أيام إسبانية: بين كاتالونيا والأندلس.. كتاب يجمع بين أدب الرحلات والتاريخ
“أيام إسبانية: بين كاتالونيا والأندلس” هو كتاب يجمع بين أدب الرحلات والتاريخ للشاعر والصحفي نور الدين بالطيب، صدر مؤخرا في طبعته الثانیة في الجزائر عن دار ضمة للنشر والتوزيع. وهو نتاج رحلات لإسبانيا في إطار صحفي حيث زار نورالدين بالطيب برشلونة وبيلباو وغرناطة ومدريد وجيرونة.
هي رحلات عشق لإسبانيا ترسخت من بوابة الشعر الأندلسي على غرار قصائد ابن زيدون، وولادة بنت المستكفي، الشاعر والأمير أسير أغمات المعتمد ابن عباد. ومن خلال الأعمال الدرامية حول ابن زيدون، وسقوط غرناطة ودموع عبدالله غيث.
يسافر الصحفي الشاعر نورالدين بالطيب لإسبانيا مرتديا لحفته تذكره بالصحراء البعيدة ويحن إلى الزمن القديم. رحلته الأولى في 2001 كانت بمثابة الدخول إلى عوالم الحلم، كأنه يمشي فوق بساط من الحكايات والأساطير عن الأجداد من ملوك وأمراء العرب في الأندلس.
من کاتالونیا وعاصمتها برشلونة إلی الأندلس وعاصمتها غرناطة.. مدرید جیرونة، بیلباو ينقل لنا صور الفن والجمال وأهم معالم العمارة ورموز الفكر والإبداع، كما ينقل لنا التشدد السياسي تجاه الوافدين العرب.
يصور برشلونة كامرأة فاتنة، تحمل روحه إلى عوالم السحر والجمال. ويكشف علاقته الحقيقية من كاتالونيا وتحديدا جيرونة تلك المدينة الصغيرة المفتوحة على العالم. كاتالونيا كما عايشها بلاد محبة للحياة وعاشقة للناس. في شارع الرميلة والحدائق تبهر العين رقصة السردانا الجماعية. بل هي مدينة المتاحف والموسيقى، والغرباء يعزفون الجاز، والحمام المسالم. بناها غاودي مؤسس المعمار الإسباني في القرن التاسع عشر، وجمع تصميمها بين الفن الروماني والعربي والقوطي.
برشلونة متحف بيكاسو في المدينة العتيقة، متحف خوان مورو وبراءة الطفولة في لوحاته ومنحوتاته ومنسوجاته. يتميز المتحف بالديكور الشرقي من الأقواس والقباب والنوافذ المشبكة والموزاييك والبلور الملون. متحف بيدرارا. كتدرائية العائلة المقدسة وهي كنيسة عجيبة مشاهدة كل المدينة من قبابها.
الكتاب يحملنا إلى متعة الاکتشاف بین عوالم الحلم والذاکرة. کل هذه المدن لها رموزها الفنیة في مجالات متعددة کالفن التشکیلي وعمارتها الحدیثة والقدیمة وطبیعة الحیاة، فكان نور الدين بالطيب يكتب باللون والشکل ویأخذنا إلی أروقة فنون ولوحات تشکیلیة وسیرة أصحابها وینبش في تراث العمارة. وينقل مظاهر المجتمع في الفن والسياسة والاقتصاد برؤية تنقل وتحلل بعیدا عن النظرة الجافة لأنه ينقل خبرته مع الأمكنة في فضاءات ثقافية وطبيعية وفي حالة من الشغف والإبداع.
هو المبدع العربي القادم من صحراء دوز من جنوب تونس یواصل رحلة تشكيل الجمال من خلال اللغة الشعریة والأفكار النافذة. لنلمس أن جسر العبور بین الأنا والآخر هو ثقافي فني بعیدا عن العنصریة التي تری العربي مریبا. فالمشتغلون في الحقل الثقافي یرون البعد الحقیقي لهذا التلاقي ففیه الكثير من السحر والدهشة والافتتان. إذ ترجمت بعض نصوص بالطيب الشعرية للغة الكاتولونية، وتجسدت علاقاته بشخصيات ثقافیة بجیرونة، بل هناك تواصل ثقافي من خلال عروض مسرحیة وثقافیة متنوعة.
في غرناطة بدا وكأنه يسر لنا قائلا “كثيرة هي المدن التي ندخلها من بوابات التاريخ وشواهد الذاكرة والآثار والتراث غير المادي من شعر وأدب وكتب فكرية وحكايات شعبية، غير أننا نسقط الكثير من معارفنا عنها حين ندخلها مباشرة، خاصة إذا كانت مدنا من الزمن الماضي. أو مدن تركت للإهمال كي تندثر”.
هذا ما لمسناه حيث أخذنا إلى رحلته لغرناطة من خلال طاقة الحزن والشجن وإيقاع الخيبة. فكأنه تراث محكوم عليه بالزوال منذ طرد العرب من غرناطة، وكل ما أنجزوه من مشيدات بديعة لم يغو الإسبان للاحتفاظ بشواهده. فهو فعل مقصود لطمس آثار الجمال الإبداعي العربي، حتى أن الكاتب ظل يلازم غرفته ويغوص في كتب التاريخ ومن حين لآخر يبدي وجهة نظره بحس نقدي.
يشيح وجهه عن الواقع الجديد ويغوص في تاريخ غرناطة في رحلة إلی تاریخ أسطوري خرافي حیث حول العرب من أرض الأندلس إلى قطعة أثریة نادرة، وأبدعوا في الفن والثقافة والعلوم في هذه البيئة. فلم تکن أیام إسبانية أيام حرب بل أیام فتح وتنویر، رغم توجس الآخر من العرب عدوهم القدیم إلا أن العرب أبدعوا في تشكيل الأندلس وتجمیلها.
ويحصر الكاتب الفترة التاريخية التنويرية خاصة بعد انتقال عاصمة الأمويين إلى الأندلس في عهد عبدالرحمان الداخل، ووضع أسس دولة عصرية في عهد عبدالرحمان الأوسط وعبدالرحمان الناصر لما عرفوا به من إجلال المعرفة والعلم. ما عرف بعصر سيادة قرطبة التي أصبحت جامعتها مزارا لطلبة العلم من المغرب والشرق وأوروبا. فلم يبق في الأندلس من لم يعرف القراءة والكتابة. من خلال مدارس تعليم مجانية، ازدهار علمي وفكري وأدبي ومعماري.
يعدد نور الدين بالطيب أسماء المتنورين من ابن فرناس الكيميائي، مسلمة المجريطي عالم فلك، أبو القاسم الزهراوي أكبر جراحي الأندلس، ابن حزم العالم والأديب، أبو عبيد البكري الجغرافي، الشريف الإدريسي أشهر جغرافي العرب، ابن الزرقالي الفلكي، الطبيب ابن زهر، الفيلسوف والأديب ابن رشد، ابن البيطار الطبيب والعشاب، الشاعر ابن زيدون، زرياب أول من صنع العود بخمس أوتار وابتكر الموشح.
ينوه بالحلقات العلمية المترجمة في قرطبة وغرناطة واشبيلية وطليطلة تخرج منها أشهر علماء الأندلس، وترجمت علومهم للغات الأوروبية، وكانت أساس النهضة الثقافية والعلمية التي عرفتها أوروبا في القرن السادس عشر، إلى جانب المكتبات والمجلدات.. والتبادل الثقافي والعلمي مع بغداد أيام المأمون.
أشاد بالمكانة المتنورة التي عرفتها المرأة في الأندلس إذ للمرأة الحرية في الثقافة والشعر والتدريس. ذكر الشاعرة ولادة بنت المستكفي، الأديبة العبادية، بثينة بنت المعتمد بن عباد الشاعرة البارعة، نزهون التي اشتهرت بحفظها للشعر والأمثال. وتميز المرأة في مجالس اللهو بالشعر، البلاغة، الفقه، الموسيقى، الغناء مما يدل تحرر المرأة.
ما عرف به حكام العرب في الأندلس من تنظيم الأراضي ومد قنوات الري وتحرير الرقيق من عبودية الإقطاعيين. وتسويق الإنتاج الفلاحي لكل أوروبا في أساطيل. وبروز علماء النبات ومن أبرز هم “أبو العباس ابن الرومية الإشبيلي”، وما عرفوا به من التنظيم المالي والإداري والعسكري حيث أسس عبد الرحمان الثاني دار لصناعة السلاح وأسطول بحري.
بعد الحكم العربي لمدة ثمانية قرون وما تميزوا به من إبداع في العلم والمعمار والفنون والآداب والترجمة، أصبح التاريخ العربي غير مرغوب فيه خاصة من اليمين. فالعرب الذين كانوا سادة الأندلس وأقاموا القصور، ومدوا قنوات المياه والتطهير وأسسوا المدارس والجامعات وترجموا التراث اليوناني صار ينام عدد كبير منهم في أقبية المترو والشوارع.
ورغم محو الهوية العربية في حي البيازين حيث حولت مساجده لكنائس، وعلى الرغم من أن شارل الخامس بنى بجانب قصر الحمراء قصرا نشازا، فقد نجى قصر الحمراء من التخريب وقاوم حملات محو الذاكرة، إلى جانب المنازل المعلقة في أعلى الجبل في مواجهة قصر الحمراء المزروع وسط غابة غناء. وقصر المعتضد واسمه كازار الذي هدمه الإسبان وأعادوا بنائه، وصومعة المسجد الجامع منارة الخيرالدا، وما تبقى من المعمار العربي من الأزقة الضيقة، البيوت العربية التي تحولت إلى مطاعم ومعالم سياحية يرتادها ملايين السياح الباحثين عن بقايا الزمن العربي.
فتحت هذه الزيارات جراحا عميقة في روح الشاعر بدءا من المطار من خلال تفتيش العرب بعنصرية فاشية، خاصة حين يرى أحفاد العرب يطاردون في أوروبا، ويموتون غرقا في قوارب الموت وترحيل من قذفت بهم زوارق الهجرة. متهمون بالإرهاب والعنف، حيث ينام الحقد على العرب في العيون على الرغم من أن إسبانيا تفتقد للرخاء، وعلى الرغم من أن المهاجرين مركز قوة اقتصاد إسبانيا.
نستخلص أن رؤية الكاتب التي ترى أن العرب مصدر النور والحضارة في أوروبا التي كانت متخبطة في عصور الظلام، ولكن بترجمة الكتب بدأت تخرج من عصور الظلام إلى عصر النهضة. لكن الحكم الفاشي قتل مبدعيه أيضا مثل لوركا ذلك الشاعر الذي يختزل اسمه العبقرية الأندلسية، وكان ضحية فاشية فرانكو الذي حكم اسبانيا بالحديد والنار. وأشعل حربا أهلية.
“أيام إسبانية” كتب بأسلوب فني إبداعي يقدم للقارئ تاريخ إسبانيا وحاضرها على طبق من ذهب.
المصدر: ميدل إيست أونلاين.