خوسيه مارتي.. الشاعر الكوبي الذي انبهر بالعرب وقاد معارك استقلال بلاده

في مارس (آذار) 2021، وفيما كان فيروس «كورونا» لا يزال يفتك بأرواح كثيرٍ من البشر في كل مكانٍ تقريبًا، فاجأت كوبا العالم بإعلانها إنتاج لقاح محلي للفيروس، أطلقت عليه اسم «لقاح عبد الله»؛ على عكس ما قد يتبادر إلى ذهن الكثيرين، فاسم «عبد الله» هنا ليس تيمنًا باسم عالم عربي أو مسلم مهاجر تمكن من تحضير اللقاح، بل هو يشير إلى عنوان مسرحية أدبية، ألفها شاعر ومناضل كوبي قبل نحو قرنٍ ونصفٍ، خوسيه مارتي، الذي يحمل مطار دولي اسمه، ويُكرم بنصب تذكاري في قلب العاصمة هافانا، فمَن هو هذا الرجل؟ ولماذا يحظى بكل هذا التبجيل والاحترام في كوبا؟ وما حكاية عبد الله الذي حمل اللقاح اسمه.
خوسيه مارتي ترعرع بين الأدب والسياسة
بعد أقل من عقدين على وصول المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبوس إلى السواحل الكوبية، معتقدًا أنها إسبانيا، بدأ الاستيطان الإسباني في تلك الأراضي عام 1511، بقيادة دييجو دي فيلازكويز، وسُرعان ما أقام المستعمرون الإسبان مزارعهم، وأجبروا سكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر على العمل فيها بالسخرة، وحين بدأت أعداد هؤلاء في التناقص نتيجة سوء المعاملة وانتشار الأمراض، استجلب المستعمرون ملايين العبيد من أفريقيا، وكان نصيب كوبا منهم نحو مليوني شخص (يشكل أحفاد هؤلاء نحو 60% من سكان البلاد اليوم).
- كرَّس حياته لاستقلال الجزائر.. من هو الفيلسوف الثائر «فرانز فانون»؟
- حرب الشوارع.. مختصر تاريخ سلاح الثوار والمتمردين الذي شكَّل عالمنا المعاصر
- 4 رموز قادوا حركات التحرر الوطني بالقارة السمراء
مع حلول القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي شهد تحرير العبيد في أمريكا، وحركة سيمون دي بوليفار التحررية التي أدت إلى استقلال كثيرٍ من دول أمريكا اللاتينية، كانت الرغبة في الاستقلال عن المستعمر الإسباني تنمو في نفوس الكوبيين، وبعد عدة انتفاضات فاشلة في بدايات القرن، ثار الكوبيون في عام 1868 بقيادة كارلوس مانويل دي سيسبيديس، وأعلنوا الاستقلال، فاندلعت حرب عصابات عنيفة بين إسبانيا والثوار، فيما عُرف بـ«حرب السنوات العشر».
وسط هذا المناخ المشحون بالعواطف القومية، وُلد خوسيه خوليان مارتي عام 1853 في هافانا، وأظهر منذ الصغر براعةً منقطعة النظير في الفن والأدب، فكان متميزًا في الرسم، قبل أن يوجه مجهوده نحو الكتابة، ونشرت له الصحف عدة قصائد مطبوعة عندما كان عمره 15 عامًا، وعندما بلغ السادسة عشرة، قام بتأسيس صحيفة «الوطن الحر».
لم ينافِس شغف خوسيه مارتي بالأدب والشعر، إلا اهتمامه المبكر بالسياسة، وكما يظهر من اسم الصحيفة التي أسسها، فقد نشر فيها العديد من القصائد والأدبيات الوطنية، ومن بين أعماله كان مسرحية «عبد الله»، والتي كان بطلها عربي مسلم، يخوض ثورةً لتحرير وطنه التخيلي من المستعمر الأجنبي، ويُظهر مارتي في هذا العمل إعجابه بالحضارة العربية والإسلامية، ونقمته على المستعمر الغربي الذي لا يُفرق بين العرب واللاتين في القهر وسوء المعاملة.
أدى تعاطف خوسيه مارتي مع الثوار في كوبا إلى الحكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة، قبل أن يتم ترحيله إلى إسبانيا عام 1872، وهناك واصل تعليمه وكتاباته، وحصل على درجة الماجستير في القانون، ثم انتقل إلى المكسيك؛ حيث واصل من هناك دعواته لاستقلال كوبا، قبل أن ينتقل إلى جواتيمالا، ليصبح أستاذًا للتاريخ والأدب والفلسفة في جامعة «ناسيونال»، وفي تلك السنوات تعرف خوسيه مارتي إلى خوان جوالبرتو جوميز، الثائر الكوبي ذي الأصول الأفريقية، والذي سيصبح رفيقه في النضال طوال السنوات اللاحقة.
مارتي «ينبهر» بالعرب والمسلمين
بحلول عام 1878، كانت إسبانيا قد نجحت في استغلال الخلاف الذي نشب بين الثوار الكوبيين، وتمكنت من احتواء الثورة، عاد خوسيه إلى كوبا بعد إصدار عفو عام عن الثوار عام 1878، ورغم أن «حرب السنوات العشر» لم تنجح في تحقيق استقلال كوبا، ولم تمنح البلاد حتى حُكمًا ذاتيًّا، فقد حققت بعض الإنجازات من بينها بدء حركة تحرير العبيد في كوبا، كما كانت فرصةً لصقل العديد من القادة المهمين لاحقًا، من بينهم خوسيه مارتي.
لم يُعمِّر خوسيه في كوبا طويلًا، إذ سُرعان ما استفزت أنشطته الثورية إسبانيا التي قامت بنفيه مرةً أخرى، فسافر إلى فرنسا ومنها إلى نيويورك، قبل أن يذهب إلى فنزويلا، وكان يأمل أن يستقر فيها، حيث قام بتأسيس «المجلة الفنزويلية»، لكن خطَّها السياسي لم يعجب ديكتاتور البلاد أنطونيو جوزمان بلانكو، ليضطر خوسيه إلى العودة مرةً أخرى إلى نيويورك، حيث قضى أغلب ما تبقى من حياته.
في نيويورك، شرع خوسيه في الكتابة للعديد من الجرائد والمجلات، وكان له عامود ثابت أحيانًا في بعض الصحف، كان يكتب بالإنجليزية أو الإسبانية، وبرغم اهتمامه بقضايا كوبا، وبالتعليق على القضايا السياسية والاجتماعية، فإنه لم ينس الشعر والأدب والنقد الفني، وقد لقيت بعض قصائده استحسان والت ويتمان أهم شعراء أمريكا في ذلك الوقت.
ذلك هو منطقهم: أن يعلي قيمة بلطجي أيرلندي أو مرتزق هندي ممن خدم الدول الأوروبية على حساب عربي من المتبصرين في الأمور، المترفعين عن الدنايا، والذين لا تثبط عزمهم هزيمة، ولا يعرفون التخاذل حيال الفارق العددي بينهم وبين أعدائهم، بل يدافعون عن أرضهم ورجاؤهم على الله *خوسيه مارتي، منتقدًا الاستعمار الأجنبي الذي لا يفرق بين عربي وكوبي.
في شعر خوسيه مارتي، وأدبه، كما في نضاله الثوري، يبدو جليًّا تأثره بالثقافة والحضارة العربية والإسلامية، وإعجابه بها، فإلى جانب باكورة أعماله «مسرحية عبد الله»، كتب كذلك ديوان «إسماعيل الصغير»، تيمنًا بالنبي إسماعيل الملقب بـ«أبو العرب»، ويظهر في أعماله الكثير من الإحالات للثقافة العربية، من بينها إعجابه بالقائد المسلم عمرو بن العاص، والأمير عبد القادر الجزائري وأحمد عرابي ومحمد علي والسلطان الحسن سلطان المغرب والخديوي توفيق، وغيرهم.
وفي كتابه «الشعوب العربية في حدقة خوسيه مارتي»، يروي الكاتب الكوبي خوسيه كانتون نافارو كثيرًا من مظاهر تعلق خوسيه بالعرب والمسلمين، وشغفه بالكثير من جوانب حياتهم، ومن ذلك قوله: «إن العربي البسيط حين يتحسس جواده بيديه كأنه يتحسس أعماق نفسه»، ويبدي كذلك إعجابه بالثورة العرابية قائلًا: «إنها عميقة الجذور، تلكم الثورة المندلعة في بلاد الروائع، موطن أبي الهول والأهرامات؛ حيث السماء وهاجة، والرمال متقدة».
خوسيه مارتي.. الشاعر يسقط في ساحة المعركة
إلى جانب عمله في الكتابة، وشغله منصبًا دبلوماسيًّا للعديد من دول أمريكا اللاتينية مثل أورجواي وباراجواي والأرجنتين، انخرط خوسيه في نشاط سياسي مكثف في الخارج، من أجل تحقيق الاستقلال لوطنه كوبا، وعمل على لم شمل الكوبيين في المنفي، وفي عام 1892، ساهم في تأسيس «الحزب الثوري الكوبي»، واختير زعيمًا له، وقد رفض أن يُسمَّى «رئيسًا» واختار بدلًا من ذلك لقب «مندوب الحزب».
أبدى مارتي نشاطًا كبيرًا في تنظيم صفوف الحزب وجمع الأموال له، وأخذ يطوف الولايات الأمريكية المختلفة لحشد الدعم، والقى الخطب الحماسية وسط العمال، وكانت خطاباته تُقابَل بحماس كبير.
كان مارتي مُعجبًا بالنظام السياسي الأمريكي، وكيف أنه يُعبر عن مصالح الشعب كما رآه وقتها ويتقاطع في كثير من الأحيان مع احتياجاته، لكنه خشي كذلك من مطامع الجارة الكبرى في الأراضي الكوبية حين تحصل الأخيرة على الاستقلال من إسبانيا.
قام خوسيه مارتي بتوحيد جهوده مع كلٍّ من ماكسيمو جوميز وأنطونيو ماسيو، وهما جنرالان قوميان كوبيان برزا خلال «حرب السنوات العشر»، وأخذوا جميعًا يخططون لإشعال فتيل الثورة، وفي يناير (كانون الثاني) 1895، غادر خوسيه مارتي مدينة نيويورك، للمرة الأخيرة؛ إذ حزم أمتعه للعودة إلى وطنه، لقيادة جهود الانتفاضة التي خطط لها، بعد أن كتب وصيته الأدبية، وقام بترتيب أوراقه وكتاباته وأشعاره في مجلدات، تاركًا إياها لبعض رفاقه.
وصل خوسيه مارتي ورفاقه إلى الأراضي الكوبية، حيث اتصلوا بالمتمردين في الداخل والذين كانوا قد بدؤوا الانتفاضة بناءً على تخطيط مارتي، فاشتبكوا مع الإسبان في «معركة دوس ريوس» في 19 مايو (أيار) 1895، وتلقى خوسيه في المعركة نفسها رصاصةً قاتلة أودت بحياته، وكانت تلك ضربةً موجعةً للثوار، بعد أن فقدوا «مرشدهم» و«الأب الروحي» لثورتهم، لكن مقتله كان بداية المعركة لا نهايتها، فقد استمرت الثورة طيلة ثلاث سنوات، حتى عام 1898، فيما عُرف بـ«حرب الاستقلال الكوبية».
مثل العظام بالنسبة لجسم الإنسان، والمحور للعجلة، والجناح للطائر ، والهواء للجناح، كذلك الحرية هي جوهر الحياة. كل ما تنقصه الحرية هو غير كامل – من أقوال خوسيه مارتي
في عام 1898، وبعد أن لحق بها كثيرٌ من الأضرار الاقتصادية نتيجة الصراع بين الطرفين وسيما بعد غرف سفينة أمريكية حاوت اجلاء الرعايا الأمريكيين في كوبا قرابة سواحل هافانا، دخلت الولايات المتحدة الحرب، ضد المستعمرين الإسبان، ليشكل ذلك بداية ما يُعرف بـ«الحرب الإسبانية الأمريكية»، والتي نتج عنها هزيمة إسبانيا، وسيطرة الولايات المتحدة على كوبا، حيث أقامت فيها حكومة عسكرية، تمامًا كما توقع خوسيه مارتي قبل ذلك، لكن الولايات المتحدة اضطرت تحت الضغوط الكوبية إلى التخلي عن البلد، إذ مُنحت هافانا الاستقلال عام 1902، وإن ظلت تلعب دورًا مهمًا في السياسة الكوبية لعقود لاحقة.
يحتل خوسيه مارتي اليوم مكانةً بارزةً في الذاكرة الكوبية، والأمريكية عمومًا، إذ ألهم ميراثه الأدبي والسياسي – على حدٍ سواء – الكثيرين، وقد وصفه الزعيم الكوبي فيدل كاسترو بأنه «كان له تأثير كبير في ثورته» التي قادها عام 1959.
بنت كوبا لمارتي نصبًا تذكاريًّا في ساحة بلازا دي لا ريفولوسيون في قلب العاصمة هافانا، ويكاد لا يخلو إعلان سياحي كوبي عن دعوة السائحين الأجانب إلى زيارة النصب والتعرف إلى سيرة صاحبه، كما أن المطار الدولي في البلاد يحمل اسمه، فضلًا عن أن أغنية «Guantanamera» التي ألفها مارتي، كانت أكثر الأغاني الوطنية شهرة في كوبا لفترة طويلة.
فضلاً عن ذلك، فإن المجتمع الأدبي الكوبي والعالمي لا يزال يتذكر مارتي، فـ«الاتحاد العربي» في كوبا يخصص جائزة أدبية باسم «عبد الله» تخليدًا لذكرى مارتي وتقديرًا لإشاراته العديدة للحضارة العربية، وتحتفل كثير من جامعات العالم بذكرى الرجل الذي يعد «بطلًا قوميًّا» في كوبا حتى اليوم، رغم مرور أكثر من قرن وربع على وفاته.
كما أن منظمة «اليونسكو» العالمية قد أنشأت جائزة «اليونسكو/خوسيه مارتي» الدولية عام 1994 بمبادرة من الحكومة الكوبية إذ تُمنح الجائزة «لمنظمات أو أفراد تكريمًا لما أنجزوه من إسهامات متميزة في إطار الوحدة بين أمريكا اللاتينية، ومنطقة البحر الكاريبي، وبناء ثقافة تكامل، قائمة على احترام التقاليد الثقافية والقيم الإنسانية»، طبقًا لإعلان الجائزة، تكريمًا لرجل حمل السيف والقلم دفاعًا عن استقلال وطنه.
إسبانيا بالعربي.