العرب لم يستعمروا إسبانيا بل عمَروها: الجزء 6 “من الأحق بمائدة سليمان موسى أم طارق؟ و هذا أول إسباني أندلسي تحدث عن الفتح”.

أخبار إسبانيا بالعربي – تجاوزت النصوص العربية المنتمية للتراث البربري المركب الديني المُسلِم. فقراءتها تُدخلُ القارئ إلى عالم عجيب و خيالي. لا يتعلق الأمر بتحليلها لاستخراج أحداث تاريخية حقيقية, لأن المرء يجد نفسه ببساطة أمام أدب من وحي الخيال لا فرق بينه و بين حكايات ألف ليلة و ليلة.

طالع أيضا: العرب لم يستعمروا إسبانيا بل عمَروها: الجزء الأول (مقدمة)

هذا مثال على ذلك, و ليحكم القارئ بنفسه: بعد مُضي أشهر قليلة على فتح إسبانيا, نشبت نار العداوة بين موسى بن نصير و طارق بن زياد, و دخلا في نزاع عنيف وصل إلى حد  ذهابهما إلى دمشق لتبرير موقفيهما أمام الخليفة  الأموي, تاركين البلاد الأندلسية المفتوحة حديثا إلى مصيرها من دون سلطة مُعترف بها, و هذا أمر غير معقول و غير واقعي. قد يعتقد المرء أن سبب هذا النزاع هو اختلافٌ في وجهات النظر بخصوص المشاكل السياسية الخطيرة التي طرحتها السيطرة على هذه البلاد المترامية الأطراف. لكن لا شيء من هذا القبيل.

طالع أيضا: العرب لم يستعمروا إسبانيا بل عمَروها: الجزء الثاني (الغزو العربي المزعوم)

فالخلاف كان حول حيازة مائدة ثمينة عُثِرَ عليها في طليطلة ضمن كنوز الملوك القوط. كان كل واحد من هذين القائدين الفذين يدعي أحقية حيازة هذه المائدة الثمينة, كيف لا و هذه الغنيمة كانت فيما قبل مِلكاً للنبي سليمان.
كان الخليفة الوليد بن عبد الملك (705-715) قد تُوفي للتو. فكان على شقيقه و خليفته في العرش سليمان حل الخلاف. كان طارق يتهم قائده موسى. فهو من عثر على هذه القطعة العجيبة. و قد اغتاظ موسى من انجازه فلم يكتف بنزع المائدة منه, بل ضربه بالسوط أمام جنوده. برر العربي تصرفه بأن طارقا يستحق العقاب لخرقه المستمر لقواعد  الانضباط. ليرد البربري بأن موسى لطمه و قد هاج من الغضب حينما رأى المائدة و إحدى قوائمها مفقودة. المشكلة إذن أعقد مما نتصور. من حاز أولا هذه المائدة الثمينة؟ ألم يكن من الضروري لحل المشكلة استدعاء عبقرية مالكها الأول, النبي سليمان, المُعتاد على حل مثل هذه الألغاز؟ فجأة أخرج طارق القدم المفقودة من تحت عباءته, فكان هذا الدليل القاطع على حيازته لها أولا.

طالع أيضا: العرب لم يستعمروا إسبانيا بل عمَروها: الجزء الخامس “نقد الإخباريات اللاتينية”.

هكذا تمت إدانة موسى. حسب بعض الإخباريين, جوزي ابن نُصير على فتحه إسبانيا جزاءَ سنمار, فرغم تقدمه في السن تعرض للضرب بالسياط حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. بينما يخبرنا صاحب إخبارية “أخبار مجموعة” أنه اكتفى بدفع غرامة ضخمةً…و مات بعدها كمدا. أما طارق فقد تأبط مائدته و رحل إلى حيث لا يعلم أحد. أما أغرب ما في هذه الواقعة الغريبة: هو أن فاتحي إسبانيا, موسى و طارق, لم يعودا أبدا بعد ذلك إلى إسبانيا, بينما كانت البلاد في أمس الحاجة لهما لوضع حد للصراعات التي اندلعت بين أتباعهما. فحسب ما هو مدون في كُتب التاريخ, دخلت إسبانيا بُعيدَ رحيلهما إلى دمشق في سلسلة لا متناهية من الحروب الاهلية بين العرب دامت 60 سنة (34).
في خضم هذه القصص الخيالية تطفو إلى السطح ملاحظة في غاية الأهمية كان قد قام بها المستشرق الهولندي دوزي في أواسط القرن التاسع عشر, و قد أوردها في طبعته الثانية لأبحاثه “Recherches عام 1860. مع ذلك, لم يمتلك أي مؤرخ أو باحث إلى اليوم الشجاعة الكافية لاستنتاج الخلاصة المنطقية التي تتمخض عن هذه الملاحظة. يروي لنا عبد الملك ابن حبيب السَلَمي الأندلسي القرطبي (790م-853م) في كتابه “كتاب التاريخ” أنه زار القاهرة و تتلمذ على يد شيوخ مصريين. كان ذلك في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي, أي بعد قرن فقط على الغزو العربي المزعوم للأندلس. كان عبور طارق إلى إسبانيا و الدور الذي لعبه موسى بن نصير في فتح إسبانيا أحد الأمور المهمة التي تثيرُ اهتمام أي إسباني, و هذه الأحداث المفصلية في تاريخ اسبانيا عرفها الإسباني عبد الملك ابن حبيب من خلال العلامة المصري عبد الله بن وهب. بحيث يُصَدِّر هذا الأخير حديثه عن تاريخ إسبانيا في “كتاب التاريخ” بهذه الكلمات: “حدثنا ابن وهب قال: وجه موسى ابن نصير مولاه طارقا إلى تلمسان و أمره أن يتعاهد سواحل البحر و مراسيه, و يجعل عليها رصدا لعله أن يصيب من سفن الروم فيجد فيها شيخا عنده علم ففعل, فظفر به فقال له: “هل تعرفُ في علمك من يفتتح الأندلس؟ قال: يفتتحها معكم قوم يقال لهم البربر و هم على دينكم….” … “…ثم سار  طارق بألف رجل و سبعمائة رجل ثم تحاشد البربر إليه حتى صاروا اثني عشر ألف من البربر إلا ستة عشر رجلا من العرب  فلم تلحقه هذه العساكر إلا بعد فتحه الأندلس…” …”و كان ملك الأندلس في وقت نزول طارق قد غزا عدوا بها, و استخلف ملكا من ملوكها يُسمى تُدمير…فلما بلغ تُدمير نزول طارق بمن معه من المسلمين كتب إلى لذريق و هو يومئذ ملك الاندلس ” … “…فزحف طارق إلى لذريق و زحف لذريق إلى طارق فاقتتلوا قتالا شديدا…”…”ثم خرج موسى بن نصير يريد الأندلس إلى مولاه طارق في رجب, و كان قد غضب عليه غضبا شديدا, و سار نحو الأندلس في عشرة آلاف, فتلقاه طارق و ترضّاه و رضي عنه”.

ثم كتب الإسباني الأندلسي عبد الملك بن حبيب:  “حدثنا عبد الله بن وهب عن الليث بن سعد أن موسى بن نصير لما افتتح الأندلس مضى على وجهته يفتحُ المدائن يمينا و شمالا حتى أتى طليطلة و هي مدينة الملوك…”
حسب الببليوغرافيا و المراجع التي وصلت إلينا, يُعدُ عبد الملك بن حبيب أول إسباني يتحدث عن تفاصيل الغزو العربي لإسبانيا, و بالتالي خبر وصول العرب لإسبانيا, من وجهة نظر توثيقية بحتة, يعود للتراث المصري و ليس للتراث الإسباني. لقد برهن دوزي بأن تفاصيل هذه الإنجازات و الفتوحات الإسبانية ليست سوى تكرار لروايات هي في الأصل من حكايات المشرق الخيالية حول الحروب الأهلية التي دارت في القرن السابع هناك. و قد انتقلت شفهيا ثم سُطرت في الكتب وفقَ هوى و اتجاه كل كاتب.
لقد أظهر البحث الذي قام به المستشرق دوزي أن بعض هذه الأقاصيص تعود إلى تراث ما قبل الإسلام بينما تعود جذور بعضها إلى الكتب المقدسة القديمة. قصص مشابهة تُروى من عصر إلى عصر. و هذه بعض الأمثلة التي أوردها المستشرق الهولندي:
نقرأ في “تاريخ فتوح مصر و المغرب” لابن عبد الحكم المصري عن فتح الاندلس ما يلي: “و قد كان المسلمون حين نزلوا الجزيرة وجدوا بها كرامين. و لم يكن بها غيرهم. فأخذوهم. ثم عمدوا إلى رجل من الكرامين فذبحوه. ثم عضوه و طبخوه. و من بقي من أصحابه ينظرون. و قد كانوا طبخوا لحما من قدور أخرى, فلما أدركت طرحوا ما كان طبخوه من لحم ذلك الرجل, و لا يُعلم بطرحهم له, و أكلوا اللحم الذي كانوا طبخوه, و من بقي من الكرامين ينظرون إليهم, فلم يشكوا أنهم أكلوا لحم صاحبهم. ثم أرسلوا من بقي منهم فأخبروا أهل الأندلس أنهم يأكلون لحم الناس, و أخبروهم بما صُنِعَ بالكرَّام”. (ص 278 ج1). (35).

كانت الخدعة فعالة. فقد ارتعب الأندلسيون من عادات رجال طارق فاستسلموا للغازي حتى لا يكونوا وجبة لحم دسمة !
عندما باشر دوزي دراسة هذه الفترة كان مأخوذا بقراءة عاطفية. كان قد انتهى من مطالعة الاخبارية البربرية “أخبار مجموعة” التي كان نصها مجهولا بالنسبة للمختصين حتى ذلك الحين. فتحمس لها, و بالغ في تقدير أهميتها, معتقدا أنها مرجع يُعتد به باعتبار أن مؤلفها لم يتأثر بالروايات المصرية. لكن الأمر لم يكن صحيحا. ففي معرض حديثنا في الفصل السابق عن حصار ماردة من طرف موسى, أوردنا ما ذكره صاحب “أخبار مجموعة” عن الرعب الذي ألقاه “آكلوا لحوم البشر” هؤلاء في قلوب أهل ماردة. ما يدفعنا للاعتقاد أن مؤلِفها اطلعَ على تاريخ ابن الحكم. و قد سرد المستشرق دوزي النسب الطويل لهذه “الخدعة”: فالمؤرخ ابن عذارى المراكشي ذكر أن الأمير إبراهيم مؤسس دولة الأغالبة استعمل نفس الحيلة لاحتلال جزء من المغرب الذي دان له عام 809م. قبل أن تتحول هذه الحيلة إلى فلكلور عالمي.  حيث أوردها المؤرخ أديمار Adhemar في معرض حديثه عن إنجازات روجر النورماندي, بينما نسب وِليَم الصوري هذه الخدعة إلى بوهيموند الأنطاكي.
عندما غزا عبد العزيز بن موسى بن نصير شرق الأندلس, كانت تلك المنطقة تحت حكم تيودومير بإمرة من لوذريق الذي كان ينتمي لمعسكره. كان تيودومير يعي بأن موازين القوى ليست في صالحه فتجنب القتال في ساحة مفتوحة و تحصن في مدينة أريولة Orihuela. أمام قلة عدد مقاتليه تفتقت عبقريته عن حيلة خارقة. فقد وضعَ نساءَ البلدة خلف الأسوار و خلف الرجال المقاتلين و وضع في أيديهن الحراب و أسدلنَ شعورهن على أكتافهن على عادة الرجال القوط. دُهِشَ عبد العزيز لرؤية العدد الكبير المتحصن خلف أسوار المدينة, فلم يجرأ على مهاجمتها, و اضطرَ لعقد اتفاقية مع أهلها عُرفت بمعاهدة أريولة أو تودمير. سنعود فيما بعد لنقد هذه الرواية. لقد برهن دوزي على أن هذه الحيلة سبق و استُعملت في المشرق تسعين سنه قبل حادثة تيودمير و ذلك من طرف المدافعين عن  إحدى مدن بلاد الرافدين عندما كان يحاصرها خالد بن الوليد (36).

أما موسى بن نصير فيتم تقديمه و وصفه كنبي من أنبياء بني إسرائيل. فحسب ما جاء في تاريخ ابن حبيب و تاريخ أحاديث السياسة لتلميذه, تهاوت أسوار أحد الحصون بفعل دعائه كما تهاوت أسوار أريحا أمام صيحة يوشع بن نون.
هكذا إذن نفهم المصداقية القليلة التي تتمتع بها الإخباريات العربية و البربرية. فلا هذه و لا تلك تصف لنا أو تفسر لنا كيف حدث غزو إسبانيا و لحساب من. لم تكن الأحداث التاريخية تحظى باهتمامها, فهدفها كان  تسلية القارئ. و هذا ما دفع غوتيي لإصدار هذا الحكم المعبر: “باستثناء العظيم ابن خلدون, و هو نصف غربي, يفتقر المؤرخون العرب المزعومين للتحليل, يعوزهم الحكم النقدي, غير منطقيين, جافون, يصعب قراءتهم. و السبب بسيط للغاية, حيث لم يكن هناك تاريخ في المشرق”. (37).
و إذا كان الفكر الذي سرد النصوص العربية لا يتوافق مع أساليب البحث التاريخي, فهذا لا يمنع من الإقرار بأن المُستشرقين الغربيين لم يجرؤوا أبدا على زعزعة الأفكار المُسبقة المُسلِمة, ليس فقط في الإخباريات التاريخية بل و حتى في النصوص الإسلامية الأساسية التي لم تُعرَض على محك النقد. لقد كان علينا الانتظار حتى سنة 1953 ليقوم المستشرق الفرنسي رجيس بلاشير بمعالجة إشكالية ترتيب سور القرآن حسب تواريخ نزولها. و في هذه الظروف يتعين إعادة كتابة تاريخ الإسلام و الحضارة العربية.
للوصول إلى فهم تقريبي لما جرى في إسبانيا في بداية القرن الثامن الميلادي, ينبغي منح الأولوية للإخباريات اللاتينية و الأندلسية بالرغم من علاتها. قي المقابل ستساعدنا الإخباريات البربرية على تأكيد الخبر الوارد في الإخباريات الأولى. فعددٌ أو حدثٌ متواثر في نصوص عديدة يُشير إلى وجود تراث منتشر في مجال واسع يكفي للحكم بصحة الحدث تاريخيا. في المقابل لا ينبغي التغاضي عن السياق الذي كان يلف الإخباريات القديمة, فقد دُوِنَت في الفترة ما بين القرن التاسع و الحادي عشر الميلاديين. و خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة, استطاعت الأساطير المصرية عبور مضيق جبل طارق و الانتشار في أنحاء شبه الجزيرة الإيبيرية. و عكس غيرها من الروايات المحلية و الاجنبية, استطاعت الأساطير المصرية الخلود في كتب التاريخ لانتمائها العضوي للحضارة العربية, في حين افتقر غيرها للداعم الحضاري المحلي. هكذا يُمكنُ تلخيص ما جرى على الشكل التالي:

بعد وفاة غيطشة اندلع صراع على الحكم بين أبنائه من جهة و لوذريق الذي عُينَ ملكا لطليطلة وفق العُُرف الجرماني من جهة أخرى. كان أبناء غيطشة صغار السن و قد طلب أنصارهم المساعدة في هزم لوذريق من طارق حاكم إقليم طنجة شمال المغرب و الذي كان خاضعا لسيطرة الملوك القوط. هكذا بعثَ هذا الحاكم بضع مئات من المحاربين الريفيين البربر و عبروا المضيق إلى العدوة الشمالية, و من خلال هذا الدعم استطاع مُعسكَر أبناء غيطشة هزم لوذريق في معركة دارت رحاها عام 711م في جنوب الأندلس و تحديدا في منطقة بين قادش و الجزيرة الخضراء. فكانت هذه المعركة فاتحة سلسلة من الحروب الأهلية بين مجموعة من أمراء الحرب للوصول إلى السلطة. و قد استمرت هذه الحروب الأهلية حوالي 60 سنة.
الهوامش: 
(34) في هذه الرواية يلعب البربري المسلم طارق دور البطل المُتعاطَف معه. فالإخباريات العربية مجمعة على أن موسى كان عربيا, بينما يصر المغاربة دوما على بربرية طارق. هكذا إذن فالشرير هو العنصر الاجنبي بينما الرجل الطيب مغربي و قد اضطُهدَ بسبب إنجازاته. و بفضل عبقريته انتصر على مكائد غريمه الغريب عن وطنهم. في فصل قادم سنتحدث عن طارق حاكم إقليم طنجة شمال المغرب, و الذي كان قوطيا و صديقا للملك غيطشة الذي عينه في هذا المنصب. و بالتالي فتحريف التاريخ تجاوز الاحداث إلى الأشخاص, و جعل من طارق القوطي بربريا. 
(35)  “تاريخ فتوح مصر و المغرب” لابن عبد الحكم المصري. ص 278 ج1.

(36) بالنظر لهذه السوابق تُصبحُ رواية تودمير و معاهدته الشهيرة محط شكوك كبيرة  رغم نسخة المعاهدة التي عُثِرَ عليها في عصر متأخر و اعتُبرت واحدة من الوثائق النادرة المرتبطة بغزو إسبانيا. سنخصص بحثا عن هذه المسألة في فصل قادم. 
(37) E.F Gauthier : moeurs et coutumes des musulmans. P 10. ابن خلدون وٌلدَ في تونس و هو نصف غربي بسبب جذوره الأندلسية و تربيته الإسبانية.

المصادر:
المرجع: كتاب Ignacio Olague إيغناسيو أولاغوي, La revolucion islamica en occidente (الثورة الإسلامية في الغرب). 
منشورات مؤسسة خوان مارش. وادي الرملة. Fundacion Juan March. Guadarrama

موقع إسبانيا بالعربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *