المعتمد بن عباد من نعيم إشبيلية إلى بؤس أغمات.. قصة من قصص الأندلس الحزينة
أخبار إسبانيا بالعربي – في ذلك العصر الغابر في الأندلس.. عصر ملوك الطوائف، الذي جاء بعد موت محمد ابن ابي عامر المنصور ذلك الوزير الداهية، الذي استبد بالحكم بعد موت الخليفة، الحكم من دون ولده هشام المؤيد بالله. لينهى بذلك حكم بني أمية في شبه الجزيرة الذي استمر قرابة أربعمئة عام منذ ان أسسها و حكمها عبد الرحمن الداخل.
فبعد وفاة ابن أبي عامر المنصور، وقد كان حاكما قويا ويدفع له الجزية من قبل ملوك القوت “الإسبان” ضعفت البلاد وحدثت المؤامرات والفتن، وبدأت القبائل بالإستقلال بالأطراف.
وكان أول من بدأ بالاستقلال” بنو عباد في إشبيلية”، ثم بنو زيري في غرناطة، ثم بنو هود في سرقسطة، ثم بنو ذي النون في طليطلة، ثم بنو عامر في بلنسية، ثم بنو الأفطس في بطليوس، وبقيت قرطبة في يد بني حمود ثم بني جهور.
زواج الأمير المعتمد بن عباد بالجارية اعتماد الرميكة
وفي ذلك العصر كان “محمد بن عباد” ابن الخليفة المعتضد بالله ملك اشبلية يتمشى مع صاحبه ووزيره فيما بعد ابن عمار عند مرج الفضة. وكان على عكس أبيه، شاعرا رقيق القلب يختلط بالعامة، و بينما هما يتمشيان عند ضفاف النهر، نظر محمد إلى تموجات النهر بفعل الرياح.. وقال
“صنع الريح من الماء زرد”
وطلب من ابن عمار أن يجز أي أن يكمل ببيت آخر من الشعر وقد كان ابن عمار نفسه شاعرا. وأخذ ابن عمار يفكر
“صنع الريح من الماء زرد”
ثم ماذا يا ابن عمار، ولكن دون جدوى كأن الله أراد أن يخرسه لينطق تكملة البيت على لسان الجارية “اعتماد” التي سمعتهما، بينما هي تغسل الثياب عند حافة النهر فأكملت قائلة..
“أي درع لقتال لو جمد”
مكملة صدر البيت الشعري الذي نطق به الأمير، فكان هذا البيت سبب سعدها وشقائها فيما بعد. فما أن وقعت عين محمد بن عباد عليها، حتى افتتن بجمالها كما افتتن بسرعه بديهتها وذكائها.
وعرف “محمد بن عباد” أنها جارية عند الرميك ابن الحجاج تخدم زوجه، فأرسل الخدم والمزينات ليخطبوها له ويحملوها إليه لا كجارية، ولكن “كزوجة حرة”. فلم يكن حاجته إليها حاجه الجسد التي تنقضي بإنقضاء اللذة ولكن حاجته إليها كانت حاجة الجوارح والفؤاد، تلك الحاجات التي لا تنقضي إلا بمفارقة الروح الجسد، ولذلك لم يضمها إلى جواريه وقد كان ذلك هينا عليه.
وكان محمد ولها بها لا يصبر على فراقها ساعة، يكن لها محبة خاصة حتى إذا مات ابوه المعتضد وتولى من بعده الحكم اشتق لقب الملك من حروف اسمها فسمى نفسه “المعتمد بالله بن عباد” من إسم الزوجة “اعتماد” الجارية سابقا، لتخلد محبته لها في أخبار التاريخ، عاشت معه في رفاهية وعز فاق الوصف وحظيت عنده حتى كان لايرد لها طلبا.
قصة المثل “ولا يوم الطين”
وفي يوم من الأيام “الملكة اعتماد” الجارية سابقا، رأت نساء من البادية يبعن اللبن وقد شمرن عن سوقهن وسواعدهن يخضن في الطين
فقالت اعتماد: اشتهي أن أفعل أنا وبناتي كفعل هؤلاء البدويات فما كان من ” المعتمد بن عباد” الملك طبعا إلا أن بادر إلى تلبية طلبها، ولكن بطريقة البذخ والتبذير المفرطة التي كلفت خزينة دولته أموالا طائلة حيث أمر بالعنبر والمسك والكافور فسحق بماء الورد ليكون في هيئة الطين وأحضر القرب والحبال لاعتماد الملكة وبناتها الأميرات، فحملن القرب والحبال ورفعن عن سوقهن وخضن في طين العنبر والمسك والكافور.
ويقولون: في يوم غاضبها المعتمد بن عباد في بعض الأيام، فأقسمت أنها لم تر منه خيراً قط، فقال: ولا يوم الطين؟ فاستحيت واعتذرت
وأنجبت له “اعتماد” البنين والبنات وكان يدعوها “بأم الربيع”.لم تكن فقط امرأة جميلة ولكنها كانت صاحبة عقل ناضج رغم صغر سنها ورأي سديد رغم جهلها بأصناف العلوم وكان زوجها الملك يرجع إليها في كثير من أمور الدولة، وعلى الرغم من ذلك لم ينس العامه قط أنها كانت جارية وظلت عندهم “اعتماد الرميكية”.. التي تغسل الثياب عند النهر.
وفي عهد المعتمد بن عباد توسعت البلاد، فضم إليه قرطبة ورندة وماربيلا، ومع ذلك لم تكن مملكته مملكة قوية فقد توسع فيها بمساعدة الفونسو ملك قشتالة وكان يعرف عندهم باسم (الأدفونش) وكان ذلك بدفع الجزية له وموادعته. وظل الحال هكذا يغير ملوكهم وأمرائهم على ما بيد الأخر طمعا، حتى ضعف أمرهم وشتتت شملهم، غلبهم على أمرهم الأسبان فراوا استدعاء المرابطين من المغرب لنجدتهم. والمرابطين هؤلاء هم قوم اللثام والجمال الذين استطاعوا توحيد بلاد المغرب، وقد كانت في فرقه فخلصت إليهم وكان سلطانهم يوسف بن تاشفين. وكان صاحب الرأي في استدعائهم هو المعتمد نفسه.
فهم يوسف بن تاشفين لنجدة مسلمي الأندلس، فعبر إلى شبه الجزيرة سنة 479 هجرية بجيوشه الجرارة بقيادة قائده دواود بن عائشة، وتقابلت جيوش المرابطين والأندلسين مع جيوش الفونسو فكانت موقعة هائلة، انتصر فيها المسلمون انتصارا هائلا وعرفت بواقعة “الزلاُقة” وهرب الفونسو وهو جريح. ثم اصطلح الفريقان ورفع ظلم الإسبان عن مسلمي الأندلس، ولم يدفعوا لهم الجزية المعتادة كل سنة وتسمى يوسف بن تاشفين بعد واقعه الزلاقه باسم أمير المسلمين. وقد غنم المسلمون الشيء الكثير جدا من الأموال والأنفس في هذه الموقعة، فترك ابن تاشفين هذا كله إلى أهل البلاد وعاد إلى بلاده.
ولكن لم يستمر الحال هكذا فقد أدرك الفونسو أن الحال لن يدوم كثيرا، فلن يكون بوسع ملوك الأندلس طلب النصرة من المرابطين كل مرة خشية أن يأتوا ويمكثوا في الجزيرة ويسلبوهم الملك وقد رأوا خيرات البلاد وذاقوا حلاوتها. فبعث الفونسوا خطاب إلى اضعفهم عبدالله بن باديس ملك غرناطة، وطلب منه الجزية فتفطن عبدالله إلى ما يرمي إليه الفونسو فهادنه ودفع إليه الجزية، فكان ذلك سببا في إنقلاب العامة والفقهاء عليه خصوصا وقد زادت المغارم والمكوث عليهم لدفعها إلى الرومي. فشكا أهل البلاد لإبن تاشفين وطلبوا منه العودة إلى بلادهم لأخذها وتوحيدها. فعبر بن تاشفين مرة أخرى سنة 483 هجرية إلى الأندلس واستولى بسهولة على غرناطة وأسر عبدالله بن باديس ونفاه إلى المغرب
وفزع المعتمد بن عباد وخاف من بن تاشفين أن ينزعه الملك فحصن أسوار مدنه، وكتب إلى ألفونسو يطلب نصرته، وعندما علم بن تاشفين بما فعله المعتمد حشد جنده إلى إشبيلية وقاتل “المعتمد بن عباد” الذي ثاتل قتال اليائس للدفاع عن ملكه، ولكنه ما لبث أن استسلم على أن يؤمن دمه ودم عياله من القتل. ومع ذلك قتل اثنين من أولاده، ويقال ثلاث على يد المرابطين، وكانوا كلهم أبناءه من “اعتماد”. وأسره بن تاشفين، مع من بقي من عياله و أخرجه ذليلا على مشهد ومرأى من الناس، منفيا إلى بلاد المغرب، غير أنه عقابه كان أشد العقاب لطلبه
“النصرة من الرومي” وقتاله إياه.
فنفاه الى أقصى بلاد المغرب، إلى مدينة أغمات على بغلة يركبها هو و”اعتماد”.. بينما حرس المرابطين يركبون الأحصنة إمعانا في ذله، وأسكنه في بيت وضيع بدائي في المدينة ووضع عليه حارسا غليظا، وقيد رجليه في الحديد حتى لا يخرج من البيت، ولم يكتفي بذلك بل منع عنه المال والأقوات، فأصبح بناته حفاة عراة يغزلون الغزل ويبعيونه في الأسواق ولا يجد من يشترونه منهم وأصبح الناس يتصدقون عليهم بالمال والطعام والملابس.
وتقول بعض الروايات، أن حاجبه الذي كان يدفع الناس عن بابه ويخدمه قد هاجر بعد دخول المرابطين الأندلس إلى المغرب. كان يحسن ويتصدق على أولاده. وعادت الرميكية إلى سيرتها الأولى.. وإن كانت اشد بؤسا تغسل الخرق البالية، وتخبز ما يتسنى لها من الخبز الذي يستطيع أولادها الحصول عليه من بيع الغزل، فبعد أن كانت سيدة القصر تخدمها الجواري والغلمان أصبحت وضيعة حقيرة تتسول مع أولادها الأمراء، ومن شدة حالهم كتب عنهم الشعراء، وتدخل الناس لكي يعفوا عنهم بن تاشفين أو أن يوسع لهم في النفقات ولكنه أبى ووافق فقط على أن يفك قيد الرجل. ورأى المعتمد بعينيه “اعتماد وبناتها” يكشفن عن سوقهن ليخضن في الطين في ثياب ذل ومهانة فقال:
يطأن في الطين والأقدام حافية** وقد كن يطأن المسك و الكافور.
وماتت اعتماد فلم تتحمل الذل وحزن المعتمد عليها حزنا شديدا ومات حزنا وكمدا عليها وعلى الذل الذي لقيه بعد العز والملك. و دفنا كلاهما في”مدينة اغمات جنوب المغرب” ومازال ضريحهما هناك، وقد كتب عليه هنا دفن “المعتمد بن عباد وزوجته اعتماد الرميكية” التي شاركته أفراحه وأتراحه وأوصى أن يكتب على قبره:
قَبرَ الغَريب سَقاكَ الرائِحُ الغادي
حَقّاً ظَفَرتَ بِأَشلاء ابن عَبّادِ
بِالحِلمِ بالعِلمِ بِالنُعمى إِذِ اِتّصلَت
بِالخَصبِ إِن أَجدَبوا بالري لِلصادي
بالطاعِن الضارِب الرامي إِذا اِقتَتَلوا
بِالمَوتِ أَحمَرَ بالضرغمِ العادي
بالدَهر في نِقَم بِالبَحر في نِعَمٍ
بِالبَدرِ في ظُلمٍ بِالصَدرِ في النادي
نَعَم هُوَ الحَقُّ وَافاني بِهِ قَدَرٌ
مِنَ السَماءِ فَوافاني لِميعادِ
وَلَم أَكُن قَبلَ ذاكَ النَعشِ أَعلَمُهُ
أَنَّ الجِبال تَهادى فَوقَ أَعوادِ
وكتب ابن عباد هذه الأبيات يرثى نفسه يوم العيد و هو في الأسر.
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ** فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة ** يغزلن للناس مـا يملكـن قطميـرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة ** أبصارهن حسيـرات مكاسيـرا
يطأن في الطين والأقدام حافية ** كأنها لم تطـأ مسكـاً و كافـورا
لا خدّ إلا ويشكو الجدب ظاهره ** وقبل كان بماء الورد مغمورا
لكنه بسيـول الحـزن مُختـرقٌ ** وليس إلا مع الأنفاس ممطـورا
أفطرت في العيد لا عادت مساءتـه ** فكـان فطـرك للأكبـاد تفطيـرا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثـلاً ** فـردك الدهـر منهيـاً ومأمـورا
من بات بعدك في ملك يُسَرُّ بـ……. فإنمـا بـات بالأحـلام مغـرورا
إسبانيا بالعربي.