من عبق التاريخ

العرب لم يستعمروا إسبانيا بل عمَروها الجزء 9: انتشار اللغة اللاتينية و العربية ودور طبقة التجار في انتشار الإسلام

أخبار إسبانيا بالعربي – كان هناك سوء فهم يُخدِّرُ الحكم النقدي لدى المؤرخين و سببه تصوُّرٌ مُعَدٌّ مسبقا. فقد توارث الباحثون مفهوما بدائيا للأحداث التي جرت في الماضي و للحقيقة الاجتماعية المسؤولة عنها و كانوا يخلطون بين نشأة و توسع الأفكار الخلاَّقة لحضارة ما مع القوة العسكرية المُجردة, هذه الأخيرة سمحت بالفعل في الماضي بتشكل بعض الامبراطوريات لكنها كانت قصيرة العمر.

وكان أساسُ هذا المفهوم البدائي التصور الخاطئ لتشكل الامبراطورية الرومانية. فقد كان يسود الاعتقاد حتى وقت قريب بأن هذه الملحمة الكبرى كانت من إنجاز الفيالق Legiones, و هو اعتقاد مبالغ فيه. دون أن ننتقص من دور الفيالق, كان من الضروري الاعتراف بسبب آخر: الصراع بين الأفكار و الهيمنة التي فرضتها الأفكار ذات الزخم الأكبر. خلال التنافس الذي دام آلاف السنين بين الحضارات السامية و الهندو-أوربية , كان وزن روما و ما تمثله من مفاهيم سياسية و اجتماعية أكثر تأثيرا من تخلي الرومان عن المحراث لصالح السلاح. في الحقيقة, لم تنهزم قرطاجة نهائيا أما الرومان في معركة زامة, فهذه لم تكن سوى معركة عسكرية غير متوقعة النتائج فتحت المجال لمرحلة هدنة بين الطرفين في هذه الفترة الطويلة من الصراع الثقافي. 
و قد عثر الباحثون في شمال إفريقيا في الآونة الأخيرة على الأسس السامية للثقافة البدائية القرطاجية التي كانت أساس توسع الحضارة العربية (46). لقد كان مجد حنبعل توهجا بلا أساس. لماذا؟ لأنه في خضم صراع الأفكار الدائر آنذاك, مساهمة الثقافة القرطاجية السامية كانت أدنى بكثير من مساهمة الثقافة الرومانية. و إسبانيا شاهدة على هذا: هل يمكن مقارنة العمل الذي قامت به قرطاج في الجزيرة الإيبيرية خلال ستمائة سنة مع ما قامت به روما خلال نفس الفترة؟ لقد بدت معالم النقص عند القرطاجيين مع الأيام الأولى للحروب البونية ضد الرومان, حيث وجد مجلس الشيوخ الروماني حُلفاءا متحمسين في المدن الساحلية الشرقية لإسبانيا و ذلك قبل أن تحط الفيالق رحالها في هذه المنطقة التي ستُلحق بالامبراطورية مستقبلا. و هو ما يدل على أنه بالرغم من بُعد المسافات, كانت روما قد تحولت إلى مركز جذب مهم للغاية.

نفس الأمر جرى من وجهة نظر ثقافية و فكرية. لم تَفرض الفيالق اللغة اللاتينية, و إنما انتشرت في الغرب بفعل تفوق لغوي على باقي اللهجات المحلية التي كان يتحدثها السكان المحليون. على النقيض من ذلك, و رغم وجود الفيالق, لم تستطع اللاتينية الضرب بجذورها في الشرق لأنها كانت في موقع ضعف في صراعها مع اليونانية.  في هذه الفترة, حيث القوة العسكرية اليونانية مجرد ذكرى بعيدة في أذهان الناس, بلغت لغتها و آدابها أوج مراحل انتشارها, و تجاوزت الحضارة الهيلينية ضفاف البحر المتوسط.
نفس الأمر يمكن ملاحظته عند معاينة انتشار الحضارة العربية خلال السنوات التي تلت الفترة المظلمة للغزوات العربية المزعومة. ففي الوقت الذي تلاشى فيه التفوق العسكري العربي تماما في المشرق, نجحت هذه الحضارة في التوسع في السهول العليا لآسيا الوسطى و في أطراف المحيط الهندي. كان الاتراك و ليس العرب من استولوا على القسطنطينية, لكن في نهاية الأمر, تحولت كاتدرائية سانتا صوفيا إلى جامع تابع للديانة المحمدية و ليس إلى معبد آخر تابع لديانة آسيوية أخرى. في القرنين الخامس عشر و السادس عشر انتشر الإسلام ليصل إلى أندونيسيا من دون أي عمل عسكري.  و في القرون القليلة الماضية استطاع تثبيت أركانه في جزر المحيط الهادي أمام أعين البرتغاليين و الهولنديين, في وقت لم تعد فيه قوة الخلفاء المسلمين سوى ذكرى من زمن غابر. و اليوم تُعد أندونيسيا أكبر دولة من حيث عدد المسلمين, حيث تضم أكثر من 90 مليون مسلم (في بداية السبعينيات من القرن العشرين). كما دخل الإسلام إلى أفريقيا السوداء أمام أنظار الإدارات الاستعمارية الفرنسية, الانجليزية و البرتغالية. و يُقدرُ بحوالي 30 مليونا عدد السود الأفارقة الذي اعتنقوا الديانة المحمدية من بداية القرن العشرين حتى عام 1960م (47).

إن معاينة انتشار الإسلام في الوقت الحالي و في الأزمنة المعاصرة يمكننا من فهم ديناميته في العصور القديمة. لا يوجد سبب ما – على حد علمنا- يمنع فكرة مُعينة من الانتشار بنفس الطريقة في الماضي كما في الحاضر, في القرن العشرين, كما في القرن السادس عشر, كما في القرن الثامن. لقد انتبه المؤرخون في الآونة الأخيرة إلى أن الإسلام انتشر أيضا اعتمادا على حركية طبقة اجتماعية محددة. كما هو معلوم, لا وجود في هذه الديانة للقساوسة و للرهبان المبشرين الذين يتنقلون في البلدان البعيدة للدعوة إلى أسرار عقيدتهم, و لا وجود أيضا لتنظيم بيروقراطي مثل الذي تحتفظ به المسيحية في روما. لقد تمَّ تناقل الفكرة الإسلامية عبر أسرع وسيلة تواصل متاحة آنذاك: التجارة, التي استُخدمت كحلقة وصل بين الأمم المتباعدة. لقد سلَّط بعض الباحثين الضوء على الدور الذي لعبته طبقة التجار في نشر تعاليم محمد. و هذا أمرٌ مُعاينٌ في الماضي و يتكرس اليوم في أفريقيا السوداء و في المناطق النائية عن الثقافة الغربية. 

المؤرخ الألماني شلومو دوف جويتين Shlomo Dov Goitien ا(1900-1985)أثبت أهمية التُجار في الأيام الأولى للإسلام. فالنبي نفسه كان تاجرا. و صهره و خليفته أبو بكر كان تاجر قماش. أما عثمان ثالث الخلفاء فكان مستورد حبوب. و قد وصلتنا من هذه الحقبة نصوص تُولي أهمية للشأن الاقتصادي. أهمها كتاب “الكسب” للإمام المُحَدث محمد الشيباني (748م-804م/ 131ه-189ه). و في كتاب “إصلاح المال” لابن أبي الدنيا (823م-895م/208ه-281ه), أورد هذا الأخير كلاما للتابعي أبي وائل شقيق ابن سلمة الأسدي (1ه – 82 ه)الذي عاصر النبي لكن لم يره: “حدثنا أبو حفص الصيرفي, حدثنا عبد الرحمان بن مهدي, عن عمرو بن قيس, عن عاصم, عن أبي وائل قال “الدرهم من تجارة أحبُّ إلي من عشرة من عطايا”. (صاحب البحث إيغناسيو أولاغوي نسب هذه المقول لابن سعد, و بدل “عطايا” ذكر “راتب جندي” , و قد قمنا في مدونة صلة الرحم بالأندلس حين الترجمة ببحث قصير عن هذه المقولة فوجدنا أنها مذكورة في كتاب ابن أبي الدنيا و نسبها لابن وائل). المؤرخ الألماني جويتين أكَّدَ أيضا أنه في العصور الأولى للإسلام كان التُجارُ على الخصوص هم من يحرصون على تطوير العلوم الدينية للإسلام” (48).

هذه الظاهرة ليست حكرا على الديانة المحمدية. فقد لفت المؤرخ جويتين الانتباه إلى أن طبقة التجار لعبت أدوارا مهمة للغاية في انتشار حركات فكرية أخرى, حيث يذكر: “حالات مشابهة يمكن العثور عليها في تاريخ الفنيقيين و الإغريق و المدن الإيطالية في القرون الوسطى” (49). و قد ذهب جويتين إلى أبعد من ذلك, حيث وجد نقاط تشابه بين الكُتاب العرب خلال السنوات الأولى للهجرة و بعض الكتاب الإنجليز البروتستانت في القرن 18 ميلادي الذين يُعتبرون من أوائل منظري الرأسمالية. فرغم تباعد المكان و الزمان, و الفوارق المادية و الفكرية, إلا أنهم يتفقون على مفهوم مشترك: التجارة تحظى برضا الرب, و الجزاء هو الاغتناء. فسلطة المال تُيسِّرُ انتشار المُثُل الدينية. هكذا كانت تفقد الحرب المقدسة الدور المهيمن الذي أبهر المؤرخين حين دراستهم لانتشار الإسلام. و بدأوا يشكون في أنها كانت سلاحا دعائيا أكثر منها حقيقة ملموسة و ثابتة. و ما أبعد هذه التفسيرات عن التفسيرات التقليدية للتاريخ (50).

لقد سمحت هذه الأبحاث الجديدة من الوصول لفهم أفضل لإشكاليتنا المتمثلة في فهم انتشار الإسلام و الحضارة العربية في إسبانيا في بداية القرن الثامن الميلادي. و كلما اطلعنا بشكل أدق على تاريخ المشرق كلما اكتشفنا مفاجآت أكثر. مع ذلك ينبغي الاعتراف بأن هذه الظواهر ليست كافية لتفسيرانتشار الحضارة العربية, لسبب بسيط: لا يمكن للآلية أن تحل محل الوظيفة, و الوسيلة محل الغاية التي صنعت لها. مثلا حدثَ انفجار و تم العثور على مدفعية. هذا لا يكفي لفهم ما جرى. فالمدفعية ليست سوى آلة أطلقت قذيفة و كانت خلفها فكرة وجهتها. لهذا لبلوغ مرادنا المتمثل في فهم انتشار الإسلام لا بد من تحليل العوامل الأساسية التي سمحت بتشكيل الحضارة العربية و منحتها الطاقة اللازمة للتوسع عبر القارات.

لقد تمت المقارنة بين المؤرخين و علماء المستحاثات الذين من خلال وثائق قليلة يعيدون تكوين مراحل الحياة في تطورها السابق. فعالِم المستحاثات يدرس جزءا من كائن حي, قد يكون صغيرا, تافها, مهترئا, لكنه موجود أمامه و بين يديه و على حقيقته. فها هو مثلا يستخرج من الصخرة الأم سِنًّا. سيكون بمقدوره من خلال قوانين الارتباط رسم مخطط تقريبي للهيكل العظمي للحيوان صاحب السن. و هذا شبيه بما حدث للعالم كوفييه Cuvierا(1769-1832) الذي أعاد تشكيل ديناصور الميجاتيريوم قبل أن تتبث الاكتشافات اللاحقة صحة تصوره لهذا اديناصور (51). و رغم النقائص الخاصة بكل حالة, يتوفر عالِمُ المستحاثات على وثيقة لم تتعرض للتزوير لا من الطبيعة و لا من طرف الأجيال البشرية التي سبقته. و بالتالي من خلال مورفولوجية السن مثلا يسهل عليه تحديد إن كان لحيوان زاحف أو ثديي, ثم يُحدد بعد ذلك نوعه و فصيلته.

لا يوجد توثيق مماثل يخص الفترة التاريخية التي تهمنا. حيث لم يتبق لنا من إسبانيا القرن الثامن الميلادي أية شهادة أو وثيقة سياسية, باستثناء بعض العملات و بعض الآثار المعمارية و النصوص المتعلقة بجدالات دينية بين مذاهب مسيحية, و هي وثائق ينبغي تفسيرها بشكل سليم. و لسرد وقائع ما حدث اعتمد المؤرخون على إخباريات أُلفت بعد الأحداث التي كانت تصفها بزمن طويل. و هي ليست وثائق تاريخية لأنها تنقل صورةً ,حرفها الخيال و أحكام المؤرخين المُسبقة, لتراثٍ قديمٍ ينتمي لأحد الطرفين المتصارعين (الطرف الآخر لا نعرف عنه شيئا), و بمرور القرون تعرض هذا التراث لتغييرات عديدة و متنوعة.  لا علاقة لهذا بسنِّ عالم المستحاثات الذي لم يتعرض لأي تغيير منذ نفوق الحيوان الذي ينتمي إليه.

من جهة أخرى, علماء المستحاثات الذين رسموا الخطوط العريضة للحياة في الماضي كانوا يتوفرون على مفتاح يسمح لهم بتحديد الشاهد من خلال تراتبية بيولوجية في جداول منهجية. كما كانت نظرية “التحول” Transformismo تنير طريق أبحاثهم. ما من شك أنهم كانوا يجهلون آلية التطور, و قد عوضوا هذا النقص بالاعتماد على النظرية كفرضية للعمل. بعد ذلك, و بفعل توالي الاختراعات و الاكتشافات, خصوصا في مجالات الكيمياء البيولوجية و الفيزياء النووية, أُجريت تعديلات على النظرية شيئا فشيئا حتى أصبحت حقيقة ثابتة. لا شيء يشبه ذلك في مجال التاريخ. فالباحث لا يتوفر على عُرف مُوجِه يسمح له بتحديد حدث ما, مهم كان أو منعزل, في مُنحنى يميز من خلاله مرحلة النشأة و التطور حتى يتمكن بهذا الشكل من ملئ فراغ أو تفسير أمر مبهم.

لقد أكَّدنا في دراساتنا حول نشأة, نمو, نضوج و تقهقر الحضارات, على الدور الذي يمثله في التاريخ تَكَوُّن, انتشار, استقرار ثم انحدار الأفكار/القوة, بعبارة أخرى, تطور الحضارات يتماشى مع تطور الثقافات التي تُشكِل هذه الحضارات. من خلال صُهارة خلاقة تنبتق بعض الأفكار/القوة. تتنافس فيما بينها مثل باقي الكائنات الحية. تنجح الأكثر دينامية  في هزم الأكثر وَهناً و الأقل نجاعة و  تلاءما مع محيطها. تتمازج هذه الأفكار/القوة الغالبة في مزيج متوافق يمثل ذروة تطورها و في هذه اللحظة الحاسمة يصل الفن إلى أرقى درجات تعبيره. بعد ذلك, تُصاب المفاهيم بالجمود و تفقد مرونتها الأولية. فيحدث التقهقر و تَنحَلُّ الأفكار القوة.

تنتمي هذه الأفكار/القوة إلى أسمى مستويات الفلسفة أو اللاهوت, مثل المنافسة التي دارت بين الأفكار التوحيدية و التثليثية و التي أحدثت شرخا في الحوض المتوسطي منذ تفكك الامبراطورية الرومانية و حتى معركة ليبانت (1571م). كما قد تكون وراء أبسط الأنشطة البشرية حيث بالرغم من بساطتها الظاهرة تكون, أحيانا, مصيرية لمستقبل الإنسان, على غرار اختراع العجلة, و طوق الجر بالنسبة للدواب, و الركاب و الحدوة بالنسبة للفارس, أو استعمال الصفر في الحساب العشري العربي. نواة مهمة من الأفكار/القوة المتفاوتة الأهمية تُكَوِّنُ ثقافةً ما, و ثقافات متعددة متحدة يجمعها قاسم مشترك تُكونُ حضارةً. ثقافات العصور الحجرية القديمة و الحديثة و المعاصرة المنتمية إلى شعوب الإسكيمو الذين يعيشون و عاشوا في أزمنة  أخرى في مجال جغرافي قطبي, تُكَوِّنُ حضارة الرَنَّة. (52).   
إن الوقائع المادية و الفكرية المُهيكِلة لوحدة تاريخية نُطلقُ عليها حضارةً, تُحدد بشكل كبير تطور الأحداث لأنها توجد في علاقة سببية مع الأفكار التي تُوجهُ حركات الناس و المجتمع. هذا لا يعني بأنها هي ذاتها تُنتجُ الأحداث بشكل مباشر. قد يحدث, لكن في مرات نادرة. لكن في الأوقات الطبيعية, تتحرك ببطء و لكن بفعالية. تدعم الأفكار التي تؤيدها و تصد تلك التي تعارضها. من خلال هذه الوظيفة المزدوجة, الإيجابية و السلبية, تُوجه الظواهرَ الاجتماعية نحو هدف محدد. الأحداث ذات التوجه المشابه للتوجه المفروض من طرف الأفكار/القوة توسع مجال تأثيرها أما تلك المناوئة لها فتُحصرُ حركتها و يُحد من تأثيرها حتى تتلاشى شيئا فشيئا.

لا يتعلق الأمر بأوهام لا أساس لها أو تخمينات فلسفية منعزلة و غير منطقية, و إنما هي درسٌ من فترة تاريخية هي الوحيدة التي نعرفها بطريقة علمية: الأزمنة الحديثة في الغرب. من عصر النهضة و حتى القرن العشرين يمكن من جهة معاينة تطور الأفكار و من جهة تزامن الأحداث. هكذا استطعنا في أبحاثنا تحديد العلاقات السببية القائمة بين الأفكار/القوة و الوقائع. و إذا نجحنا في إثباتها و صح بالتالي حكمنا سنكون قد قدمنا وصفا جديدا للتاريخ. 

فلنضرب مثلا ملموسا: يتعلق الأمر بحدث تافه ظاهريا, ألا وهو نشر, في القرن 16م, للكتب الشعبية التي تُعلِّم للعموم فن الضرب و خبايا الرياضيات الأخرى التي وضعها العلماء الإسبان الأندلسيون في القرون الوسطى. لا نجد صدى لهذا الحدث في كتب التاريخ رغم أن تأثيره على مستقبل المجتمع الإسباني كان عظيما؛ بينما نكسة البحرية الإسبانية التي لا تُقهر Armada Invincible و التي شدت اهتمام المؤرخين  لم يكن لها أثرٌ يُذكر في الأحداث المستقبلية. فكان بالتالي مجرد حدث ثانوي. هكذا نستنتج وجود تراتبية للأحداث التاريخية التي بالإمكان ترتيبها و تقييمها حسب صداها في المجتمع. هذا الصدى, يكون قويا أو ضعيفا حسب طاقات الأفكار التي كانت وراءها. للوصول إلى أهدافنا ستُترجمُ هذه المفاهيم إلى طريقة تاريخية جديدة. و قد تكون ذات دور كبير في فهم ما حدث في فترات مبهمة من التاريخ بسبب غياب توثيق مناسب لما جرى. 
لو اعتبرنا الحضارة العربية وحدة كاملة سنُلاحظ أن محورها تصور ديني للحياة. سيتعين حينها البحث عن تَكوُّن الأفكار/القوة التي تُشَكِّلها في التعقيد الديني الذي كان موجودا في بدايات القرن السابع الميلادي. و سيكون متاحا للنقاش إن كان هذا الوسط سببا أم لا للحركة المحمدية. و نحن يبدو لنا أن إلهام النبي كان في جزء كبير منه عملا فرديا غير مرتبط بمحيطه. لكن ما من شك أن انتشار تعاليم القرآن كان نتيجة الأزمة الدينية التي كانت موجودة بشكل أو بآخر في المناطق التي تبلور فيها الإسلام ما يفسرُ سرعة انتشاره بالنظر لوسائل التواصل آنذاك. 
هكذا يمكننا استخلاص بعد الخلاصات حول انتشار الإسلام و الحضارة العربية في إسبانيا:

1- في العصور الوسطى المبكرة, كان في النصف الجنوبي لفرنسا, و الجزيرة الإيبيرية و شمال إفريقيا مناخ فكري شبيه بالذي كان سائدا في الولايات البيزنطية. و كان نتيجة تعقيد ديني بدأ في الظهور منذ تاريخ بعيد.

2- سمح هذا المناخ بانتشار الإسلام و الحضارة العربية في هذه المناطق. لكن بفعل بُعد المسافات و ظروف أخرى, كان لابُدَّ من وجود فارق زمني بين تبلور الحضارة العربية في المشرق و في الغرب. و هو أمر يمكن الاستدلال عليه تاريخيا. فحسب ما وصلنا عن تلك الفترة من معلومات عن الأنشطة الدينية, الثقافية و الاجتماعية في شبه الجزيرة الإيبيرية يمكننا التأكيد على أن تجليات الثقافة العربية بدأت في الظهور في منتصف القرن التاسع الميلادي, أي بعد قرنين من تجليها في المشرق. 

3- مسار التطور الذي سمح بالعبور من مرحلة النشأة إلى المجد الشامل للأفكار/القوة كان أطول في الغرب مقارنة بالمشرق.

من الممكن إذن تحديد الأحداث التي وقعت في شبه الجزيرة الإيبرية من القرن الرابع الميلادي حتى القرن الحادي عشر, و هو تاريخ الإصلاح الإسلامي المضاد في الغرب, وفق مسار عام مشترك مع أمم متوسطية كثيرة. و هذه الدراسة تبدو مُتاحةً لأن تطور الأفكار جرى هنا بإيقاع أكثر بطئا من تلك التي عرفها المشرق و بشكل أكثر بساطة, لأن الحركة الرئيسية لم تتعرض للتشويش من طرف حركات الأفكار الثانوية. بفضل معرفتنا الحالية لبعض الأحداث على وجه الدقة, و رغم تباعدها في الزمن, سيكون من السهل ربط بعضها ببعض على شكل منحنى. سيظهر لنا حينها بأن هذا التطور في الأفكار الدينية الذي أدى إلى عقلية خاصة و بعدها تطور إلى رأي ما قبل مسلم Premusulmana, يُشّكِّلُ وحدةً موازيةً لمظاهر فكرية و ثقافية.

بعبارة أخرى, نجد أنفسنا أمام ثقافة حقيقية نشأت و نمت في الفترة القوطية؛ أفكار/قوة تطورت رويدا رويدا  إلى الحضارة العربية. نفس الأمر جرى في الولايات البيزنطية القديمة حيث مظاهر الحضارة العربية تستمد جذورها من تعاليم الحضارة البيزنطية الغنية بتعاليم مدرسة الاسكندرية. على نفس المنوال, الثقافة القوطية اتخذت أشكالا محلية و فريدة, فكانت أحَدَ العمودَين اللذان سندا الثقافة العربية – الأندلسية. 

من الممكن اتباع مسار التطور هذا في الأعمال الفنية للقرن الوسيط المبكر التي حُفظَت في شبه معجزة بفضل انعزالها و بعدد يكفي لتعويض غياب النصوص. سيكون هذا البحث موضوع الجزء الثالث من هذا الكتاب. لغة الفن تنفد من العيون. ليس المرء في حاجة إلى علم المتخصص و لا لنظرة المؤرخ الشاملة لفهمها و الوقوف على استمرارية الأفكار في نفس منحنى التطور. إنها أدلة و شواهد في متناول الجميع. 

سيكون من الممكن فك شفرة جامع قرطبة. فرغم أبحاث المؤرخين الذين اعتنوا بهذه الفترة من القرن الثامن الميلادي و التي كانت حاسمة في تاريخ البشرية, لازال هناك شاهد استثنائي لهذه الفترة. و هو شاهد ليس متاحا لطرق البحث الكلاسيكية. الحجر, الرخام, الكلس, خشب الأرز و الصنوبر هي صماء بكماء في ذاتها. لكن حينما ترصع عملا فنيا تُصبح مفوهة فصيحة و في قمة البلاغة, و يكفي الوقوف على الإحساس الذي يُخلفه التواصل معها لفهم لغتها. و هذا هو حال معبد مدينة قرطبة.

فإذا كان هناك مسارٌ واحدٌ للتطور من القرن الرابع ميلادي و حتى القرن الثاني عشر, فماذا عن الغزو العربي التقليدي؟ لو تعرضت إسبانيا في عام 711م لغزو و سيطرة شعب شرقي لفَرَضَ هؤلاء أمورا على الساكنة الإسبانية غريبة عنهم, و لبقيت حتى عصرنا شاهدة على الغزو. لكن لا شي من ذلك. باستثناء العلاقات التاريخية بين إقليم الأندلس و بيزنطة, وجَبَ الانتظار حتى القرن 12 لنُميزَ في الفن الإسباني بصمات قادمة من إيران. 

لقد انتشر الإسلام و الحضارة العربية في شبه جزيرتنا الإيبيرية كما انتشر في المشرق, و ذلك وفق نفس مسار التطور. لم يكن هناك أي تحول. التوفيق الديني الإسلامي كان نتيجة حملة تطهير طويلة للأفكار التوحيدية التي تستمد جذورها من المذاهب المسيحية الاولى: خلال النشأة كانت الحضارة العربية استمرارا للحضارة البيزنطية. رغم اختلافهما, كانت الحركتان آنذاك متزامنتان. النبي محمد لم يغزوا الجزيرة العربية بجيوش أجنبية لإقناع أبناء بلده بالدين الجديد. و إنما دارت حرب أهلية. نفس الأمر جرى في إسبانيا. في شبه الجزيرة الإيبيرية, كما في باقي مناطق البحر المتوسط, لم تحدث اعتداءات عسكرية ضخمة تقودها دول عظمى. فلا أحد كان قادرا على ذلك. كان الأمر يتعلق بأزمة ثورية.

الهوامش:

(46) E.F Gauthier “Moeurs et coutumes des musulmans” Payot, Paris. P 17.
المؤرخ الفرنسي غوتيي يضرب مثلين للتقاليد القرطاجية: يد فاطمة التي استمرت بين العادات الشعبية الإسبانية لوقت طويل. و هي تُستعمل كتميمة لحماية الاطفال الصغار. و الهلال الذي كان يرمز في سوريا و قرطاج للإلاهة تانيت.  
(47) المؤرخ جون بول غو Jean Paul Roux في كتابه “الإسلام في آسيا” (عام 1958) يقدم الأرقام التقريبية التالية: باكستان: 66 مليون مسلم. أندونيسيا: 74 مليون مسلم. و هي أعداد ارتفعت اليوم بشكل كبير. فيسنت مونتيي Vicent Monteil الأستاذ في كلية الآداب بجامعة داكار نشر سلسلة مقالات في صحيفة لوموند الفرنسية عن مشكلة اعتناق السود للإسلام: “L’Islam noir en marche” . ا14 يونيو 1960.

(48) S.D Goitien.. Ibid P 588.

(49) S.D Goitien.. Ibid P 594.

(50) لقد أجبرت هذه الاعتبارات المستعربين على إعادة طرح المشكلة دون أن يساعدهم هذا في تصور تفسير جديد للأحداث. حيث كتب المؤرخ كسافيي بلانيول Xavier Planhol: ” لا يسعنا في ساعتنا هذه سوى تصور الانتشار السلمي للإسلام. لا يمكن دراسة عمليات الأسلمة بفعل الاحتلال العنيف سوى بالطرق التاريخية الغامضة للغاية. وحدها مناهج التدرج الحالية تسمح لنا بالتصور الدقيق للعوامل المساعدة و العراقيل الرئيسية التي تدخلت في انتشار الإسلام…هذا الانتشار كان أساسا بواسطة الطبقات الحضرية و الأوساط التجارية”. Le monde islamique ص 106-107.

 (51) توصل كوفيي برسوم للميجاتوريوم, المكتشف في الأرجنتين عام 1788, من طرف الأب الدومنيكي مانويل توريس الذي توصل بها بدوره من طرف عالم الأحياء الإسباني برو Bru الذي وضع له هيكلا عظميا في إحدى قاعات متحف العلوم الطبيعية في مدريد الذي أسسه كارلوس الثالث.

(52) André Leroi Gourhan: La civilisation du renne, Gaillmard. Paris 1936.

المراجع: كتاب Ignacio Olague إيغناسيو أولاغوي, La revolucion islamica en occidente (الثورة الإسلامية في الغرب). 
منشورات مؤسسة خوان مارش. وادي الرملة. Fundacion Juan March. Guadarrama

موقع إسبانيا بالعربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *