ثقافة

كرَّس حياته لاستقلال الجزائر.. من هو الفيلسوف الثائر «فرانز فانون»؟

نشرت مجلة «جاكوبين»، صوت اليسار الأمريكي، تقريرًا لـ بيتر هوديس، أستاذ الفلسفة في كلية مجتمع أكتون ومؤلف كتاب «فرانز فانون: فيلسوف المتاريس»، يتحدث فيه عن فرانز فانون ورؤيته للنضال وكيف أثرت الثورة الجزائرية في مسيرته.

وفرانز فانون طبيب نفساني وفيلسوف اجتماعي اشتهر بنضاله من أجل الحرية وضد التمييز والعنصرية، وعمل طبيبًا عسكريًّا في الجزائر أثناء الاستعمار الفرنسي، وانخرط في صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائرية.

وفي مطلع مقاله، يرى الكاتب أنه لم يكن هناك شيء مجرد في رؤية فرانز فانون السياسية للجنوب العالمي (يُستخدَم مفهوم الشمال العالمي والجنوب العالمي لوصف مجموعة من البلدان على أساس الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ويُستخدَم مصطلح الجنوب العالمي غالبًا لتحديد البلدان ذات الدخل المنخفض)، فقد نشأت هذه الرؤية في خضم النضال التحرري الجزائري. ودور فانون في هذا النضال أقنعه بأن الاستقلال الوطني سيكون بلا قيمة دون ثورة اجتماعية.

“مجزرة كبكب”.. حين ذبحت فرنسا 400 عالم مسلم

لقد أثارت الذكرى الستون لوفاة فرانز فانون في الخامس من ديسمبر (كانون الثاني) العام 2021 عددًا من عمليات إعادة النظر في إرثه. وركِّز عديد منها على تقييمه للثورات الأفريقية في كتابه الرائد «معذَّبو الأرض»، الذي أتمه قبل أسابيع من وفاته بسرطان الدم عن عمر يناهز 36 عامًا. ومع أن كثيرين أشادوا بهذا الكتاب باعتباره «الكتاب المقدس لثورات العالم الثالث»، إلا أن الكتاب يشير إشارات عابرة فحسب إلى التطورات في آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، ولا يحاول تقديم تحليل شامل لكثير من حركات التحرر الأفريقية التي كانت نشطة في ذلك الوقت. وكانت النقطة المحورية فيه هي الثورة الجزائرية التي شارك الكاتب فيها مباشرة بعد وصوله إلى الجزائر العاصمة عام 1953.

نقطة الارتكاز الجزائرية

يرى الكاتب أن لدى فرانز فانون سببًا وجيهًا لرؤية الثورة الجزائرية على أنها نقطة ارتكاز وطليعة الثورات الأفريقية. فبينما كان الاستعمار البريطاني والفرنسي مستعدًا لمنح الاستقلال لبعض مستعمراته الأفريقية بحلول أواخر خمسينيات القرن الماضي، كانت الأمور مختلفة تمامًا في الجزائر. إذ ضمَّت البلاد نسبة كبيرة من المستوطنين الأوروبيين الذين تربطهم علاقات وثيقة بفرنسا، وعارض كل الأحزاب السياسية الفرنسية تقريبًا استقلالها بما فيها الحزبان الاشتراكي والشيوعي. وحشدت باريس عشرات الآلاف من قواتها لقمع الثورة، ما أسفر عن مقتل مليوني شخص.

images 3 12
ثورة الجزائر

ورأى فانون أنه إذا هُزمت الثورة الجزائرية أو فشلت في جلب «إنسانية جديدة»، ردًا على تجرد الاستعمار الأوروبي من الإنسانية، فإن الدول الأفريقية المستقلة حديثًا ستخضع لاستعمار جديد خفي ولكن أكثر مكرًا. و«معذبو الأرض» في جزء منه هو احتفاء بالإبداع والتنظيم الذاتي الذي انبثق من الجماهير الجزائرية في كفاحهم المسلَّح الذي دام عقدًا من الزمان. وقال فانون في كتابه: «لا يمر إنهاء الاستعمار أبدًا دون أن يلاحظه أحد، لأنه يؤثر في الحياة ويغيرها، ويحول المشاهد المسحوق في دولة ثانوية إلى ممثل متميز تُلتقط صورته بعظمة في بؤرة التاريخ».

ولكنه في الوقت نفسه أصدر تحذيرًا صارخًا من أن الدول المستقلة حديثًا سوف تتراجع إلى الاستبداد والشوفينية العِرقية إذا فشلت في التقدم نحو ثورة اجتماعية يمكن أن تقتلع الشكل المتجسد للعلاقات الإنسانية الذي يميز الرأسمالية العنصرية. وكما وضعها فانون قائلًا: «إذا لم تُشرَح القومية وتُعمَّق ولم تُحوَّل مباشرةً إلى وعي اجتماعي وسياسي، فإنها ستؤدي إلى طريق مسدود».

توسان لوفرتور.. عبد أفريقي انتصر على فرنسا ومنح هاييتي الاستقلال

فرانز فانون المقاتل

يلفت الكاتب إلى أن فانون لم يذهب في الأصل إلى الجزائر كي ينضم إلى ثورتها، بل ليشغل منصب طبيب نفسي في مستشفى بمدينة بليدة في الجزائر. وولد فانون في جزيرة مارتينيك الكاريبية الخاضعة لفرنسا، ولم يكن يعلم كثيرًا عن شمال أفريقيا، ولم يكن يتحدث العربية.

ولكنه كان سريع التعلم، وما أن أطلقت جبهة التحرير الوطني الثورة في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، حتى انخرط فيها بنشاط بصفته مؤيدًا للثورة أولًا، ثم متحدثًا باسم الجبهة. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إنه منذ ذلك الوقت وحتى وفاته، كرَّس حياته لاستقلال الجزائر.

واحتوت جبهة التحرير الوطني، مثل جميع حركات التحرر، على عديد من الميول السياسية، التي أحب بعضها فانون كثيرًا. وأقام فرانز فانون علاقات طيبة مع سليمان دهيليس، قائد جبهة التحرير الوطني، الذي كان يُنظر إليه على أنه جزء من الجناح الماركسي للجبهة. وهناك قائد آخر أكثر أهمية وهو عبان رمضان، الذي كان اشتراكيًّا علمانيًّا وأصبح المنظم الرئيس لجبهة التحرر الوطني في الجزائر العاصمة عام 1955، وكان مهندس معركة الجزائر الشهيرة في الأعوام بين 1956 -1957. وتحالف فانون مع عبان واعتبره معلمه السياسي.

unspecified 1
فرانز فانون – المصدر : africasacountry.com

وفي وقت ظهور الجبهة إلى العلن نهاية عام 1954، أصدرت بيانًا لأهدافها إلا أنه كان غامضًا بشأن أيديولوجية الحركة وهيكلها وأهدافها النهائية. ولذلك، كانت الانقسامات الداخلية حول هذا الأمر تغلي، وعُقِد مؤتمر سري في الصومام في أغسطس (آب) عام 1956 لحلها. ولم يحضر فانون المؤتمر ولكنه أيَّد المواقف التي اتَُخذت بمبادرة من عبان. ومن هذه المواقف تقديم القيادة السياسية للجبهة على قادتها العسكريين، وعلى أولوية قوى الداخل على تلك التي في الخارج، وكذلك المواقف بشأن القرار الجماعي وحقوق الأقليات.

الانقسامات في جبهة التحرير الوطني

يقول الكاتب إن الانقسامات تفاقمت بين العناصر الراديكالية والعلمانية الاشتراكية في الجبهة؛ إذ فضَّل بعضهم دولة عربية إسلامية. ووفقًا لفرحات عباس، الذي قاد الحكومة المؤقتة لجبهة التحرير الوطني في المنفى من عام 1958 -1961، أن عبان قال للقادة العسكريين في مرحلة ما: «لقد أنشأتم سلطة تقوم على القوة العسكرية، لكن السياسة مسألة أخرى لا يمكن أن يديرها أمِّيون جُهلاء». وقال في مناسبة أخرى: «إنهم يمثلون نقيض الحرية والديمقراطية التي نريدها للجزائر المستقلة، ولا يمكن للمستقلين أن يحكموا دون منازع». وأيَّد فانون موقف عبان إلا أن كثيرين من الجبهة لم يفعلوا ذلك.

وكان أحمد بن بله، الذي أصبح فيما بعد أول رئيس للجزائر المستقلة منذ عام 1962 وحتى 1965، خصمًا لعبان وعارض مؤتمر الصومام. وأجبر عبان على الخروج من قيادة الجبهة بحلول صيف 1957 بمساعدة عبد الحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال، اللذَيْن مَقَتهما فانون، وأخبر صديقًا له أنه لا يمكنهما «تصور أي شيء بعد الاستقلال، وأنهما يتنافسان باستمرار على السلطة».

وعلى الرغم من هذه الاختلافات، بقي فرانز فانون مخلصًا للجبهة ولم يعرب عن انتقاداته علنًا، حتى عندما اختفى عبان بعد توليه السلطة عام 1962 والذي اعترفت الجبهة لاحقًا أن زملاءه قد قتلوه. وظل موت عبان يطارد فانون، ولكنه فطن إلى أنه لو عبَّر عن هذه الخلافات داخل الجبهة علنًا، فإن الاستعمار الفرنسي سيستخدم هذا الانقسام لصالحه. وقَبِل فانون الانضباط الذي تستلزمه العضوية في منظمة ثورية تشارك في الكفاح المسلح ضد عدو قوي.

رؤية فانون للاستقلال

وينقل الكاتب عن أليس شرقي، التي عملت عن كثب مع فانون لسنوات عديدة، وأبلغت عن أحد مخاوفه الرئيسة في السنوات الأخيرة من حياته: «كان فانون قلقًا بشأن شكل المجتمع الجديد الذي سينشأ في الجزائر ما بعد الاستقلال؛ إذ كانت الآفاق قاتمة: هل سيكون هناك برجوازية جديدة مستعدة لتولي الدفة من حيث توقف الآخرون أم أن صراعًا على السلطة سينشأ بين العشائر المختلفة أم تنجح حركة دينية في تحديد طبيعة الدولة».

02 Frantz Fanon lors dune conference de presse du Congres des ecrivains a Tunis 1959 768x533 1
فرانز فانون – مصدر الصورة : tellerreport.com

وكانت هذه المخاوف هي محور حُجَجه في كتابه «معذَّبو الأرض». وكان النضال الجزائري متعدد الطبقات، إذ كان يضم الفلاحين وعمال المدن واللومبنبروليتاريا (مرتبة دون الطبقة العاملة) والبرجوازية الوطنية. ومع الدور المهم الذي لعبته البرجوازية الوطنية في النضال، إلا أن فانون رأى أنها ستؤدي دورًا رجعيًّا إذا وصلت إلى السلطة. وفي فصل مشهور من كتابه بعنوان «مطبات الوعي القومي»، يصور فانون البرجوازية في السياق الأفريقي على أنها طبقة طفيلية تفتقر إلى القوة الاقتصادية أو الأفكار وهي غير آمنة سياسيًّا. وعند وصولها إلى السلطة، ستسعى إلى تحقيق مصالحه الذاتية على حساب الجماهير.

وقال فانون إن هذا يثير «السؤال النظري الذي طُرح على مدار الخمسين سنة الماضية عند تناول تاريخ الدول المتخلِّفة، وهو: هل يمكن تخطي المرحلة البرجوازية بفاعلية»؟ وتشير الخمسون سنة هنا إلى الفترة التي أعقبت الثورة الروسية عام 1905 عندما ناقش الماركسيون مدى ضرورة وجود مرحلة من التطور الرأسمالي تحت قيادة البرجوازية الليبرالية بعد الإطاحة بالقيصرية. وكانت روسيا دولة متخلفة في ذلك الوقت ورأى عديد من الماركسيين أنها لم تكن مستعدة للانتقال الفوري إلى الشيوعية.

وجلب فرانز فانون هذا الجدل التاريخي لإسقاطه على الثورات الأفريقية في عصره مجادلًا أن «المرحلة البرجوازية غير واردة». وقال إنه «في الجزائر لا يمكن تمييز حرب التحرير الوطني عن الثورة الديمقراطية» وهذه الديمقراطية تتكون من جزئين: فهي تعتمد من ناحية على القيم الأساسية للإنسانية الحديثة فيما يتعلق بالفرد من حرية ومساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين وحرية الاعتقاد وما إلى ذلك.

ويرى الكاتب أنه من الصعب تخيل دفاع أقوى من هذا عن التعددية الديمقراطية، إلا أن فرانز فانون ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فقال: «ومن ناحية أخرى، فإن فكرة الديمقراطية التي تعارض القمع والاستبداد تُعرَّف على أنها مفهوم للسلطة. وهي في هذه الحالة تقول إن مصدر كل سلطة أو سيادة ينبع من الشعب»، ومن الواضح أنه كان يعتقد أن الاستقلال الوطني يجب أن يأخذ شكل جمهورية ديمقراطية تكون تحت سيطرة الجماهير وليس البرجوازية.

سياسة اللامركزية

يلفت الكاتب إلى أن فرانز فانون كان يعي أن الانتقال من الوعي القومي إلى الوعي الاجتماعي ومن الهيمنة الاستعمارية إلى المستقبل الاشتراكي لا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها. ولذلك، يجب أن يقوم الاستقلال الوطني على ديمقراطية شاملة تظل راسخة تمامًا في أيدي الجماهير الذين كان معظمهم من الفلاحين (حسب تقدير فانون كانوا يمثلون 80% من السكان). وقال إنه إن لم يحدث ذلك، فسيكون الاستقلال الوطني عبارة عن «قوقعة فارغة».

فكيف تصور كتاب «معذَّبو الأرض» هذا التحول الديمقراطي؟ كانت اللامركزية هي محور هذه الرؤية. وقال فرانز فانون إنه «من أجل ضمان أن تبقى السلطة في يد الشعب وحده، على الدولة أن تطبق اللامركزية إلى أقصى حد ممكن». وأضاف أنه يجب تجنب مركزة كل شيء في العاصمة، ورأى أنه لا يجب أن يقيم المسؤولون في مكان واحد بل يجب أن يتوزعوا في أنحاء البلاد للبقاء على اتصال مع الجماهير الريفية والحضرية. ولكنه لم يعارض تأميم وسائل الإنتاج، إذ قال: «لا يجب أن يأخذ هذا التأميم جانب السيطرة التامة من قِبل الدولة، إن تأميم القطاع الثالث يعني التنظيم الديمقراطي لتعاونيات البيع والشراء وإشراك الجماهير في إدارة الشؤون العامة».

وعارض فرانز فانون فكرة قيام حزب واحد بدور «طليعة» الثورة، وأعلن معارضته لدول الحزب الواحد. وكان يرى أن الأحزاب السياسية مثل الدولة يجب أن تبقى لامركزية إلى أقصى حد. وبصفته سفيرًا لجبهة التحرير الوطني، سافر فانون إلى أماكن عدة ورأى أن الدولة المركزية ذات الحزب الواحد هل التي حكمت عديدًا من الدول الأفريقية المستقلة حديثًا. وكان يدرك أيضًا أن هذا ما كانت الجبهة تطمح إليه إذ أعلنت أنها «الممثل الشرعي الوحيد» للشعب الجزائري. وأدرك فانون أهمية حركة التحرير الوطني الموحدة أثناء النضال من أجل الاستقلال، ولكن هذا الشكل الذي كان ضروريًّا في مرحلة النضال يمكن أن يصبح هو حبل المشنقة بعد تحقيق الاستقلال.

ومن وجهة نظر فانون، فإن الانتقال من الوعي القومي إلى الوعي الاجتماعي لن يترك الأول وراءه بل سيعمِّقه أكثر؛ إذ يقول: «الوعي القومي، وليس القومية، هو الشيء الوحيد الذي سيمنحنا بُعدًا دوليًّا». ومع ذلك، كان فانون مدركًا أن النخب السياسية ستُسِيء استخدام الهوية العِرقية أو القومية لصرف الجماهير عن تحدي سلطاتها وامتيازاتها.

الديمقراطية والتحرر

يلمح الكاتب إلى أنه بعيدًا عن الاحتفاء الكبير بعمل فانون «معذَّبو الأرض»، إلا أن عديدًا من الكتَّاب يتجاهلون عمق التزامه بالديمقراطية الشاملة. ونظرًا لأنه طرح نقده للبرجوازية الوطنية على المستوى العام دون أن يذكر أسماء الجناة سواء من الأفراد أو المنظمات في الجزائر أو الدول الأفريقية الأخرى، فقد يكون من السهل الظن أن هذا الانتقاد ينطبق على هؤلاء المتنازلين للاستعمار الجديد مثل ليوبولد سنغور في السنغال أو فيليكس هوفويت بوانيي في ساحل العاج.

images 3 13
فرانز فانون – مصدر الصورة: newyorker.com

ولكن فرانز فانون اعترض أيضًا على الاتجاهات اليسارية الراديكالية داخل الثورات الأفريقية: «البرجوازية الوطنية، على المستوى المؤسسي، تتخطى المرحلة البرلمانية وتختار ديكتاتورية من النوع الاشتراكي القومي». وفي خضم هذه العملية، تُعرِّض أولئك الذين اعترضوا عليها لـ«للضرب بالهراوات والسجن في صمت ثم دفنهم تحت الأرض».

إن التزام فانون بالحكم الديمقراطي المتجذر في أيدي الجماهير صبغ جميع جوانب كتابه «معذَّبو الأرض». فقد فهم، كما فعل ماركس، أن الشيوعية هي «الحركة المستقلة المميزة بالوعي الذاتي للأغلبية العظمى، والتي تسعى لتحقيق مصالح الأغلبية العظمى». ولكن على عكس أوروبا، كان الفلاحون هم «الأغلبية الساحقة» في أفريقيا وليس البروليتاريا.

وكانت الفكرة القائلة إن طبقة الأقلية العاملة التي يقودها حزب طليعي «سوي» قادرة على تشكيل مجتمع جديد، غريبة تمامًا عنه. وكذلك الحال مع فكرة أن الفلاحين الخاضعين للجيش «الثوري» الذي استغنى عن الحكم الديمقراطي يمكن أن ينجز المهمة نفسها. واتخذ فانون موقفًا جعله على خلاف مع عديد من الاتجاهات السائدة في كل من اليسار الماركسي والقومي الثوري.

ولكن هل كان فرانز فانون محقًا بشأن الطبقة العاملة في البلدان الأفريقية؟ تشير الأدلة إلى أنه كان متسرعًا جدًّا في حذفها، مع أن عديدًا من منتقديه أيضًا كانوا متسرعين جدًّا في افتراض أن الفلاحين لا يمكنهم لعب دور سياسي مستقل. ولكن ما يهم في وقتنا الحاضر هو أهمية مفهومه عن التحول الديمقراطي.

لقد كانت السنوات الستون الماضية مشبَّعة بأمثلة على الاتجاهات السياسية الهرمية والسلطوية التي تجاهلت الحاجة إلى نوع الانتقال الديمقراطي إلى الاشتراكية الذي تصوره فانون. واليوم استوعبت الحركات الاجتماعية دروس هذه التجربة من خلال تبني الأشكال الهرمية لا الأفقية وتبني نقاش عام حر ومفتوح حول جميع القضايا التي تواجه الحركة. وأعادت هذه الحركات بهذه الرؤى التي وُجدت في إنسانية فانون الجديدة، ما جعل فِكره أكثر إقناعًا من أي وقت مضى.

وهذا لا يعني أن فرانز فانون قدم لنا مخططًا لكيفية تجاوز المجتمع البرجوازي، إذ كان لا يزال يفكر في ذلك في عمله الأخير وترك كثيرًا من القضايا دون أن يتناولها. ومع أنه من الواضح أنه كان يضع الجزائر في ذهنه في كل صفحات كتابه «معذَّبو الأرض»، إلا أن الكتاب لم ينتقد صراحةً جبهة التحرير الوطني أو قياداتها أو توجهاتها. وهذا أمرٌ مفهوم، إذ كان الكفاح من أجل الاستقلال لا يزال مستمرًا في ذلك الوقت، وكان فرانز فانون ملزمًا ألا يفعل ما يضعف هذا النضال. إلا أنه يعكس أيضًا ضعفًا في فترته التاريخية.

ويختم الكاتب بالقول: وفي حين أن تقليد المناقشة المفتوحة قد ميَّز الماركسية منذ تأسيسها حتى أوائل عشرينيات القرن الماضي، إلا أن صعود الستالينية دفن هذا التقليد وقمعه ومسحه من ذاكرة الجماهير. وأثَّر هذا الأمر في نهج الثوار في أنحاء العالم بمن فيهم جبهة التحرير الوطني، التي لم يكن لها صلة مباشرة بالحركة الشيوعية التي يقودها السوفييت. ولكننا اليوم ولحسن الحظ نواجه واقعًا مختلفًا يُمكِّننا من فهم المحتوى التحرري لفكر فرانز فانون بطريقة مختلفة تمامًا.

المصدر: إسبانيا بالعربي / ساسة بوست.

أخبار جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *