرطة بعد أن أتت تعزيزات إضافية، كان هناك شخصان فلسطينيان يسبحان في البُحيرة، هز أحدهما كتف الآخر وقال له بينما كانت الطوافة تحوم فوقهما: «جاؤوا إلينا»، رد عليه الأخير: «لا تقلق، فقط اسبح بهدوء، ولا تبد أيّ حركة غريبة».
قضت القوات الإسرائيلية ما يزيد على الساعة وهي تبحث عن المطلوبين، وبعد أن فشلت، ظنت أنه بلاغ كاذب، وغادروا البحيرة، عندها فقط خرج الشاب الفلسطيني عماد عقل، وصديقه بشير حماد، إلى الشاطئ، وقد نجوا من محاولة الاعتقال بأعجوبة.
كانت هذه الحادثة التي رواها حماد صديقُ عماد عقل، قد حصلت في أحد أيّام صيف عام 1991، وهو العام ذاته الذي تصاعدت فيه حدّة العمليات العسكرية التي كان يقودها عِماد عقل، أحد مؤسّسي «كتائب القسّام» الجناح العسكري لحركة «حماس»، بينما تطارده إسرائيل، على قدم وساق.
طالع أيضا: دليلك المبسط لفهم القضية الفلسطينية في 5 محطات
في سيرة الأدمغة العسكرية الفلسطينية.. عماد عقل نموذجًا
قاد إدراكُ الفلسطينيين لطبيعة الهوة الشاسعة في المقدّرات العسكرية التي يتفوّق بها عليهم الإسرائيليّون، التفكيرَ الفلسطيني المقاوم، إلى شكلٍ يحقّق أذيّة واستنزافًا ملموسًا وواضحًا في جسد إسرائيل، رغم تواضع الإمكانات.
وفي إطار سعي المقاومة الفلسطينية للرّد على ممارسات الاحتلال الاسرائيلي بحقّ الفلسطينيين، أو على الأقلّ رفع تكلفة هذه الممارسات، ظهرت وجوه فلسطينية عديدة، بلورت خطّ المقاومة، وقدمت استراتيجيات وخُططًا للتعامل مع قوات الجيش الإسرائيلي.
كان عماد عقل، “سيد الاشتباك من نقطة صفر” كما لقبه الفلسطينيون، واحدًا من هذه الوجوه التي صقلت أسلوب المقاومة الفلسطينية بطريقة أتعبت الجيش الإسرائيلي، رغم أن مسيرته لم تمتد أكثر من ثلاث سنوات، إلّا أنّ حرفيته وزخامة العمليات العسكرية خلال فترة نشاطه، دفعت رئيس الوزارء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين لوصفه بـ«الأسطورة».
وُلد عقل عام 1971، في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، وبدأ مسيرته في المقاومة عام 1990، حين شارك في تأسيس «مجموعة الشهداء»، أول مجموعة عسكرية لـ«كتائب القسام»، التي نفّذت العديد من العمليات الفدائية بأساليب جديدة، إذ كانت غالبية العمليات التي نفّذها من مسافة صفر، أي وجهًا لوجه مع قوات الجيش، ثم يغتنم بعدها قطع السلاح لاستخدامها في عمليات ثانية.
كان الأسلوب العملياتي لعقل الذي ظلّ مجهول الشكل للجيش الإسرائيلي حتى اغتياله، فريدًا وجريئًا، وهو ما انعكس صدمة أمنية وعسكرية في أروقة الحكومة الإسرائيلية، حتى صار يتردد اسم عماد عقل كثيرًا في الاجتماعات الأمنية الإسرائيلية. إذ خلق مسارًا جريئاً في استراتيجية المقاومة التي كانت تعاني من شُحّ كبير في السلاح، فقفز عقل عن قاعدة «السلاح قبل التخطيط»، إلى «السلاح بعد التنفيذ»، أي أن شُحّ السلاح ليس عائقًا أمام تنفيذ العمليات، التي يمكن خلالها الاستيلاء على أسلحة الجيش وعملائه.
الاحتلال يحكم غزة نهارًا وعماد يحكُمها ليلًا
«كيف كانت الأوضاع خلال فترة عمليات عماد عقل؟» سأل مراسل قناة «الأقصى» الفضائية، الحاج باسم أبو رضوان، خلال فيلم وثائقي أعدّه عن الشهيد عماد عقل، فأجاب أبو رضوان: «كان الاحتلال يحكم غزة نهارًا، وعماد يحكُمها ليلًا».
بعد نصف عام من تشكيل عماد خلايا المقاومة المقاتلة في غزة، اختار أن تكون أوّل عملية موجعة لإسرائيل، ووقع التخطيط على قائد الشرطة الإسرائيلية في قطاع غزة آنذاك، الجنرال يوسي أفني. رصد عماد ورفاقه موكب أفني، لمدة استغرقت أكثر من شهرين، وحدّدوا أربعة مشاركين يقودهم عقل بسلاح الكارلوستاف والقنابل اليدوية المصنعة محليًّا.
وبالفعل تمكَّن الأربعة من نصب كمين للموكب الإسرائيلي، وحين أتت لحظة التنفيذ، فتح عماد نار بندقيته، إلا أنّ خللًا أصاب سلاح أحد عناصره، وكان سلاح كارلو المصنّع محليًّا أيضًا، ولم يطلق النار، وفشلوا في توفير كثافة نارية بالشكل اللازم، بينما رمى الاثنان الآخران قنابلهما اليدوية، إلا أنها لم تنفجر أيضًا، وانسحبوا فورًا من المنطقة، بعدما تمكنوا من إصابة الجنرال واثنيْن من رجاله بجراح متوسطة، كما أعلن الجيش الإسرائيلي آنذاك.
كانت العملية الأولى، درسًا عمليًّا لعماد عقل، إذ أدركوا ضرورة تحصيل بنادق رشاشة مضمونة، وهنا النقطة التي شكّلت أسلوب عقل القتالي، وصارت عملياته كلها تنفذ من نقطة الصفر كي يتمكنوا من اغتنام العتاد العسكري فورًا.
من بين أبرز عملياته أيضًا، تلك التي رافقت إجراءات محادثات السلام المعروفة بـ«أوسلو» بين منظمة التحرير، والحكومة الإسرائيلية، كانت عملية مسجد مصعب بن عمير بحي الزيتون شرق القطاع، التي حصلت فجر يوم الأحد 12 سبتمبر (أيلول) 1993.
خلال هذه الليلة، كمَن عماد عقل برفقة مقاتل آخر، في بيت مهجور قُرب المسجد، يطلّ بابه على الشارع الذي سيمر به «الجيب» الإسرائيلي، وكان هناك عنصر آخر، يراقب الطريق لإعطائهما إشارة اقتراب «الجيب».
بعد حوالي أربع ساعات من المكوث، سمع الاثنان صفّارة رفيقهما وعلما أن «الجيب» آتٍ، وما إن صار أمامهما، حتى باغته الاثنان من جانبه بالنار، وقتلا في العملية ثلاثة جنود بينهم ضابط، ثم غنما قطعتي سلاح من نوع «m16» من «الجيب»، فيما ألقيا ورقة مكان العملية، تبّنت كتائب القسام الهجوم، وكانت هذه العملية أول عملية وثّقها عقل بالكاميرا؛ يومها علق رابين على العملية قائلًا: «أتمنى لو أستيقظ من نومي فأجد غزة وقد ابتلعها البحر».
طالع أيضا: عبد القادر الحسيني.. عاشق القدس الذي حمل السلاح عندما تركه الآخرون
كيف فكك «عقل» البنية النفسية لجنود إسرائيل؟
الجندي الإسرائيلي الذي يقف أمامكم، هو جندي مهتّك داخليًّا، نفسيًّا ومعنويًّا، يجب علينا كسر القوة الإسرائيلية، عن طريق قتل الجندي الذي تراه إسرائيل رمز قوتها. *عماد عقل
برع عقل خلال مسيرته التي امتدت ثلاث سنوات، في تفكيك البنية النفسية للجندي الإسرائيلي، وتحطيم صورته المخيفة الراسخة في الأذهان، وكان في كل مرة يخرج فيها برسالة، يقدّم معلومات للجبهة الداخلية الفلسطينية والإسرائيلية على السواء، فهو إذ كان يطمئن الفلسطينيين ويحثّهم على ضرورة تحطيم الصورة النمطية المخيفة عن الجندي الإسرائيلي، كان أيضًا يبث الرعب في نفوس الجنود الإسرائيليين وأهاليهم.
ولربما كانت عبارة «اذهب لغزّة»، التي كان يستفزّ بها الإسرائيليّون بعضهم وجرت على ألسنتهم بمعنى عبارة «اذهب للجحيم»، أحد الأدلة على مدى تأثر الإسرائيلين برسائل عماد عقل. واستكمالًا لفصول الحرب النفسية التي خاضها عماد عقل ضد الجبهة الداخلية لإسرائيل، كان يسوغ قدرته على التخفّي واختراق الحواجز الإسرائيلية خلال تنقّله في مدن فلسطين المحتلة، في قالب التهديد النفسي. إذ كان يظهر بين الحين والآخر، في رسائل تهديد مصوّرة، وقد لفّ وجهه بالكوفية الحمراء التي لا تكشف إلا عينيه قائلًا: «سنقتل متى نشاء، ونفجّر السيارات المفخخة متى نشاء، وسنطعن بالسكين متى نشاء، تل أبيب وحيفا ليست بمنأى عن رصاصنا».
كان أيضًا تصوير عملية مسجد مصعب بن عمير وبثها على وسائل الإعلام العربية والإسرائيلية، رعبًا للجبهة الإسرائيلية الداخلية، إذ ظهر الجنود وهم صرعى غارقون بدمهم، في مشهد مذل، وتشير المعلومات إلى أن حال الجنود بقي على نفسه لأكثر من ثلاث ساعات، إذ لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من معرفة مكان العملية فور وقوعها.
طالع أيضا: «الهاجاناه».. قصة «عصابات وحشية» شكلت النواة الأولى لجيش الاحتلال الإسرائيلي
إسرائيل تساوم عماد عقل: «نريد النوم»
بعد عامين من المطاردة التي نفذ خلالها عماد عقل أكثر من 40 عملية فدائية مؤلمة لإسرائيل، وفشل أجهزة المخابرات الإسرائيلية، في الوصول إلى عقل وتصفيته، لجأت إلى أسلوب آخر في التعامل مع قائد القسام. إذ تواصل رئيس الوزراء الإسرائيلي رابين، مع عائلة عماد عقل، وعرض عليهم أن يخرج عماد إلى مصر أو الأردن، وأن تكون عملية الخروج تحت إشراف الصليب الأحمر، على أن يعود بعد ثلاث سنوات دون أن يحاكم أو يعتقل.
بدروها، أوصلت العائلة رسالة رابين لعِماد، إلا أنّ رده كان قاطعًا: «رابين لا يستطيع أن يمنع شابًّا قرّر أن يموت فداءً لأرضه».
بعد اقتراح رابين، صعّد عماد من مستوى تنفيذ العمليات على امتداد قطاع غزة، لتكون رسالة واضحة على قرار عماد، فيما لم تجد الحكومة الإسرائيلية إلا تكثيف عمليات البحث أكثر لتصفيته.
مساء يوم 24 من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1993، رصد الجيش الإسرائيلي وعملاؤه، الشهيد عماد عقل في منزل أم نضال فرحات، الذي كان يتردّد إليه في فترات مختلفة، كان جالسًا يتناول الإفطار، وخلال ذلك لاحظ وجود شيء غريب، وما هي سوى لحظات حتى نادت عليه مكبّرات الجيش الإسرائيلي.
قفز عماد ورفاقه إلى إحدى زوايا البيت، وخاض اشتباكًا مع قوات الاحتلال التي حاصرت المنزل، واستخدمت القذائف المضادة للدروع في الاشتباك، وأصابت إحداها وجه عماد فهوى «الجنرال الملثم» الذي لم يتجاوز عمره 22 عامًا قتيلًا على الأرض.
وعلّق رابين مبتهجًا على اغتيال عقل قائلًا: «إن مقتل عماد عقل يمثل إنجازًا مؤثرًا ومهمًا في الحرب ضد الإرهاب»، بعدما حرم الفلسطيني الشاب قادة دولة الاحتلال من النوم الهادئ شهورًا طويلة.
المصدر: صحف ومواقع / إسبانيا بالعربي.