اشترك في قناتنا على الواتساب
انقر هنا
ثقافة

عثمان دقنة: «صيّاد الإمبراطورية» الذي كسر هيبة الجيش البريطاني

في فجر يوم الثاني من سبتمبر (أيلول) عام 1898 بدأت في أم درمان بالسودان وقائع «معركة كرري»، المعركة الأخيرة التي سجلت نهاية الدولة المهدية في السودان. كانت نتيجة المعركة هزيمة مدوية حققها الإنجليز في ساعات قليلة، ففي منتصف النهار كانت المدافع الإنجليزية قد أوقعت نحو 11 قتيلًا وأصابت حوالي 16 ألف جريح من الدروايش، وبعد أسابيع أخرى أُعلن عن مقتل الخليفة عبد الله التعايشي مع قليل من جنوده، وانتهت بذلك أيام الدولة المهدية، ورُفع العلمان المصري والبريطاني في أم درمان، وصارت بريطانيا هي الحاكم الفعلي في السودان. 

لكن أحد قادة المهدية كان لا يزال يحاول الوصول إلى بلاد الحجاز ليواصل المقاومة من هناك، إنه الأمير عثمان دقنة الذي استطاعت فرقته إصابة العدو، وألحقت به الخسارة الوحيدة التي مني بها في ذلك اليوم؛ عند «خور شمبات»، فسجل في المعركة فصلًا آخر من فصول مقاومته للإنجليز؛ ما دفعهم إلى تعقّبه والاحتفاظ به في سجونهم حتى آخر عمره الذي امتد طويلًا، فما الذي فعله الأمير عثمان دقنة حتى يمثل للإنجليز هذا الخطر؟ 

عثمان دقنة.. ثعبان الماء الزلق

كانت مدينة «سواكن» في القرنين الثامن والتاسع عشر مرسى للبحارة العابرين، يتحدث أهلها خليط من اللغات؛ إذ امتلأت بالتجار والجاليات الأجنبية فامتزجت فيها الثقافات، وكان لتجار الرقيق مكانة خاصة بها؛ إذ كانت المدينة منفذًا لتصدير الرقيق، وكما جذبت التجار فقد جذبت الطامعين والمستعمرين، وعلى أرضها كان مولد الأمير عثمان دقنة ويُرجح أنه وُلِد في عام 1843، من أسرة الدقناب الشهيرة، وكانت أمه من البشيرياب المنتمين إلى الهدندوة. 

عثمان دقنة
عثمان دقنة – المصدر: ويكبيديا

عمل الأمير مع الأسرة في تجارة الرقيق وتنقل بين سواكن وسواحل بلاد العرب، وفي أحد الأيام قُبض عليه مع بعض أفراد أسرته وحُكِمَ عليهم بالسجن، وصودرت ممتلكات العائلة، وطُرِدَ من سواكن، كانت هذه الحادثة التي غيرت حياته للأبد؛ إذ بدأ منذ ذلك الحين طريقًا طويلًا جدًا في مقاومة الاستعمار، وأثار بعض القلاقل ضد الحكومة إلى أن وجد طريقه فالتقى بالإمام المهدي في كردفان، وتبني المهدية، وصارت هي القضية التي أرضاه أن يعتنقها، خاصة وقد اكتسب بين أنصار المهدي مكانة كبيرة لم يحققها بين أهله في سواكن، وكُتب له أن يكون عمر مقاومته ونضاله أطول من الدولة المهدية ذاتها.

في عام 1883 كتب المهدي رسالة إلى أنصاره جعلت من الرجل أميرًا عليهم تقول: «إني موجه إليكم الشيخ عثمان أبا بكر دقنة السواكني لكي تستعينوا به على إقامة الدين وجهاد الكافرين، وجعلته أميرًا مباركًا لكم لدلالتكم وإرشادكم فاسمعوا له، وأطيعوا أمره ونهيه».

منذ ذلك الحين قاتل الأمير عثمان دقنة في كل معارك المهدية على ظهور الدواب والجمال، وراح ينشر الدعوة المهدية من البحر الأبيض إلى تلال البحر الأحمر، واستطاع كسب العديد من الأنصار فأصبح للمهدية جيشًا ثوريًا في شرق السودان، واستطاع تحقيق انتصارات متوالية في شرق السودان وغربها. خاض عثمان دقنة سلسلة من المعارك التاريخية، واستطاع تحقيق مكاسب كبيرة للمهدية حتى أطلق عليه الإنجليز «ثعبان الماء الزلق»؛ إذ لم تتمكن الجنود من القضاء عليه في الحرب ولم تتمكن المخابرات من الإيقاع به.

طالع أيضا: بربروسا.. القائد العثماني الذي أنقذ مسلمي الأندلس وفرنسا

عثمان دقنة والانقضاض على «المربع الذهبي»

كانت فكرة المربع الذهبي تكتيك حربي بريطاني استخدمه الجيش ليوفر الأمن والسلامة لجنوده عند التحرك في أرض مكشوفة، ويقضي بأن يصطف الفرسان والمشاة المسلحين في مربع متساوي الأضلاع، في كل ضلع صفين أو أكثر من الجنود المشاة والخيالة تتراوح أعدادهم بين ألف و1500 جندي، وداخل المربع تُنقل الأسلحة، والذخائر، والمؤن، وحيوانات النقل في أمان إذ تحميها صفوف الجنود التي تتحرك سريعًا في مواجهة أي هجوم وتدعمها مدافع رشاشة كافية لصد الهجوم المحتمل.

حقق هذه التكتيك انتصارات متعددة للجيش في معارك كثيرة أبرزها «معركة وترلو» الشهيرة أمام الفرنسيين، وكان المفترض أن تزيد كفاءته عندما يكون الجيش في مواجهة جيش لا يملك أسلحة نارية، وهو ما توفر في السودان، فدائمًا ما تميزت المعارك بين السودانيين والبريطانيين بغياب التكافؤ.

وبالرغم من أن المحارب السوداني لم يكن يستطيع الاقتراب من البريطانيين لمسافة أكثر من 400 متر، قبل أن يقع قتيلًا بالسلاح الناري الإنجليزي، إلا أنه لطالما وصف البريطانيون شجاعة الجنود السودانيين، وكيف يقاتلون حتى الرمق الأخير، برغم علمهم عدم جدوى المحاولة أمام قوة البريطانيين. 

كانت معركة «تاماي» أحد المعارك التي خاضها جيش عثمان دقنة في شرق السودان في 13 مارس (آذار) 1884 واستطاع كسر المربع الذهبي البريطاني عندنا اعتمد أسلوب المفاجأة؛ إذ اختبأ الجنود السوادنيون على طول الطريق بين الشجيرات وانقضوا على البريطانيين في هجمة سريعة أربكتهم، وحولت المعركة لمواجهات فردية بين الجنود، فاستخدموا بالأيدي والأسلحة البيضاء دون تكتيكات حربية. 

خريطة معركة تاماي – المصدر: الأرشيف البريطاني
خريطة معركة تاماي – المصدر: الأرشيف البريطاني

فعلى سبيل المثال قُتل في «معركة كرري» أقل من 50 جندي بريطاني، بينما قُتل في معركة تاماي أكثر من 120 ضابط وجندي بريطاني، وربما كانت هذه المعركة أحد المعارك التي لم ينسها البريطانيون للأمير عثمان دقنة.

طالع أيضا: سيمون بوليفار.. محرر أمريكا الجنوبية «المعبود» في بلاده

سواكن العصية على الاستعمار

نشأ عثمان دقنة في سواكن التي تقع على أعالي البحار وكان لذلك اثر واضح في تفتُّح ذهنه، بخلاف قادة المهدية الآخرين الذين تعود أصولهم لأماكن مغلقة وثقافاتٍ مُنعزلة نسبيًا، مقارنةً بسواكن، وتنوعها وتعاملها التجاري مع موانئ البحر الأحمر وغيرها، ووجود الأجانب بها، ما ترك أثره على شخصيته وتكتيكاته العسكرية وانفتاحه على تضاريس ثقافية وإنسانية أوسع. لكن الغريب أن انتصارات الأمير لم تمكنه من دخول مدينته سواكن وتحريرها من المستعمرين كما لم تحمل رفاته كما تمنى. 

«علَّك ما تكون بعتني رخيص».. مركب عثمان دقنة الذي لم يصل

بعد الهزيمة في «كرري» انسحب عثمان دقنة إلى الشرق وعزم على الفرار إلى بلاد الحجاز كي يُكمل نضاله ضد الاستعمار من هناك، لكن وشاية أوقعت به في يد الإنجليز عام 1900 بعد تاريخ حافل من النضال. إذ كان الأمير قد كلف «ود علي» أحد معارفه من مدينة سواكن، بالبحث عن قارب يقطع به البحر، لكن الرجل دبَّر للإيقاع به في يد الإنجليز، وعندها قال الأمير عبارته الشهيرة: «يا ود علي أنا اتقبضت؛ علَّك ما تكون بعتني رخيص»، وبقي عثمان دقنة في سجن وادي حلفا حتى وفاته عام 1926، لكنه في هذا السجن عاش حياة طويلة أخرى من المقاومة أيضًا.

منزل الشهيد عثمان دقنة في سواكن سنة 1884 المصدر: الأرشيف البريطاني
منزل الشهيد عثمان دقنة في سواكن سنة 1884 المصدر: الأرشيف البريطاني

وبالنظر إلى التاريخ نجد أن عثمان دقنة متميزًا في خططه العسكرية مقارنةً بقادة المهدية الآخرين، ويمكن القول بأنه سبق عصره في التخطيط العسكري وتمكَّن من إلحاق خسائر فادحة بالجيش المصري التركي والإنجليزي، وقيل إنه قدم آراء العسكرية حول إدارة معركة كرري، فرأى تحييد المدفعية والأسلحة النارية البريطانية بجرِّهم إلى المعركة داخل المدينة، لكن الخليفة لم يأذن بتنفيذ الخطة؛ ولعل ذلك كان السبب الذي جعل البريطانيون يصرون على حبسه في السجن حتى نهاية عمره، بينما أُطلق سراح قادة المهدية العسكريين واستأنفوا حياتهم في أم درمان والخرطوم. 

في السنوات الطويلة التي قضاها عثمان دقنة في السجن، وبحسب وثائقي «أرشيفهم وتاريخنا» الذي أنتجته قناة الجزيرة؛ فقد حرص القادة البريطانوين على رؤية الرجل الذي أوقع بهم في المعارك وحقق انتصارات أسطورية عليهم، لفتت انتباره الرأي العام البريطاني، فكان «كتشنر» أول المهتمين بزيارة عثمان دقنة في سجنه لكن الأمير رفض مقابلته، وأثناء رحلته إلى الهند توقف ملك بريطانيا في سواكن لرؤية الرجل، لكن دقنة أدار ظهره للملك، وواصل القراءة في مصحفه، فما كان من الملك إلا أن أخرج سيفه وحيى الأسير وخرج.

على جانب آخر لطالما تحدثت الصحف البريطانية عن الأمير القابع في سجن في وادي حلفا، وطالبت بالسماح له بحج بيت الله الحرام، وهو ما تم بالفعل عام 1923، فرحل عثمان دقنة في قيوده إلى بيت الله الحرام، وعاد من هناك إلى السجن، حيث قسم يومه بين الصلاة والصيام والقيام حتى وفاته عام 1926، ونقل رفاته عام 1964 إلى أركويت بعد غرق وادي حلفا بعد بناء السد العالي. 

سرير وحراب الأمير في متحف بيت الخليفة

في عام 1928 وباقتراح من زوجة مفتش إنجليزي يدعي برميل، تحول بيت الخليفة المهدي إلى متحف، وجُمعت القطع الأثرية من الهيئة القومية للآثار، والمتاحف، ومن عائلة المهدي وخصصت كل غرفة لتوثيق لفترة معينة، فضم المتحف عربات خيول و«سيارة ونجت باشا» الشهيرة، وكانت أول سيارة دخلت السودان، والتي أهدتها له الملكة فيكتوريا ودخلت السودان عن طريق درب الأربعين، وضم المتحف أيضًا غرفة للسلاح بها مسدسات ودروع استخدمها الانصار، وعلم المهدية بشعارهم (لا إله إلا الله محمد رسول الله المهدي خليفة رسول الله)، وسرج وجد في معركة كرري لأحد القادة، وخطاب بخط الخليفة.

فيما خُصصت إحدى الغرف لمقتنيات الأمير عثمان دقنة الذي كان يخترق مربعات العدو، وله دور كبير في شرق السودان، وكانت هذه الغرفة تحتوي مجموعة من الحراب، وعنقريب من الخشب (سرير) وجد في سجن وادي حلفا، وضم المتحف أيضًا مجموعة من السبح التي عثر عليها في السجن، وصورًا فوتوغرافية للأمير بعد اعتقاله، ولوحة تسجل المعارك التي خاضها.

إسبانيا بالعربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *