ثقافة

رأس السنة الفلاحية.. قصة عيد روماني تحتفل به دول المغرب العربي إلى اليوم

تحتفل دول المغرب العربي في الأسبوع الثاني من شهر يناير (كانون الثاني) من كل سنة، ببداية «السنة الفلاحية» أو (Yennayer Celebration)؛ وهي المناسبة التي دأب المغاربة على الاحتفال بها عربًا وأمازيغَ منذ قرون طويلة، وتعود إلى فترة التواجد الروماني بشمال أفريقيا. لكنّ الجدل بات المرافق السامي لها في السنوات الأخيرة بعد دخول «العيد» معترك السياسة.

في هذا التقرير نسلط الضوء على قصة رأس السنة الفلاحية التي لم يزل سكان المغرب العربي يحتفلون بها منذ عهد الرومان إلى الآن!

تاريخ: لالة فاطمة نسومر.. ابنة الزاوية التي قادت المقاومة الجزائرية ضد الفرنسيين

رأس السنة الفلاحية.. تقليد روماني لم يزل باقيًا في المغرب العربي

بسطت الإمبراطورية الرومانية سيطرتها على بلاد المغرب لفترة دامت ستة قرون، دمرت فيها مدينة قرطاجة التاريخية، وأسقطت ممالك النوميديين، وراحت تبني بعدها حضارة قوية من منطلق القوة العسكرية، قبل أن يأتي الوندال ويضعفوا تلك السيطرة، وينتفض فيما بعد البربر الأمازيغ برفقة الفاتحين المسلمين منهين تلك السيطرة إلى غير رجعة.

رأس السنة الفلاحية
جانب من الاحتفالات بالسنة الفلاحية الجديدة – مواقع التواصل

انتهت فترة الاحتلال الروماني لبلاد المغرب رسميًا بعد الفتح الإسلامي للمغرب سنة 90 هـ – 709م، لكنّ الكثير من التراث الروماني الذي امتزج مع تقاليد سكان المغرب بقيّ رافدًا من روافد الثقافة الأمازيغية المغاربية، ومن ذلك ما يعرف برأس السنة الفلاحية، ذلك التقليد الذي كان يحتفل به الرومان والمغاربة على حدٍ سواء تقديسًا للأرض والفلاحة التي كانت المهنة الأساسية في ذلك العصر.

يُحتفل بهذا التقليد حاليًا في الكثير من نواحي دول المغرب العربي، ابتهاجًا بمجيء سنة فلاحية جيدة خضراء، ويعدُّ الاحتفال برأس السنة الفلاحية عادة مغاربية خالصة مرتبطة بالأرض والزراعة، وخاصة زراعة القمح. يستبشر بها المغاربة بشهر يناير الذي يأتي حسبهم بالماء من خلال ثلوجه وأمطاره، فينبت الزرع ويدرّ الضرع، فتأتي الغلال وفيرة ويعيش الناس في رخاء.

وفي هذا السياق يذكر الأب داليه (J.M.Dallet)، صاحب أهم قاموس للهجات القبائلية ذلك اليوم في موسوعته عن اللغة الأمازيغية، بما يلي: «أول شهر من التقويم الفلاحي الشمسي، تقويم جوليان، يقوم فيه الناس بتناول شربة يناير على لحم قرابين الديوك أو الأرانب. ويدخل هذا اليوم ضمن ما يسمى بأيام العواشير، التي تعتبر قبل كل شيء أيامًا دينية إسلامية، إذ إن من التقاليد المتداولة مقولة قبائلية تقول: إن الماء الذي ينزل في يناير (كانون الثاني) ينغرس في وهج حرارة (غشت)، أي: أغسطس (آب)».

جدير بالذكر أنّ هذا العيد له مسمياتٌ عديدةٌ عند سكان المغرب العربي؛ فيطلقون عليه تارةً «الناير» وأخرى «إخف ن أسكَاس» أو «إض أوسكاس» أو «حاكَوزة».

قبيلة أنجرة.. أندلسيون تمسكوا بثقافتهم بعد 5 قرون من التهجير

كيف تحوّلت رأس السنة الفلاحية إلى رأس السنة الأمازيغية؟

وفقًا للتقويم الفلاحي الذي تعتمد عليه السنة الأمازيغية، فإن الثاني عشر من يناير هو أول يوم من السنة الفلاحية الجديدة بالنسبة للجزائريين والتونسيين، والثالث عشر من الشهر ذاته هو رأس السنة الفلاحية عند المغاربة، ويبدأ خلاله الانتقال من مناخٍ بارد إلى مناخ أكثر اعتدالًا، وتختص ليلة الثاني عشر بالاحتفال، فيودع الأمازيغ فيها سنة فلاحية مضت، ويتطلعون بأمل وتفاؤل إلى سنة قادمة مزدهرة ومحصول وافر، بحسب معتقداتهم.

بقي هذا التقليد عرفًا سائرًا بين سكان المغرب العربي إلى غاية سنة 1980. السنة التي شهدت أحداث ما يعرف بـ«الربيع الأمازيغي» وهي حركة احتجاجية واسعة ذات طبيعة ثقافية شهدتها مدينتي تيزي وزو (وسط شرق) الجزائر العاصمة بين مارس (أذار) وأبريل (نيسان) 1980، رُفعت من خلالها مطالباتٍ عديدة؛ ومن ذلك ما يعرف برأس السنة الأمازيغية التي لم تكن تعرف من قبل سوى برأس السنة الفلاحية.

وكان الناشط في «الحركة البربرية» الجزائري عمار نقادي، المنحدر من منطقة «الشاوية» شرقي الجزائر، هو أول من وضع التقويم الأمازيغي، وكان ذلك عام 1980 حين نشر بحثًا عن طريق جمعيته «ثديوت نآغريف آمازيغ». أقرّ فيه بإطلاق التقويم؛ ويأتي هذا الإعتراف ليؤكّد أن التقويم الأمازيغي ليس راسخًا في التاريخ؛ فقد تبنته الحركة الأمازيغية في إطار نشاطها السياسي الذي بدأ في سبعينات القرن الماضي.

واختلفت الروايات حول سبب اعتماد رأس السنة الأمازيغية في يوم رأس السنة الفلاحية نفسه، وإن كانت الرواية الشائعة التي يطرحها نشطاء الحركة الأمازيغية في دفاعهم عن الاحتفال برأس السنة الأمازيغية هو تاريخ انتصار الملك الفرعوني شيشنق الأول – وهو أمازيغي من أصول ليبية – على الفراعنة الذين كان يحكمهم رمسيس الثالث سنة 950 سنة قبل الميلاد، وعلى أثر انتصاره أصبح الملك شيشنق حاكم الأسرة الثانية والعشرين للفراعنة.

وتحدثت تلك الرواية عن منطقة «بني سنوس»، الواقعة بالقرب من ولاية تلمسان بغرب الجزائر، باعتبارها مكان لوقوع المعركة، وتعتبرها «أول حرب في تاريخ الإنسانية يخوضها شعب لتحرير أرضه، وحدثًا مهمًا في التاريخ الأمازيغي القديم، ومن ثم صعود شيشنق إلى عرش الحكم الفرعوني».

رأس السنة الفلاحية
تمثال شيشنق الأول – المصدر: مواقع التواصل

غير أن هذه الرواية غير متماسكة تاريخيًا، كون تاريخ وفاة الملك الفرعوني رمسيس الثالث كان 1155 قبل الميلاد، أي قبل قرنين من جلوس الملك الفرعوني شيشنق الأول على عرش مصر؛ كما فنّدها الدكتور العيد جرمان، المختص في التاريخ، من خلال دراسة بحثية نشرها عام 2013، بالقول: «لا يقول عاقل إن الفراعنة ملكوا يومًا ما يعرف بشمال أفريقيا، ولا غرب الجزائر، ولا شرقها».

أما الرواية الثانية فلم تخرج من دائرة الملك الفرعوني شيشنق، فتشير إلى أن مكان وقوع المعركة بين جيش شيشنق والملك الفرعوني رمسيس الثاني كانت في مدينة الأقصر المصرية، ويبدو من خلال هذه الرواية أن لا علاقة ببلاد المغرب بها، سوى أصول الملك الفرعوني شيشنق الأمازيغية.

بينما يميل بعض المؤرخين لإرجاع احتفالية رأس السنة الفلاحية إلى أسطورة العجوز التي تحدّت شهر يناير، وظروف جوه القاسية لترعى أغنامها، فتقول الأسطورة إنّ شهر يناير طلب من شهر فبراير (شباط) أن يعيره ليلة ونهارًا للانتقام من العجوز؛ فقام «يناير» حينها بتجميد أوصال العجوز وأغنامها.

ومنذ إقرار الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة في الـ27 من ديسمبر (كانون الأول) 2017، قرارًا رئاسيًا بجعل رأس السنة الأمازيغية – التي تُصادف 12 يناير من كل عام – عطلة مدفوعة الأجر؛ غطت الاحتفالات الرسمية بالسنة الأمازيغية على احتفالات السنة الفلاحية في الجزائر، وأعلن ملك المغرب محمد السادس في مايو 2023 أن هذا اليوم سيصبح عطلة رسمية، على غرار بداية العامين الميلادي والهجري. 

تلمسان.. «قرطبة أفريقيا» التي كان يخشاها العثمانيون

كيف يحتفل شعوب المغرب العربي برأس السنة الفلاحية؟

لا يخلو شهر يناير من الاحتفالات والطقوس التي تعكس الهوية الأمازيغية الخاصة بالدول المغاربية، ففي الجزائر مثلًا تجتمع العائلات لإعداد أطباق خاصة بهذه المناسبة، مثل طبق «شخشوخة»، و«الرشتة»، و«بركوكس»، بالإضافة إلى «التراز»، وهو مكون من الحلويات، والتمر، والفواكه، الجافة. بينما يحضّر التونسيون طبق العصيدة، وتطبخ بعض العائلات في المدن التونسية «الملوخية» حتى تكون السنة القادمة سنة خير، أو سنة خضراء – كما يقولون – في إشارة إلى المحصول الوفير والرخاء.

رأس السنة الفلاحية.. قصة عيد روماني تحتفل به دول المغرب العربي إلى اليوم
الاحتفال برأس السنة الفلاحية عادة راسخة بين الأجيال

وكما ذكرنا يحتفل المغاربة برأس السنة الفلاحية يوم الثالث عشر من يناير من كل عام. ومن أشهر عادات الاحتفال بالمغرب ذبح الأضاحي، وتوزيع الأكل على ضعفاء الحال، إضافةً إلى إعداد طبق «تاكلا»، وهو مزيج من الدقيق، والماء، والملح، والزبد، والعسل.

إسبانيا بالعربي.

أخبار جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *