من عبق التاريخ

ولاّدة بنت المستكفي.. حلم العاشقين في الأندلس التي أشعلت حرب الوزراء

إنّها الأميرة الأندلسية العربية الأصل التي أضرمت حرباً ضروسا بين وزيرين أندلسيين كانت لهما صداقة متأصّلة هما ابن زيدون وابن عبدوس، لتنقلب هذه الصداقة إلى عداوة لا صلح بعدها، فكيف صنعت الأميرة القرطبية هذه العداوة؟ ومن الفائز فيها!؟ 

شاعرة لا مثيل لها في الأندلس

كانت ولاّدة بنت المستكفي أميرة أندلسية من بيت الخلافة الأموية أبوها المستكفي بالله وأمها الجارية الإسبانية الجميلة “سكرى”، فأخذت الجمال والجرأة عن أمها، وورثت العزة والنسب الشريف وحبّ حياة البذخ عن أبيها، أما هي فقد صنعت من نفسها بفصاحتها وبلاغة ما تقرضُه من قصائد شاعرةً لا مثيل لها في الأندلس.

ورغم كونها ابنة الخليفة الخامس عشر من الأمويين في الأندلس، إلا أن نسبها لم يكن السبب الأول لشهرتها، بل إنّ مجلسها الأدبي الذي كان يُعقد في بيتها ويضم أشهر شعراء الأندلس وكبار رجال الدولة من الأعيان والوزراء والنبهاء وغيرهم من أكبر أسباب شهرتها داخل الأندلس وخارجها.

صراع الوزيرين

وقد ساعدتها جرأتها على منافسة كل من كان يحضر مجلسها وإعجازهم في مناسبات كثيرة، ضف إلى هذا جمالها الذي طار وحلّق في ربوع الأندلس حتى أطلق عليها المؤرخون “فراشة الأندلس”، فكانت بمثابة الشمس التي تشرق وتغيب في خيال كل من عشقها حتى وصفها المؤرخ الأندلسي ابن بسّام بقوله: «ذات وجهٍ جميل لم تشرق الشمس على أجمل منه»، فكان لاجتماع الوزراء والشعراء في حضرة الجمال والثقافة والنباهة ما كان من صراعات شخصية تملّقًاً وتقرباً من الشاعرة الجميلة، ولعل أشهر هذه الصراعات ما حدث بين الوزيرين ابن زيدون وابن عبدوس اللذان كانا يحضران مجلس ولاّدة ويتنافسان على الفوز بقلبها، فلمن كانت الغلبة؟!

مبارزات شعرية

كان من السهل على الشاعرة الحسناء أن تؤرق مضجع كل من رآها، ولم يستطع أحدٌ أن يفعل بها ذلك غير الشاعر ابن زيدون الذي كان يحضر مجلسها وتحدث بينهما سجالات شعرية ومبارزات فكرية تؤكد فيها ولّادة دائماً على نبوغها وتمكنها من ناصية الشعر، وقد بدأ الحبّ يظهر بين العشيقين فيما يقرضانه من أشعار، فكانا يلتقيان تحت ظلام الليل خوفًا مما قد يقوله الناس خصوصاً وأنّها “فراشة الأندلس” التي لا تحفى أخبارها عن أحدٍ من العامة أو الخاصة، تقول ولاّدة بنت المستكفي مخاطبة ابن زيدون:

ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي…
فإني رأيت الليل أكتم للسّر…
وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا…
وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر…

مكائد ابن عبدوس

هام ابن زيدون بولّادة عشقاً، أما هي فقد كنت بمثابة العاشقة المراوغة، فعلى الرغم من حبها لابن زيدون إلاّ أنّها كانت تتعمد إثارة غيرته وهي المحاطة بالمحبين والعاشقين من كل جانب، ومن هؤلاء ابن عبدوس الذي كان صديقاً مقربا لابن زيدون لكن حبهما للمرأة نفسها جعلهما يكنان العداء لبعضهما خاصة ابن عبدوس الذي حاك الكثير من المكائد ليبعد ولّادة عن محبوبها الذي كتب الكثير من القصائد الهجائية في صديقه…

إثارة الغيرة

واصلت ولاّدة بنت المستكفي إثارة غيرة ابن زيدون ما جعله يقرر هو الآخر إثارة غيرتها فتعمّد في إحدى الليالي المبالغة في التعبير عن إعجابه بعذوبة صوت إحدى قينات ولّادة وهي تُغني، وليته ما فعل، فقد كان كبرياء ولّادة أقوى من أن تتحمل الشعور بالمذلة، فراحت تُخاطبه قائلة:

لو كنت تُنصف في الهوى ما بيننا

لم تهو جاريتي ولم تتخير

وتركت غُصّنًا مُثمرًا بجماله

وجنحت للغصن الذي لم يثمر

الغريم الفأر

لم تتحمل الأميرة الحسناء الموقف الذي وضعها فيه حبيبها العاشق، فراحت تفتح المجال أكثر أمام الوزير الشاعر ابن عبدوس للتقرب إليها، فما كان من الأخير إلا أن يستغل الفرصة ليسرقها من ابن زيدون وراح يغدق عليها بالهدايا والعطايا والأشعار، فتعاظم في قلب ابن زيدون أن يُجاهر ابن عبدوس بحبه لمحبوبته وهو الذي لا يملك شيئا مما يملكه ابن زيدون من الشجاعة والوسامة والفصاحة، واجتماع غيرة ابن زيدون على محبوبته مع غروره جعله يُفرط في ذمّ غريمه حتى وصفه بالفأر، يقول واصفا إياه:

أكرم بولاّدة دخّرًا لِمُدّخرٍ   لو فرقت بين بيطار وعطارِ

قالوا أبو عامر أضّحى يُلمُّ بها   قُلت الفراشةُ قد تدنو من النّارِ

عيرتمُونا بأن قد صار يَخلُفُنا   فيمن نحبّ وما في ذاك من عارِ

أكلٌّ شهيٌّ أصبنا من أطيابِه    بعضًا وبعضا صفحنا عنه للفارِ

ابن زيدون المسجون وولادة الوحيدة

كانت هذه الأبيات بمثابة الضربة القاتلة التي قضت على حب ولاّدة لابن زيدون، فقد جعلها بمثابة البغي التي أخذ حاجته منها وتركها لمن هو دونه وهي الشريفة التي تأبى على نفسها المعابة، وعلى الرغم من توسلات ابن زيدون للصفح وكل ما كتبه فيها من قصائد مطولة يعبر فيها عن ندمه وحبه لها إلا أنّها أبت أن تُسامحه وفضّلت العيش في عذابها، أمّا ابن عبدوس فقد ظلّ يكيد لابن زيدون حتى كان سبباً في دخوله السجن ليضمن بعده عن ولادّة، وظل ابن عبدوس يتقرب من ولاّدة بنت المستكفي حتى وهي عجوز لكنها أبت الزواج منه ومن غيره وظلت وحيدة حتى وفاتها.

بقلم: الدكتورة آسيا بلمحنوف. / للتواصل مع الباحثة: assiajijel849@gmail.com

أخبار إسبانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *