كتبت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في رثائه تقول “أحد كتَّاب إسبانيا الأشهر، والذي مزقت رواياته وقصصه أوصال النزعة المحافظة، دينيًّا وجنسيًّا، في بلده، ومجَّدت ماضيها الأندلسي”.
- أفضل خمس روايات إسبانية كُتبت في العشر سنوات الأخيرة
- 10 روايات وكتب إسبانية سهلة القراءة لتعلّم اللغة الإسبانية
لطالما كان اسم خوان جويتيسولو الكاتب والمستعرب الإسباني يزين عناوين أشهر الصحف، فهو المراسل الحربي الذي قاده رفض الظلم إلى قلب الحرب في سراييفو، ليدون معاناة شعبها، ويصبح أول صوت أوروبي ينقل حقيقة الأحداث، وهو الكاتب المتمرد الذي عاش حياةً طويلةً تجول فيها بين الدول المختلفة، وكتب عن ثقافات أمريكا اللاتينية والتراث العربي والتاريخ الإسباني، فما الذي نعرفه عنه؟
الحرب الأهلية الإسبانية: جُرح خوان جويتيسولو الذي لم يُشفى منه
ولد خوان جويتيسولو في برشلونة سنة 1931، وكانت الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، جرحًا غائرًا في طفولته؛ إذ فقد والدته إثر قصفٍ جوي لوسط المدينة عام 1937، ليتحول خوان إلى مُعارض كبير لنظام فرانكو، درس خوان القانون وفي سنوات الدراسة كانت موهبة الكتابة تتشكل لديه وانتقد في كتاباته الأولى الأفكار التي أسست القومية الإسبانية، وأمام سطوة نظام فرانكو غادر خوان إسبانيا فرارًا من الديكتاتورية عام 1956، وبعد سنواتٍ قليلةٍ من فراره وتحديدًا في عام 1963؛ حظر النظام كتبه داخل إسبانيا، وحُكم عليه غيابيًّا بالسجن.
عمل خوان لفترةٍ مستشارًا أدبيًّا لدار «غاليمار» للنشر، وحين انتقل إلى باريس التقى خوان بالمثقفين وكوَّن صداقاتٍ أدبيةً وفكريةً مع عددٍ من الكتاب مثل صمويل بيكيت وإرنست همنجواي وغي دوبور وجان جينيه، وصار أحد نجوم المشهد الثقافي، وأحب الأديبة الفرنسية مونيك لانج وتزوجها.
ثم درس الأدب في جامعات في كاليفورنيا وبوسطن ونيويورك في الفترة بين عامي 1969 و1975، ونشر مؤلفات متنوعة بين الكتب والروايات والسيرة الذاتية وأدب الرحلات، كما أثرى الصحافة الإسبانية بمقالاته فضلًا عن عمله مراسلًا حربيًّا في عدة مواقع نقل فيها صوت الشعوب والفئات المقهورة.
من سرايفو إلى أطفال الحجارة: خوان جويتيسولو وقضايا المقهورين
أبرز ما يميز خوان جويتيسولو ويمنحه مكانته المميزة في الأدب الإسباني، هو اندماجه العميق مع الفئات المقهورة أينما كانت، فقد تبنى قضايا المقهورين ودافع عنهم، وصار صوتًا أوروبيًّا يُعرِّف بتلك القضايا التي تجاهلها الأوروبيون؛ كان خوان متمردًا على الظلم بكل أشكاله، ففي باريس تعرف إلى قضية الجزائريين وأعلن إدانته للاستعمار الفرنسي، وكان يُخفي المجاهدين الجزائريين في شقته في باريس، وفي عام 1968 تعرف إلى بعض مناضلي حركة “فتح” الفلسطينية وكتب عن القضية الفلسطينية، وزار فلسطين عام 1988، وكتب عن انتفاضة الحجارة، كما سجل مواقف مؤيدة للربيع العربي الذي اندلعت شرارته في عام 2011.
في التسعينيات انتقل خوان إلى سراييفو ليعمل مراسلًا لأبرز الصحف الإسبانية صحيفة «الباييس» ويكشف أمام المواطن الأوروبي حقيقة الإبادة العرقية التي يرتكبها الصرب في البوسنة، لاحقًا جمع شهادته وتجاربه في البلاد المختلفة ونشرها في عدة كتب، من بينها: “يوميات فلسطينية”، و”رحلات إلى الشرق”، “دفاتر العنف المقدَّس”، و”دفاتر سراييفو”، و”الجزائر في مهب الريح”، و”غزَّة ـ أريحا: لا حرب ولا سلم”.
هكذا تنوعت أعمال خوان جويتيسولو بتعدد البلاد التي وطأت قدمه أرضها وبتعدد الثقافات التي ولع بها إذ كان مغرمًا بثقافة أمريكا اللاتينية والثقافة العربية، فكتب “خوان بلا أرض” عام 1975 عن بعض أوجه الثقافة الإسبانية التي رفضها، وكتب عن “الكتاب الإسبان في مواجهة ثور الرقابة”، و”الأديب الذي تطارده السياسة”، و”من هنا لهناك.. مقاربات للعالم الإسلامي”، و”ضد الأشكال المقدسة”، كما قدم عدة رواياتٍ وديوان شعرٍ واحدٍ.
خوان جويتيسولو.. الإسباني الذي لم ينس الأندلس
يعد كتاب “في الاستشراق الإسباني”، هو الكتاب الذي اشتهر به خوان جويتيسولو في العالم العربي، والذي دافع فيه عن الثقافة العربية ودورها وأكد فيه تأثير المسلمين الأندلسيين ومن بعدهم الموريسكيين (مسلمو الأندلس الذين عاشوا فيها بعد سقوطها تحت الحكم الإسباني) في التاريخ الحضاري لإسبانيا.
في عام 1992 وبينما كانت الدولة الإسبانية تحتفل بمرور 500 عامٍ على “استرداد إسبانيا”، كان خوان جويتيسولو يكتب عن الجانب الآخر؛ فينتقد الاحتفال من الأساس، ويكتب عن مخالفة المعاهدة التي وقعها الملوك الإسبان مع حاكم غرناطة، ويطالب الحكومة الإسبانية بتقديم اعتذارٍ للعرب عما حدث للموريسكيين في محاكم التفتيش.
كان خوان جويتيسولو يؤكد أن ما حدث من طرد وتهجير “بقعة سوداء” و”فصل أسود في تاريخ إسبانيا”، وفي الحقيقة؛ لطالما كتب خوان عن أهمية الدور الذي لعبه العرب والمسلمون في تاريخ إسبانيا وانتقد إنكار التاريخ الإسباني الرسمي لدور العرب في صياغة الشخصية الحضارية لإسبانيا في القرون الوسطى.
كانت إسبانيا وطن خوان وجرحه الدائم، فهو الذي جرحه نظام فرانكو أيما جرح، وعمَّقه ما تلا هذا من تعاملٍ رسميٍّ مع الحقبة التاريخية الإسلامية من تاريخ إسبانيا، وتجاهل تأثير تلك الفترة، فرأى أن نظام فرانكو لم يكن إلا أحد وجوه التعصب الضاربة في الجذور الإسبانية، وردد دائما عبارة الشاعر الإسباني لويس سيرنودا: “أنا الإسباني رغم أنفه”، وكتب عن حبه لوطنه رغم كل الألم.
كان لخوان جويتيسولو علاقات صداقة مع عددٍ من الكتاب والمفكرين العرب؛ على رأسهم إدوارد سعيد ومحمد شكري ومحمود درويش وجمال الغيطاني، وقد أحب الثقافة العربية والإسلامية وعوالم التصوف الإسلامي وكتب أيضًا عن عجز العرب عن الاستفادة من التراث الفكري.
في عام 1976 زار خوان مدينته الأثيرة؛ مراكش، واختار أن يستقر فيها باقي حياته، وهكذا صارت منذ بداية عقد التسعينيات “مدينته” كما كان يحب أن يُطلق عليها، وهناك انشغل بالكتابة والتأليف وقضى وقته الباقي في التجول في ساحة “جامع الفنا”، ليلتقي بأهل المدينة، يحتسي معهم القهوة ويتبادل الحكايا، ويمكن القول بأنه في المغرب كان خوان جويتيسولو يتحرر من وطنه ليتأمله ويكتب عنه بحرية.
والكاتب الذي لا تستهويه الجوائز
في عام 2009 رفض خوان جويتيسولو جائزة القذافي العالمية للآداب التي تبلغ قيمتها 200 ألف دولار، وقال بإصرار إنه يرفضها بسبب مصدرها المالي – الجماهيرية الليبية – وكون معمر القذافي قد استولى على الحكم في انقلاب عسكري سنة 1969، وعندما أعلنت وزارة الثقافة الإسبانية في عام 2008، فوزه بالجائزة الوطنية الإسبانية التي تحمل اسم «دون كيشوت» والتي تمنحها «جمعية الكتاب المحترفين الإسبان» كل عام لأديبٍ إسباني، وتبلغ قيمتها حوالي 40 ألف يورو، بدا غير مهتمٍ بهذا الاستحقاق الأدبي الرفيع، وصرَّح آنذاك أن هذا الفوز كان سيسعده لو جرى قبل 30 عامًا.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2014 أعلنت وزارة الثقافة الإسبانية فوز خوان جويتيسولو بجائزة الأديب الشهير “ميجيل دي ثربانتس”، والتي تحتل مكانةً كبيرةً تضاهي قيمة جائزة نوبل في العالم الناطق بالإسبانية، وحبس المتابعون آنذاك أنفاسهم، لمتابعة موقف الرجل الذي عُرف عنه انتقاده لهذه الجائزة، وعدم اكتراثه بالجوائز بشكلٍ عامٍّ، حتى إن البعض توقع أن يتخذ الرجل موقفًا متمردًا كعادته فيُحرج الملك ووزارة الثقافة برفض الجائزة، لكن خوان جويتيسولو – على غير المتوقع – قَبِل الجائزة، وأكد في حفل الاستلام احترامه الكبير لكاتبه الإسباني المفضل ميجيل دي ثربانتس صاحب الرواية الأهم في الأدب الإسباني «دون كيشوت»، وأنه يعد نفسه «ابنًا شرعيًّا» لأديب إسبانيا الأول.
في حفل تسليم الجائزة “ميجيل دي ثربانتس” في 23 أبريل (نيسان) 2015، ظهر خوان بسترةٍ بسيطةٍ وربطة عنقٍ قديمةٍ دون التقيُّد بالزي الرسمي، ووقف ليلقي أمام الملك الإسباني فيليبي السادس والملكة ليتيثيا والحضور من الكتَّاب والأكاديميين أقصر خطاب في تاريخ الجائزة.
كان الخطاب استثنائيًّا، في 10 دقائق فقط، استطاع خوان تقديم التحية لأهل مدينة مراكش الذين عاش بينهم، والذي يتمنى أن يموت بين أحضانهم؛ ثم تحدَّث عن نوعين من الكتَّاب، الأول الذي يبحث عن الشهرة، والآخر الذي يكتب من أجل الإبداع، مثل كاتبه المفضل ثربانتس الذي مات دون أن تحظى روايته «دون كيشوت» بالشهرة، لكنها مع ذلك بقيت إلى الأبد، ثم حوَّل الدفة وانتقد في خطابه تجاهلَ الغرب لمآسي المهاجرين واللاجئين، ونسي أن يرحب بالملك والملكة.
خوان بلا أرض: نهاية رحلة طويلة
في سنواته الأخيرة عانى خوان جويتيسولو من المرض وأقعده حادث تعرض له في ساحة “جامع الفنا” على كرسي متحركٍ، ورأى البعض أن الكاتب المتمرد خضع لثقل الحياة وضيق العيش، ما اضطره لقبول جائزة ثربانتس، ليضمن فقط مستقبل عائلته، إذ كان يرعى أولاد أخيه الثلاثة، ما سبَّبَ له الاكتئاب إلى جانب أمراضٍ أخرى، حتى إنه كتب عن رغبته في إنهاء حياته بـ«الموت الرحيم» في أبريل 2014: “إذ لا يعقل أن ينفق المزيد على الجسد المنهك، وأن يُحرم أطفاله من هذا المبلغ الذي يضيع سدى في صحةٍ لن تتحسن”، على حدِّ قوله؛ إذ أقنعه صديق ألا يفعل ذلك، رأفةً بأولاد أخيه الثلاثة.
لكن اضطراره لقبول جائزة سبق وأن هاجمها مرارًا، ومن ثم انتحار ابنة زوجته، سببا له اكتئابًا شديدًا، ثم أقعده كسرٌ في الفخذ، عام 2016 عن الحركة، وتدهورت حالته الصحية والنفسية، ليرحل في هدوءٍ عام 2017.
يقول صديقه، الأديب الشهير، ماريو فارجاس يوسا: «إن هذه النهاية الصعبة، والمتشابكة، والتراجيدية، لم يكن خوان ليستاء منها، فقد كانت بطريقةٍ أو بأخرى، تعكس طابعه المعاند، وحياته المؤلمة والمليئة بالتجوال».
ترك خوان جويتسولو أثرًا لا يُنسى بين أهل المدينة العربية التي أحبها، لدرجة سعيه لإعلان ساحة جامع الفنا موقع تراثٍ عالمي، ولا يزال في الانتظار عمل جديد له، فقبل وفاته بعامٍ واحدٍ أودع خوان وثيقة آخر أعماله في مركز “ثربانتس”، وطلب أن تُنشر بعد عام 2031، دون أن يُفصح عن محتوى الكتاب، وذَكر فقط أنه يحمل ذكرياته الشخصية.
إسبانيا بالعربي.